تقدم القراءة:

الحجّ تشييد للدين ٥

5 أغسطس، 2018

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

إنّ هذه الأيام ـ أيام الحجّ ـ أيام مباركات، فهي سبب للفيض ونزول الرحمة وكل معالم العفو والمغفرة والتجاوز. وما يميّز الأنبياء عن سائر البشر هو أنهم يرون ذلك بشكل صاف وواضح ولذلك هم صفوة الله وخيرته، لأنّ مرآة أنفسهم صافية فترى كل ما يجري في مثل هذه الأمكنة والأزمنة المباركة. هذا الفيض النازل من عند الله سبحانه. والشيء الآخر هو استعدادكم النفسيّ لاستقبال الفيض وإدراكه ولولا هذا الاستعداد عند الإنسان لم يمكن الاستفادة من هذا الفيض.

إذن أنتم بين هذين العاملين القويّين جدّا:

الأوّل: الحال الغيبيّ الذي أكّد عليه القرآن في آياته والروايات والديانات الإلهيّة، وبلا شكّ الحج بالنسبة للإسلام يختلف عن سائر الشرائع الإلهيّة، فسائر الشرائع لم يخصّص فيها زمان ولا مكان ولا يوجد هذا القرار الإلهيّ الملزم لسائر الناس بهذه الكيفية المعيّنة. بينما يمتاز الحجّ في الإسلام بكلّ ذلك، وهذا بلا شكّ لحكمة غيبيّة، ومهما حاولنا أن ندركها فلن ندرك إلّا منافع وبعضا منها. هذا الفيض الإلهيّ يحتاج إلى مستعدّ للقبول. أنتم الآن من ناحية وجدانيّة تجدون أن الإنسان عندما يكون ضيفا على الله تعالى يرى نفسه مقيّدا بقيود كثيرة ويجتنب الخطايا والمعاصي ويدخل عالما جديدا وحياة جديدة، والكلّ يدركها.

لذلك تجدون غالبا أنّ ما يحدث من علائق ومحبّة وروابط بسبب الحجّ المشترك لا تزول، بل يبقى الإنسان يذكر من حجّ معهم وتبقى العلاقات. ودائما أوصي بالحفاظ على هذه المعرفة والعلاقات، لأنّها علاقات تأسّست في بيت الله وفي طاعة الله وفي ضيافة الله.

أثاب الله القيّمين على ضيافة ضيوف الرحمن، ولاشك أنّ لهم من الأجر والثواب ولهم من الاحترام والتقدير لانتخابهم سنّة كان ينتخبها أئمّة أهل البيت (ع).

العلاقة الأصيلة بين الإنسان والدين

تحدّثنا عن علاقة الإنسان وارتباطه بالدين، وقلنا أنّ فرضيّة أن يكون العامل الأساس لانبعاث الإنسان نحو الدين هو الخوف أو الجهل أو حبّ التعلّق بإنسان قويّ مقتدر هي فرضيّة غير علميّة وغير صحيحة. بل إنّ الدين آصل شيء عند الإنسان، آصل من الخوف وآصل من وجود الطبيعة وسابق لوجود مسبّبات الخوف والجهل وما إلى ذلك. هذا بحسب علم الأديان والبحث التاريخيّ العلميّ.

وأمّا إذا بحثنا من جهة الروايات فأيضا نجدها تتطابق مع نتائج البحث العلميّ، وتنتهي إلى نتيجة أنّ الإنسان أوّل ما يدرك نفسه يجد فيها الإيمان بالواحد الأحد وبأنّ هناك مطلق له الهيمنة والتدبير والإدارة والعلم المطلق وهو الله سبحانه. معنى أنّ الأصل هو كون الإنسان موحّدا، وأمّا أسباب الإلحاد والشرك فكلّها عارضة أو هي أمراض يمكن علاجها بإزالة الشبهات وبالأدلّة.

الآيات والروايات حتى تعرض لنا هذه النظريّة تقصّ لنا قصّة الإنسان الأوّل. أوّل إنسان نزل على هذه البسيطة وجد نفسه واقفا في عرفة.

تحدّثنا عن مسألة الوقوف. وقلنا أنّ الوقوف على شيء يعني التأمّل فيه وأن يجعل الإنسان قدرته وتركيزه على استكناه ما ينطوي عليه. فيقول: وقفت على هذا الأمر لأدرك هذا الأمر.

إذن المفهوم الأوّل هو الوقوف. والمفهوم الثاني: عرفة.

معنى(عرفة) ومكانتها من مسيرة الدين

عرفة مفهوم رائع جدا. مفهوم يحكي آخر ما انتهت إليه النظريّات عن النبوّة والإمامة وكل معالم الدين!

ما معنى عرفة وما هي حقيقة عرفة؟ وماذا نستفيد من عرفة؟

عرفة: محلّ المعرفة.

يفرّقون بين العلم والمعرفة. مثلا: الإنسان يتعلّم الفيزياء والكيمياء، لكن متى يعرف الإنسان هذا العلم؟ عندما يطبّقه ويعالج جزئيّاته عند ذلك يعرفه.

الأطبّاء مثلا، ليس كل من درس الطبّ يعرف الأمراض وعلاجاتها، قد يعلم بالطب ولكنه لا يعرفه.

المعرفة ليست مثل العلم. الذي ينفع الإنسان ويجعله لا يسقط هو المعرفة. الانكشاف، مثل حالة نوريّة تحدث في قلب الإنسان، في وجدان الإنسان وروحه. المعرفة هي مدرك في روح الإنسان، فلذلك تعتمد على الجزئيّات، لذلك آدم (ع) علّمه الله الأسماء كلّها. ولكن آدم عندما نزل الأرض وقف في عرفة فعرف كلّ شيء!

آدم علم كلّ الأسماء، لكن لم ينكشف له ولم يعرف الأسماء إلّا حينما رآها متقرّرة في الخارج، جزئيّة جزئيّة.

أوّل ما عرفه آدم

عرف آدم(ع) أنّه ضعيف بين يدي الله تعالى. لذلك يقولون أفضل المعرفة معرفة النفس ومعرفة قوى النفس.

آدم رأى نفسه، روح وعقل وشهوات ومغالبة ومصارعة، لذلك عندما ترك الأَوْلى بتعبيرهم قال: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا﴾ الأعراف: 23، آدم عرف شيئين: عرف أن هناك روح، شيء مقدّس منسوب إلى الله تعالى ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ الحجر: 29 ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾ الشورى: 52. القرآن عندما يتكلّم عن النفس ينسبها للإنسان﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا﴾ ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ البقرة: 54.

النفس فيها جانب الاستسلام للشهوات والكسل واللامبالاة والغفلة، ولكنّها كلّما اقتربت من الروح أخذت خصائص الروح، فتصبح مطمئنّة مثلا. وكلما ابتعدت عن الروح غرقت في شهواتها فتصبح ظالمة. آدم رأى أنّ هذا خطر جدّا، فأخذ درسا مرّا من نفسه. فعرفها بشكل واضح، وسوف لا تغشّه ولا تغلبه ولا تخدعه.

أوّل شيء عرفه آدم هو نفسه، ولذلك هو أوّل الدين، وأوّل التديّن.

الشيء الثاني الذي عرفه آدم

وهو مهمّ جدّا. لمّا نزل إلى الأرض ورأى الجبال والصخور والأودية والمياه والأنهار، عرف أنّ النفس قابلة للتسلط على كلّ ما سواها، وكلّ ما رآه هو آلات مسخّرة لها ويستطيع آدم أن يتمكّن منها ومن كلّ أسباب المعيشة.

توجد روايات دقيقة، عن أبي جعفر (ع) في تفسير العيّاشي عن أبي العباس عن أبي عبد الله (ع): قال: “سألته عن قول الله: {وعلم آدم الأسماء كلها}، ما هي؟ قال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية، ثمّ نظر إلى بساط تحته وقال: هذا البساط ممّا علّمه”(1).

ماذا يريد أن يقول له؟ يريد أن يقول: آدم يعرف كلّ ما يمكن للإنسان الهيمنة عليه. يعرف كل أسباب المعيشة، لا أنه يعلمها، بل يعرف مضارّها ومنافعها، يعرف كيف يطوّعها الإنسان لخدمة التوحيد ويصبح موحّدا بها، وكيف تنقلب بالعكس وتحوّل الإنسان إلى طاغية متجبّر وإلى متكبر ظالم بسبب سوء استفادته واستخدامه لكلّ هذه الأشياء التي حوله.

عرف آدم نفسه ونقاط قوّتها وضعفها أوّلا، وعرف كل الأشياء التي حوله وأنها تسد حاجة الإنسان، وإذا وضع يده عليها بدافع الاستبداد والاستعمار والباعث الاقتصادي سوف يستغلّها ويستغل العامّة بل سوف يجعل الدين الذي هو أعمق شيء في الإنسان لسيطرته وهيمنته على المعاش وعلى الاقتصاد وعلى السياسة ويأتي هو بدين ثانٍ! السلاح الذي يجعله يهيمن على هذه الأشياء هو استغلال الدين.

الأنبياء يريدون أن يُدَيّنوا السياسة، والطغاة يريدون أن يُسَيّسوا الدين.

فرعون أكبر طاغية ذكره القرآن كان يريد قتل موسى(ع) ويريد إبعاده وطرده وتهجيره… يقول للناس حين يتكلم عن موسى(ع): ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾ غافر: 26 أنا خائف على دينكم وليس على رزقكم وإمكانيّاتكم!

(من ملك استأثر) الإنسان عندما يحصل على الإمكانيات يصبغ أموره الاجتماعية بصبغة دينيّة لا أنّه يديّنها.

مثلا: كلّ المواسم والمراسم الاجتماعيّة التي عندنا نريد أن نحوّلها من طبيعتها ونخرجها من الشوائب التي فيها ونحوّلها إلى دين، فنحن نريد أن نُديّن اجتماعيّاتنا.

وأحيانا نريد أن نصبغ دينا على اجتماعيّاتنا وعلى رغباتنا وشهواتنا. ما الحل؟!

الحجّ هو الحلّ لتشييد الدين الواقعيّ

إذا دقّقنا سنجد أن الحجّ هو الحلّ. لا حلّ لتشييد الدين الواقعي الحقيقيّ إلّا الحجّ. الحجّ يمكن أن يكتم و يهذّب شهوة الإنسان وحبّه لحالة التفرّد والبروز وحبّه للجبروت.

هذا الذي حدث لآدم (ع) عندما وقف بعرفة نسمّيه معرفة، وأوّل الحجّ الوقوف بعرفة ثمّ تأتي بقيّة المواقف لكي يصبح دين الإنسان أكثر نضجا، وإدراكه للدين وعلاقته به وقدرته على تشييده وبنائه أشدّ، ويصبح أكثر قدرة على إزالة الموانع والعوائق والطغاة وضرب الشيطان وإعلان الحقّ لأهل الحقّ …

لذلك متى أعلن أمير المؤمنين(ع) آية البراءة؟ في عرفة. ومتى أعلن رسول الله (ص) الولاية بعد إعلانه للبراءة؟ بعد عرفة.

 بعدما يعرف الإنسان أنّ الشوائب والأمراض التي تعرض على النفس وعلى الروح كلّها طوارئ، بعدها يبدأ بعلاج كلّ نقاط الضعف لدى الإنسان والمجتمع والبشريّة جمعاء.


1. المحاسن،ص212

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬101 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...