تقدم القراءة:

ذلك القريب مني

20 يونيو، 2022

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

5
(2)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.

 لرسول الله (ص) وللصدّيقة الزهراء والإمام علي ﴿؏﴾، وللأئمة المعصومين ﴿؏﴾، مراجعنا بشكل عام، قائد الأمة الإسلامية؛ أسمى آيات التبريك بميلاد الإمام الهمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا ﴿؏﴾.

بين المدينة المنورة وخراسان

لن نقف مطولًا عند سيرة الإمام الرضا ﴿؏﴾ حيث يمكن الاطلاع عليها من خلال العديد من المحاضرات والكتب والمقالات التي تحدثت عن هذا الجانب.

ولد الإمام الرضا ﴿؏﴾ في المدينة المنورة، والتي عاش فيها المدة الأطول من حياته الشريفة ومدة إمامته والتي استمرت عشرين عامًا، قضى منها فقط ما يقارب الثلاث سنوات في خراسان والتي استشهد فيها (١)، ورغم قصر تلك المدة؛ فإننا نجد الكثير من آثار وتفاصيل حياة الإمام ﴿؏﴾ موجودة وبكثرة في خراسان، في حين نكاد لا نرى له أثرًا في المدينة المنورة والتي حسب ما يقال فيها قبرًا لأمه ﴿؏﴾.

عالم آل محمد

عُرف عن الإمام الرضا ﴿؏﴾ الزهد، والعبادة، والإحسان للمستضعفين، غير أن أشهر سمة اتّسم بها ﴿؏﴾ هي سمة العلم، فعرف بعالم آل محمد؛ (٢) وقد تفوق ﴿؏﴾ على جميع من ناظره من مختلف المذاهب والأديان في عهده.

كما نجد للإمام ﴿؏﴾ تأسيسًا في المستقبل الإنساني في كل العلوم والمعارف، كعلم الاجتماع أو علم الاجتماع النفسي -والذي اكتشف متأخرًا- حيث نجد الكثير من مبادئ هذا العلم في كلامه صلوات الله عليه وكلام المعصومين (ع) (٣).

فبعد انتشار العلوم التجريبية ونجاحها، حاول الكثير من المسلمين تطبيق نتائج تلك العلوم التجريبية على القرآن الكريم وأقوال المعصومين ﴿؏﴾، سواءً في علوم الرياضيات، أو الفضاء، الكيمياء، الفيزياء، الجيولوجيا، الأحياء وغيرها من العلوم.

ولا زالت تلك المحاولات مستمرة لاكتشاف ومعرفة ما في القرآن الكريم وما هو موجود في الروايات الشريفة حول تلك النتائج العلمية المهمة والأساسية، وعليه نجد كتب مفصلة كتبت في هذا الشأن وهي كثيرة؛ كالطب محراب الإيمان(٤)، العلم والدين، توجد عدة مصنفات تحمل هذا الاسم منها العلم والدين صراع أم حوار؟ (٥)، حوارات العلم والدين(٦)، وغيرها الكثير؛ سيّما في العلوم الفيزيائية والطبية.

الأقرب من الإمام ﴿؏﴾

ولتسليط الضوء على موضوع علم الاجتماع وأهم عناصره ننقل هذه الرواية

روى عن عبد العظيم، عن أبي الحسن الرضا (ع) قال: “يا عبد العظيم أبلغ عني أوليائي السلام، وقل لهم أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلًا، ومرهم بالصدق في الحديث وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوت، وترك الجدال فيما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض والمزاورة، فإن ذلك قربة إليّ، ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضًا، فإني آليت على نفسي، أنه من فعل ذلك وأسخط وليًا من أوليائي، دعوت الله ليعذبه في الدنيا أشد العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين، وعرّفهم أن الله قد غفر لمحسنهم وتجاوز عن مسيئهم إلا من أشرك به، أو آذى وليًا من أوليائي، أو أضمر له سوءًا، فإنّ الله لا يغفر له حتى يرجع عنه؛ فإن رجع وإلا نزع روح الإيمان عن قلبه، وخرج عن ولايتي، ولم يكن له نصيبًا في ولايتنا، وأعوذ بالله من ذلك” (٧)

وهذه الرواية لها أهمية من جهات عدة:

أولًا: من جهة الراوي

كان عبد العظيم الحسني (٨) عالمًا، وقد عاصر أربعة من الأئمة الأطهار، الإمام الكاظم ﴿؏﴾، والإمام الرضا ﴿؏﴾، والإمام الجواد ﴿؏﴾، والإمام الهادي ﴿؏﴾.

وقد أثنى عليه الإمام الهادي ﴿؏﴾ حينما خاطبه بقوله:

“مرحبا بك يا أبا القاسم أنت وليّنا حقًا، قال: فقلت له: يا ابن رسول الله إني أريد أن أعرض عليك ديني، فإن كان مرضيًا أثبت عليه حتى ألقى الله عز وجل، فقال: هات يا أبا القاسم……إلى أن قال: يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه، ثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة” (٩)

كما وترجم له العلّامة الحلّي فقال: “كان عابدًا ورعًا”(١٠)

ثانيًا: من جهة مضمون الرواية

 فهي تؤصل لهوية الإنسان والمجتمع القريب من الإمام ﴿؏﴾، فعندما نزور أضرحة الأئمة ﴿؏﴾؛ نحاول أن ندنو إلى أقرب نقطة من الضريح، وهذه المسألة ليست خاطئة؛ فقرب الإنسان من الضريح أمرٌ حسنٌ في حدّ نفسه؛ ولكن الحديث هنا ليس كيف نكون قريبين بدنيًا وروحيًا من الإمام ﴿؏﴾؛ بل كيف يكون الإمام ﴿؏﴾ قريبًا منّا.

معايير القرب من الإمام ﴿؏﴾

المعيار الاجتماعي

الإمام الرضا ﴿؏﴾ ومن خلال هذه الوصية الاجتماعية يعطينا المعايير التي تجعلنا قريبين منه، ويعرفنا على من هو الشخص الذي يرتضيه، ويبيّن لنا كيف يمكن أن يغدو سلوك الموال منا سببًا في رضاه ﴿؏﴾ عنا.

حيث يقول ﴿؏﴾ لعبد العظيم الحسني “أبلغ عني أوليائي السلام، وقل لهم أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلًا”

“أبلغ عني”: أيّ لكل شيعة الإمام الرضا وشيعة أمير المؤمنين صلوات الله عليهما؛ فهي رسالة بلاغٍ عامة من الإمام ﴿؏﴾ وليست رسالة لفرد ما في زمان ما.

فغاية مجهود كل إنسانٍ مؤمنٍ وموالٍ أن يكون الإمام ﴿؏﴾ قريب منه فهي القيمة الكبرى والشأن الأعظم، وليس أن يكون هو فحسب قريب من الإمام ﴿؏﴾.

ولذلك عندما يتحدث القرآن الكريم عن علاقة الإنسان بالله ﷻ وعلاقة الله ﷻ به يقول: ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ التوبة: 100، ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ المائدة: 54

فكما أن الأصل هو أن ننال محبة الله ﷻ ورضاه عنا، فإن القرب من الإمام ﴿؏﴾ وطلب رضاه مطلوب؛ ولكن الأعظم منه أن يرضى عنا الإمام ﴿؏﴾، وهذه بلا شك أمنية كل موالٍ.

ويقول ﴿؏﴾ في رسالته: “وأمرهم بالصدق في الحديث، وأداء الأمانة، وأمرهم بالسكوت، وترك الجدال فيما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض والمزاورة، فإن ذلك قربة إليّ”

القرب من الإمام ﴿؏﴾ لا ينحصر دائمًا في السلوك الفردي فحسب؛ بل في السلوكيات المجتمعية أيضًا، وهذا يلفتنا إلى مسألة هامة؛ فكما أن هناك أعمال وأفعال لها تأثيرات فردية، هناك أيضًا أعمال لها تأثيرات مجتمعية واجتماعية.

ومؤخًرا ومن خلال تنقيح واكتشاف تلك المعارف وجد ما عرف بعلم الاجتماع النفسي، حيث أن هناك علوم ومعارف لم تكن مدروسة في حياة الأئمة ﴿؏﴾، ولكنها اكتشفت متأخرة.

وهنا سنستعرض بعض تلك الأطروحات الاجتماعية المتفاوتة تأريخيًا، ومن ثم سنسلط الضوء على الرؤية الإسلامية.

ابن خلدون (١١)

يقال إنه أول من نظّر لعلم الاجتماع وسمّاه (علم العمران)؛ حيث ربط بين سلوك وتصرفات الإنسان والواقع الاجتماعي الذي يعيشه، فهو يرى أن البشرية تتأثر بالمناطق التي تسكن فيها؛ فكلما كان العمران والبيئة العمرانية أكثر تطورًا وتقدمًا، كلما كان الإنسان أقل بداوة وأكثر حضارة.

كما ويرى أن هناك فرْقٌ بين أبناء البادية وأبناء القرية وأبناء المدينة؛ فكل واحدٍ منهم له شخصية تتناسب مع العمران الذي يعيش فيه ويتناسب مع سعة المنطقة التي يسكنها؛ بحيث تؤثر على أخلاقياته وسلوكياته.

لقد اعتنى ابن خلدون في نظريته ببيان بعض الظواهر الاجتماعية؛ ففي كل مجتمع نرى فيه ظاهرة اجتماعية، وهناك سبب يؤدي إلى حدوث تلك الظاهرة، وأن أسباب تلك الظواهر الاجتماعية متفاوتة، كأن يكون هذا المجتمع انفعالي، وذاك المجتمع هادئ؛ فالمؤثر هو البيئة التي يعيش فيها الانسان؛ وأن مظاهر تلك البيئة المادية هي التي تُكَون الأخلاقيات الاجتماعية التي تنعكس على الفرد.

ولذا ويجب أن لا نتفاجأ من الفرد الذي ينتمي لأسرة معينة، ثم جاء بعمل لا يتناسب مع وراثته؛ وذلك لأن البيئة والوضع العمراني والمنطقة التي يعيش فيها تؤثر على سير حياته الفردية.

أوغست كونت (١٢)

أحد كبار فلاسفة القرن التاسع عشر الميلادي ومن المتخصصين في علم الاجتماع، حاول استخلاص قواعد رئيسية لهذا العلم، وهو من أطلق على هذا العلم تسمية (علم الاجتماع)

لقد كان يرى أن تأثير شخصية الفرد يقوم على الطبيعة التي يعيش فيها الإنسان؛ لأنها تفرض عليه ظروف اجتماعية، فمثلًا لو عاش الإنسان في منطقة طبيعتها باردة، فسيكون له مزاج خاص وظروف اجتماعية خاصة تجعله لا يخرج في الشتاء، ويخرج في الصيف؛ فتتأثر الأخلاقيات والوضع الاجتماعي والذي بدوره يشكل تلك الشخصيات.

وبعد استعراض تاريخي سريعي وبنحو مجمل نقف على تعريف علم الاجتماع بشكل عام

علم الاجتماع

هو علم يدرس الظواهر الاجتماعية ويحللها وينتزع منها ما هو كائن وموجود في الظاهر؛ فهو لا يقوم بالوعظ والإرشاد؛ بل يصف البيئة الموجودة، ثم يبّين العنصر الأساس الذي يؤثر في تكون هذا الواقع الاجتماعي، وكيف يؤثر فيه.

فعلم الاجتماع يعتمد على تعيين المحور الذي يؤثر في صناعة الشخصية؛ فليست الوراثة أو التربية فحسب هي من تصنع الشخصية؛ بل كل ما له حضور في المجتمع أكثر، كان له تأثير أكثر.

فقد رأى البعض أن العامل الأساس في التأثير في الإنسان هو البيئة والعمران، وقد يكون المناخ؛ ولذلك نرى التفاوت والاختلاف بين شخصيات النّاس؛ فهم صناعة ظروف وعوامل بيئتهم، ولذلك يظن البعض بأن البيئة الاجتماعية تشارك بجزء في أخطاء الإنسان، فيجب أن لا يعاقب لأنه مجبور، وأن المجتمع فرض عليه هذا النحو من السلوك(١٣).

علم الاجتماع الإسلامي ورؤيته حول تأثير المجتمع

يؤمن علم الاجتماع الإسلامي أيضًا أن للمجتمع تأثيره البالغ، وله حصة كبيرة في تشكيل شخصية الإنسان.

فالإنسان يولد وعنده -بالوراثة- مستوىً من التفاعلات والأعصاب، ومستوىً من الفكر والذكاء، ولكن البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها قد تؤثر إيجابًا على ارتفاع وتطور مستوى ذكاء الإنسان، أو تحدّ منه، كذلك الأعصاب فإما أن تتأثر سلبًا لتكون انفعالية حادة، أو تشذب وتهذب، فالمجتمع يؤثر وينعكس على شخصية الفرد.

وبهذه النظرة يرى الإسلام -بخلاف ما ذهب إليه علماء الاجتماع- أن الحفاظ على المجتمع أهم من الفرد، فكوننا نخاف من تأثير الفرد على المجتمع؛ لذا وجب أن تقيد حريته وتصرفاته؛ ولأن الأفراد يتأثرون بالمجتمع، فليس لنا أن نبرر تصرفاتهم، بل معالجتها من أجل معالجة المجتمع.

الإمام المعصوم ﴿؏﴾ المحور الأساس الذي يدور حوله المجتمع

الإمام ﴿؏﴾ يشير -في الرواية السابقة- إلى أن المحور في صلاح المجتمع ووحدته هو الإمام المعصوم ﴿؏﴾ ذاته؛ فهو المحور الأساس الذي يحاول المؤمن أن يكون قريب منه ويلتف حوله؛ فينعكس هذا القرب على المجتمع؛ فكلما كان المجتمع قريب من المعصوم ﴿؏﴾، انعكس ذلك عليه وتأثر به، ليصبح مجتمعًا متلاحمًا يسير بطريقة صحيحة، ولهذا المُدعى أصول في القرآن الكريم والروايات الشريفة.

حيث نجد أن القرآن الكريم يتحدث عن قيمة الجهاد بالنفس، والمال، والإنفاق والحركة في سبيل الله، حيث يقول ﷻ: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾  التوبة: 41

فالآية الكريمة تركز على معنى مهم، وهو إن أثر التخلف عن الجهاد، وترك الإنفاق في سبيل الله، وخيم على كل المجتمع، وليس على الفرد فحسب، فالمتثاقلين عن خدمة الدّين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمتثاقلين عن دورهم في الاشتراك في  العمل الاجتماعي؛ لا يقضون على أنفسهم؛ إنما يقضون على الروح الاجتماعية.

الإنسان الخفيف والإنسان الثقيل

﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ تتباين المعاني في مداليل الإنسان الخفيف والثقيل من خلال الآيات الكريمة

رأى البعض: إن الانسان الخفيف هو الذي ليس لديه ما يربطه من أهل أو بيت ونحوه، والإنسان الثقيل هو الذي لديه بيت وأسرة، والقرآن الكريم هنا يقرر؛ أن ليس هناك فرق، انفروا جميعًا خفافًا أو ثقالًا.

والبعض الآخر قال: إن وضع الإنسان الخارجي هو الذي يجعله خفيفًا أو ثقيلًا.

ورأى آخرون: إن من لديه مال وراحلة فهو الثقيل؛ وبمقدوره أن ينفر، والذي ليس لديه ذلك، فهو خفيف  ليس بمقدوره أن ينفر.

 وعلى كل حال، فلا ينحصر معنى الخفاف والثقال في الوضع والإمكانات الظاهرية فحسب؛ بل وبتوفر الإمكانات الروحية أيضًا؛ فالثقيل حين يخلق له عقله أعذارًا ومبررات ولو كانت واهية، حتمًا ستثقل روحه.

كما لو عزم شخص ما جوارحيًا وجوانحيًا على الالتزام بالصلاة والمحافظة عليها في أول وقتها، أو على حفظ لسانه عن الغيبة؛ ثم أوجد لنفسه أعذارًا وخلق لها مبررات؛ فإن تلك الأعذار ستثقله حتمًا، وستجعله لا يعمل ولا يلتزم بتلك الواجبات، لأن الذي سيتبادر ما هو في الذهن أولًا، وهي المبررات، والتي يتواجد فيه التثاقل عن العمل.

ولذا نرى هنا قول أمير المؤمنين ﴿؏﴾: “تخففوا تلحقوا”(١٤)، أيّ لا تربطوا أنفسكم وتثقلوها بالحجج والأعذار والمبررات، وحاولوا أن تتخففوا من كل شيء كي تصلوا.

يقول أحد المراجع العظام في قوله ﷻ ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾: هذا الأمر يتوقف عليه مستقبل وحياة الجماعة، كما ويتوقف عليه مسار ومصير الفكر الذي تحمله تلك الجماعة؛ لأنه ﷻ يقول: ﴿ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾؛ فهو يخاطب الجماعة بقوله ﴿انفِرُوا﴾، فمَن ينفق ماله في سبيل الله حتمًا ذلك خيرٌ له؛ ولكن خيريته على المجتمع تكون أكبر، فعندما تُدرك معايير الخير والشر؛ سيعرف أن الإنفاق والبذل، وتقديم الخدمات والشأن الاجتماعي ﴿ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.

وعندما لا يكون الإنسان مندفعًا لطاعة الله ﷻ؛ سيؤثر ذلك سلبًا حتمًا على غيره وسيمزق وحدة المجتمع.

ثم يقول ﷻ: ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، فلو قالت الآية الكريمة (لو كنتم تعلمون) ما كانت لتفيد العلم والتنبيه بإمكانية معرفة هذا الخير.

فـ (لو): حرف امتناع لامتناع؛ فهو يفيد امتناع ما دخلت عليه؛ بمعنى أنتم لا تقدرن على معرفة ذلك، لكنه خير لكم.

أما ﴿إِن كُنتُمْ﴾ فهي تفيد أنكم بإمكانكم أن تعلموا، ويمكنكم أن تكتشفوا ذلك، وأن سلوكياتكم الفردية تنعكس على واقعكم الاجتماعي، وواقعكم الاجتماعي هذا سينعكس بدوره هو الآخر على سلوكياتكم الفردية.

عندما نزلت هذه الآية الكريمة وفي ذلك الوقت لم يكتشف المسلمون هذا العلم -علم الاجتماع- ولم يكتشفوا بعد ويدركوا هذه الحقيقة أن الحفاظ على الفكر العقائدي في المجتمع والوحدة الاجتماعية تتحقق بالبذل والعطاء، ولكن ما يستفاد من تلك الآية الكريمة أنه سوف يكتشف هذا العمل ولو بعد حين.

﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ ويضيف هذا المرجع العظيم: أن الضامن الأساس لبقاء أيّ فكر في المجتمعات هو الجهد والجهاد المستمر، الجهاد ببذل المال والنفس؛ فالجهاد بالمال والإنفاق يحتاج إلى فكر وعلاقات وروابط اجتماعية صحيحة، فالإنفاق هو سدّ الحاجة، وصرف المال ووضعه في الموضع الذي يفترض أن تضعه فيه، وهذا يتوقف على الحفاظ على الفكر والانسجام والوحدة الاجتماعية  بالدرجة الأولى. أما بذل النفس -كما يذكر عادة في القرآن الكريم- هو الأخير من نحو البذل والعطاء.

مسألتان في محورية القرب من الإمام ﴿؏﴾

 وهنا نشير إلى مسألتين:

الأولى: محورية الإمام ﴿؏﴾ في التماسك وكونه حقيقة القرب

إن محورية الإمام ﴿؏﴾ تجعلنا جميعًا متماسكين، وإن تماسكنا هذا هو ما يجعلنا قريبين من الإمام ﴿؏﴾ بحسب نص الرواية السابق، فالتفرق والتشتت مما يبعدنا عن الإمام ﴿؏﴾.

وعليه، فكما نحن نتدافع ونتزاحم عند ضريح الإمام الرضا ﴿؏﴾ للوصول إليه؛ كذلك يجب علينا أن نتزاحم، ونتداكّ على إصلاح الروابط والعلائق فيما بيننا، وعلى إرضاء وزيارة بعضنا البعض؛ فالقريب من الإمام الرضا ﴿؏﴾ ليس فحسب من يصل ويقبل الضريح. بل حقيقة القرب من الإمام ﴿؏﴾ في ذلك النحو من الروابط والعلائق التي يريدها الله ﷻ.

يجب أن يكون هذا التجمع على ضريح الإمام الرضا ﴿؏﴾ مثالًا يحتذى به، فنتجمع على الفقير، ومن لديه ضائقة، ومن له حاجة؛ ففي الحقيقة هذه هي الرسالة التي يريد أن يرسلها الإمام الرضا ﴿؏﴾ ويعممها على شيعته ومواليه.

فالإمام الرضا ﴿؏﴾ هو المحور حتى في هذه العلائق؛ فهو المحور الأول في حياتنا؛ كما أن هذه العلائق ما كانت لتكون لولا علاقتنا بالإمام ﴿؏﴾، وهذا أمرٌ هام، ويحتاج إلى تأمل، و يحتاج إلى جدّ وجهاد نفس، كما ويحتاج إلى علم ومعرفة، وإلى إيثار وتضحية، حيث نجده يقول ﴿؏﴾ في رسالته: “وقل لهم أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلًا”، وللأسف فإن سبل الشيطان على أنفسنا ومنافذه كثيرة، فيجب علينا أن نلتفت لئلا يكون الأكبر والأوسط والأصغر علينا سبيلًا.

“ومرهم بالصدق في الحديث وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوت”، والسكوت يعني الإمساك عن الكلام وترك التكلم في أيّ شيء.

إن السكوت اليوم من المواضيع التي تحتاج بالضرورة إلى العلاج؛ لأن الناس لا يكثرون من الكتابة فحسب؛ بل يكثرون من التصوير والشراء وينشرون ذلك في كل القنوات، وهذه تفتح طرقًا ومنافذ للشيطان، وهي بالتالي تبعدنا عن الإمام ﴿؏﴾.

“وترك الجدال فيما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض والمزاورة، فإن ذلك قربة إليّ”

إن إقبال بعضنا على البعض الآخر هو مسألة أساسية، ومفتاح لتشكيل المجتمع الموالي والقريب من الإمام ﴿؏﴾.

فقد يقرر الإنسان عندما يختلف مع الآخرين لو يبتعد بداية عن كثرة الاحتكاك، وأول ما قد يخطر بباله هو الابتعاد؛ ولكن المسألة يجب أن تكون على العكس من ذلك تمامًا، فمن تختلف معه، اقترب منه، وأقبِل عليه أكثر، فإن في الإقبال والمزاورة قربة للإمام ﴿؏﴾، ومن كان قريبًا من الإمام ﴿؏﴾ كان الإمام قريبًا منه.

إن أحد الأسباب في نشوب الخلافات بين الأزواج وفي كثرة الطلاق؛ أو عزوف الشباب عمومًا عن الزواج، هو في عدم وجود واقع اجتماعي متحرك يفرض تكوين وحفظ علاقات أسرية صحيحة ومتينة؛ فتكوين العلائق وحفظها ليس صرف شأن فردي؛ بل هو شأن اجتماعي أيضًا، إن كثرة انشغال الشباب والفتيات عمومًا بحياتهم العلمية أو العملية، سبب في عدم الإقبال والمزاورة والانفتاح بين الأزواج وأفراد العائلة الواحدة؛ فاللقاءات صارت غالبًا ما تنعقد في الأماكن العامة والترفيهية؛ وهذه ليست البيئة الجادة والخصبة التي يمكن أن تنضج فيها هذا النوع من العلائق وبنحو سويّ وقويم. (١٥) 

إن الأصل في الإسلام هو الزواج والنكاح، وتكوين الأسرة؛ كونه حركة اجتماعية؛ فهذه العلائق وإن كان فيها بعد فردي؛ ولكنها مغموسة في البُعد الاجتماعي.

الثانية: الغيرية والابتعاد عن المحور شركًا بالإمام ﴿؏﴾

“وعرّفهم أن الله قد غفر لمحسنهم وتجاوز عن مسيئهم إلا من أشرك به”

قد يتوهم البعض أن العمران والسكن والبيئة، وسعة المدينة، والمناخ، هو الذي يعطي المعيارية للنّاس، ويصحح أخلاقهم، إن البيوت الفارهة الواسعة  قد تنفع في بعض الأحيان في توسيع مسألة المزاج الإنساني؛ ولكن لا أصالة لها في سلوكه؛ فالأصل والأصالة هي للإمام ﴿؏﴾ فحسب وهو المدار والمحور الذي يلتف حوله النّاس.

فمَن يضع غير الإمام ﴿؏﴾ محورًا له؛ فهو في واقعه يشرك بالإمام ﴿؏﴾؛ والله ﷻ لا يتجاوز عمن أشرك به.

“أو آذى وليًا من أوليائي، أو أضمر له سوءًا، فإنّ الله لا يغفر له حتى يرجع عنه؛ فإن رجع وإلا نزع روح الإيمان عن قلبه، وخرج عن ولايتي، ولم يكن له نصيبًا في ولايتنا، وأعوذ بالله من ذلك”؛ فالخروج هنا ليس خروجًا عن عمران المدينة، ولا خروجًا عن مجتمعٍ فضيلته بحضارته المادية؛ بل هو خروج عن مدينة الولاية والإيمان.

وهذه الرواية رائعة -كما هو حال كل كلامهم ﴿؏﴾- كونها تسلط الضوء على أهم عناصر علم الاجتماع، التي بها تُصنع شخصية الفرد، وبها تصاغ آخرته.

نسأل الله ﷻ أن يرزقنا في الدنيا معرفة وزيارة الإمام الرضا (ع) وفي الآخرة شفاعته.


  1. يمكن مراجعة باب ولادة الإمام الرضا ﴿؏﴾ في الإرشاد، للشيخ المفيد، ج2، ص247.
  2. حيث ورد عن الإمام الكاظم (ع) أنه قال لأبنائه: “هذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمد” [إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي، ج2، ص64].
  3. في الفترة الأخيرة أصبح في الحوزة دراسة خاصة لفقه المجتمع أو الفقه الاجتماعي.
  4. لمؤلفه الطبيب خالص جلبي كنجو.
  5. لمؤلفه محمد شمص.
  6. لمؤلفه مهدي كلشني.
  7. الاختصاص، الشيخ المفيد، ص247
  8. مات بالريّ ودفن فيها حسب ما ذهب إليه الشيخ الطوسي في الفهرست، ص193
  9. يمكن الرجوع للرواية كاملة في كتاب الشيخ الصدوق، التوحيد، ص82
  10. خلاصة الأقوال، العلامة الحلي، ج1، ص226
  11. هو أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد ابن خلدون الحضرمي الإشبيلي، عالم اجتماعي، بحّاثة، أصله من إشبيلية، ومولده ونشأته بتونس، أشتهر بكتابه (العبر في ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر)، وهو تاريخ ابن خلدون” واشتهر منه أوله (المقدمة) والتي عدت من أصول علم الاجتماع. الأعلام، [خير الدين الزركلي، ج3، ص330/ عمر كحالة، معجم المؤلفين، ج5، ص188].
  12. عالم اجتماع وفيلسوف فرنسي، هو مؤسس الفلسفة الوضعية، ومن أعطى لعلم الاجتماع هذا الاسم الذي يعرف به الآن.
  13. وهذه النظرة وإن كان فيها جزء من الصحة حول تأثير المجتمع لكنها تجانب الصواب وتخالف النظرة الإسلامية في كون المخطئ لايعاقب لأنه مجبور على فعله.
  14. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج1، ص301.
  15. مستشارة في شؤون الأسرة.

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬167 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...