تقدم القراءة:

فلسفة دعاء وداع شهر رمضان ٢

الخميس 1 شوال 1442هـ 13-5-2021م

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

5
(2)

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

بناء على توصية السيد القائد في قراءة وداع شهر رمضان قبل انتهاء الشهر الكريم، ونزولًا عند طلب الأخوات الكريمات نستعرض جانبًا من فلسفة هذا الدعاء، وأما معاني هذا الدعاء فكلها واضحة، وأقرب ما تكون للوجدانيات؛ بحيث غير قابلة للمس بالشرح(١).

كنا قد تحدثنا عن علّة مخاطبة ووداع شهر رمضان المبارك حيث الوداع لا يكون إلا بين مدركين ذا شعور وإحساس وتعقل فكيف يكون وداع شهر رمضان؟

فلسفة دعاء وداع شهر رمضان المبارك 

١- الموجودات غارقة في وحدانية الله ﷻ (الموجودات ليست إلا مرايا يسطع فيها نور الحق ﷻ) 

يقول الإمام زين العابدين﴿؏﴾ في وداع شهر رمضان: “ثُمَّ قَدْ فَارَقَنَا عِنْدَ تَمَامِ وَقْتِهِ، وَانْقِطَاعِ مُدَّتِهِ، وَوَفَاءِ عَدَدِهِ فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وِدَاعَ مَنْ عَزَّ فِرَاقُهُ عَلَيْنَا، وَغَمَّنَا وَأَوْحَشَنَا انْصِرَافُهُ عَنَّا، وَ لَزِمَنَا لَهُ الذِّمَامُ الْمَحْفُوظُ، وَالْحُرْمَةُ الْمَرْعِيَّةُ، وَالْحَقُّ الْمَقْضِيُّ، فَنَحْنُ قَائِلُونَ: “السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللهِ الْأَكْبَرَ، وَيَا عِيدَ أَوْلِيَائِهِ. السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَكْرَمَ مَصْحُوبٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَيَا خَيْرَ شَهْرٍ فِي الْأَيَّامِ وَ السَّاعَاتِ. السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ قَرُبَتْ فِيهِ الْآمَالُ، وَ نُشِرَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ. السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِينٍ جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً، وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ. السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ أَلِيفٍ آنَسَ مُقْبِلًا فَسَرَّ، وَ أَوْحَشَ مُنْقَضِياً فَمَضَّ”.

ولو نلاحظ أن هذا الوداع وداع المفجع المستوحش المهموم المغموم، وقد ندرك حقيقة هذا الوداع بلحاظ الآيات القرآنية التي تؤكد أن لكل الموجودات وجود حقيقي تسبح لله ﷻ، فهي سابحة في وحدانية الله ﷻ وتنزهه ﷻ عن كل نقص، قال ﷻ ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ النور:٤١، أيّ كل موجود يعرف طريقه للصلاة والتسبيح.

وهذا المعنى بحد ذاته صحيح، وهو من المعارف التي أكدت عليها الآيات القرآنية بكثرة، بل مما تظافرت عليه المعارف الدينية والإسلامية في الفلسفة والعرفان الإسلامي، وقائم على هذه الحقيقة أن كل الموجودات هي آيات الله ﷻ؛ أيّ أن الكون ليس إلا مرايا، والموجودات رسوم تسطع في هذه المرايا، فالموجود الواقعي هو صاحب الصورة الذي تسرب إلينا من خلال البحر والبر والسماء والأرض والإنسان والشجر والحجر والمدر، هذا هو الحقيقة وأما ما يظهر لنا في هذه الهويات من شكل حجر وإنسان وشجر هذا كله سراب، والحقيقة هو ما وراء هذه الصور والقرآن الكريم غلّظ وأكد على إثبات هذه المعرفة كي لا يبقى في نظرنا وجود مستقل إلا الله ﷻ، وهذا هو التوحيد الخالص الذي جاء به محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.

ولو نلاحظ القرآن الكريم عندما يتحدث عن الجبال الرواسي؛ أولًا هو يعطينا صورة كخطوة أولية ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلْأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا﴾ المزمل: ١٤، والكثيب المهيل كالرمل السائل المتناثر، كما نقول: فلانًا أهال التراب على رأسه؛ أيّ ألقاه ونثره، فالمعنى هنا إن الجبال الراسية تتحول إلى ﴿كَثِيبًا مَّهِيلًا﴾، ثم تأتي آيات أخرى تتحدث عن حقيقة الجبال وتقول: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ سورة النبأ:٢٠، البعض يقول ﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ بمعنى صارت، ولكن أستاذتنا الشيخ جوادي آملي لا يقبل هذا المعنى، فيقول: هي من الأصل كانت سرابًا، ولكن الآن صرنا نراها وندرك أنها كانت سرابًا، لأن الضوء عندما يتسرب ويجري على الأشياء يصور لنا الأشياء وكأنها موجودة، فالسراب يعكس الصور الوهمية للأجسام، وكأنها منعكسة عن سطح مرآة كبيرة؛ فالمعنى هنا الجبال لا أنها صارت سرابًا، بل في الأصل كانت سرابًا، ونحن من يتوهم ونظن أنها حقيقة، فهذه الجبال لم تكن إلا مرآة لغيره، فوجوده يحكي الموجود الواحد ﷻ، وكل الأشياء هي كذلك على هذا النحو، نحن نرى البدن الخارجي ونتصور أن داخله حقيقة مستقلة، وهو في الحقيقة ليس إلا آية من آياته ﷻ يكشف لنا الموجود الحقيقي وهو الله ﷻ، ووجود هذا الموجود على نحو الإعارة والإضافة وجود عار  وجود إضافي، إذ ليس لهذا الوجود تحقق إلا بامتداده للوجود النوري لله ﷻ حيث سطع نوره على كل شيء.

وكل ما حولنا هو ناطق عن وجود الله ﷻ، وشهر رمضان المبارك هو أحد هذه الموجودات، ولكنه ذو حكاية أصرح وأوضح في ناطقيته، يقول ﷻ: ﴿أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ فصلت: ٢١، و﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ ليس فقط الإنسان بكونه حيوان ناطق؛ فهذا المعنى علاوة على كونه قرآني فهو منطقي، وليس المعنى عرفاني أو فلسفي، ؛ فكل شيء ينطق بمعنى أنه يحكي عما وراءه، وهو الله ﷻ، وهذا المعنى في نفسه صحيح.

نكات في دعاء وداع شهر رمضان المبارك

هناك نكتتان مهمتان في الدعاء؛

النكتة الأولى:

إضافة وعلاوة على ذلك المعنى؛ فالناطقية في شهر رمضان هي أشدّ وأقوى وأوضح وأصرح بكونه -شهر رمضان- مدركًا بأنه تجلّ لظهور الله ﷻ أشد من سائر الشهور؛ فهو في الحقيقة مدرك لكونه تنزيل لكرم الله ﷻ وعفو الله ولطفه ومغفرته ﷻ، فشهر رمضان ناطق بصفات الله ﷻ؛ بهذا العفو والمغفرة والفيض الإلهي، وهذا العطاء وهذه النعم الربّانية.

كما أن الداعي وهو الإمام زين العابدين ﴿؏﴾ عندما يودع شهر رمضان هو يخاطبه بكونه موجود مدرك لهذه الناطقية، فمن ذا يمكنه أن يدرك ويسمع ويعلم غير من علمهم الله ﷻ كل منطق ﴿عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ النمل:١٦، يقول أستاذنا الشيخ جوادي آملي: ليس مجرد منطق الطير تعلمه ﴿الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ فهناك من يفهم هذا المنطق، أما منطق كل شيء؛ فهو عليه السلام الذي يفهم تمامًا منطق شهر رمضان المبارك ويدرك نسبة تجليّه وتنزله عن الله ﷻ، ومن ذا يكون سوى الإمام المعصوم ﴿؏﴾، كما أن شهر رمضان المبارك في المقابل يفهم منطق الإمام ﴿؏﴾، فالكلام يدور بين مدرِك ومدرَك، وهذا المعنى في نفسه صحيح، ولا يخرج على الأقل كونه احتمال وهو ما استفيد من معاني بعض الآيات القرآنية، وهو ما بنى عليه العرفاء والفلاسفة في حقيقة الوجود، وعارضية الماهية وما إلى ذلك من مفاهيم.

وهذه الجامعية في الأوصاف لشهر رمضان لكل معاني الفيض الإلهي والتي قد ذكرها الإمام ﴿؏﴾، ولذا فكل الموجودات تستحق منا نظرة توحيدية فاحصة وهذه من أولويات الفلسفة التي ننتهي بهذه النتيجة أنه ليس هناك جامد فالجبال تحسبها جامدة، لا يوجد شيء جماد فكل شيء مدرك ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً﴾  النمل: ٨٨  

النكتة الثانية:

وهي مهمة أيضًا؛ فالداعي عندما يدعو ربه ويخاطبه هو دائمًا وفي المقام الأول يريد أن يرتبط بالله ﷻ، فهو من جهة كونه ربه ، هو من جانب آخر بالنتيجة والمحصلة يريد إيقاع هذا النحو من العلاقة، وإيجاد هذه الحلقة التي تربطه بمربوبه؛ فهو ﷻ ربه ومدبره ومعطيه؛ فهذا التدبير الإلهي يكون بما هو ربه لا بما هو ﷻ إله مطلق لا علاقة ولا شأنية بينه وبين عبده. هو هذا لسان حال الداعي؛ وهو يخاطبه لحيثية هذه العلاقة وهذا الارتباط والتواصل، لذا فهو يخاطب الكريم الحليم ويعدد من الأسماء الجمالية والجلالية لله ﷻ، وهذه تعد إضافة واعتبار جديد.

فالنقطة المركزية في الدعاء هو في هذا البُعد الربوبي. فالإنسان يحمد الله ﷻ، لكن هذه النكتة وهذا المعنى الذي أريد أن أضيفه هو في الحقيقة حال الدعاء؛ فنحن في الدعاء نعرض ربوبيتنا على الله ﷻ، وقد ندرك هذا المعنى وجدانًا؛ وهو وارد في الأدعية؛ فنحن لا نبكي أو نتفاعل مع الدعاء إلا عندما نخاطب الله ﷻ ونصل إلى جنبة نسبتنا إليه واعتباره ربنا لا باعتباره الإله الخالق والرازق، ولو أنها كلها محامده ﷻ، فهذه أكبر محمدة يذكرها في الله ﷻ.

أن نسبتتا لله ﷻ، وكما يقول الإمام الخميني في كتابه شرح دعاء السحر الإنسان  إما أن ينظر لنفسه نظرة مستقلة فنقول عنه إنسان أناني، أو أنه ينظر لها نظرة عقلية ونظرة دقيقة وحقيقية وهو أنيته وضعفه وفقره؛ فيعرض ضعفه على ربه، فهو عندما يدعو يريد أن يحدد طبيعة العلاقة بينه وبين الله ﷻ، ويوثق هذه العبودية والربوبية؛ ففي كل صفة يمر عليها في الدعاء ويذكر الله ﷻ هو يريد أن ينتزع منها هذا الرابط بينه وبين الله ﷻ، نتعامل مع الله ﷻ على أنه ربنا بل ربّي أنا فأنا الذي أدعو، وأنا الذي أريد من ربَي نعم أذكر أسماء الله الجمالية والجلالية وصفات الله ولكن أريد فعل الله ﷻ؛ فالدعاء حديث عن التوحيد الأفعالي لله ﷻ لكن لا باعتبار شموله وعمومه لهذا الكون، هذه حقيقة الدعاء هو أن يكون فعل الله ﷻ لصيق بالإنسان باعتبار الله ﷻ ربنا ونحن عبيده.  

وهذا ما نجده في دعاء أبي حمزة الثمالي عندما ترتفع درجة الدعاء وتتمركز؛ فهي تتطابق مع ربوبية الله ﷻ لي أنا شخصيًا ولك أنت كل منا بنحو خاص: “الحَمدُ للهِ الَّذي أدعوُهُ فَيُجيبُني وَإن كُنتُ بَطيئاً حينَ يَدعوني، وَالحَمدُ للهِ الَّذي أسألُهُ فَيُعطيني وَإن كُنتُ بَخيلاً حينَ يَستَقرِضُني، وَالحَمدُ للهِ الَّذي أُناديهِ كُلَّما شِئتُ لِحاجَتي وأخلو بِهِ حَيثُ شِئتُ لِسرّي بِغَيرِ شَفيعٍ فَيَقضي لي حاجَتي الحَمدُ للهِ الَّذي لا أدعو غَيرَهُ وَلَو دَعَوتُ غَيرَهُ لَم يَستَجِب لي دُعائي، وَالحَمدُ للهِ الَّذي لا أرجو غَيرَهُ وَلَو رَجَوتُ غَيرَهُ لأخلَفَ رَجائي، وَالحَمدُ للهِ الَّذي وَكَلَني إلَيهِ فَأكرَمَني وَلَم يَكِلني إلى النّاسِ فَيُهينوني” 

يقول الحمد لله، ويكرر الحمد لله، ولا يزال يحمد الله وينسب فعل الله ﷻ فيه وإليه؛ فيقول: يُجيبُني، يُعطيني، يَقضي لي حاجَتي، أكرَمَني، إلى أن يبلغ إلى أعلى المحامد يقول “فَرَبِّي أَحْمَدُ شَيْءٍ عِنْدِي وَأَحَقُّ بِحَمْدِي”، ولم يقل الله؛ فالله ﷻ إله الجميع، بل ينسبه إليه فيقول “رَبِّي”، فهو يريد أن يصل إلى هذه العلقة، والتي عندها يبلغ قمة المحامد؛ لأنه يتحدث عن ألصق ربوبية بينه وبين الله ﷻ والتي تتمركز عندها العلاقة الرئيسية، والتي تستحق الحمد والثناء.

شهر رمضان المبارك هو شهر المحبوب:

ومن هنا نصل لفلسفة ومعنى إضافي لدعاء وداع شهر رمضان؛ حيث أن شهر رمضان هو شهر الله ﷻ كونه منسوب لله ﷻ “رمضان شهري” (٢)، “الصوم لي”(٣)، فالإنسان يخاطب هذا الشهر المبارك باعتبار هذه النسبة وهذا الارتباط؛ فكونه منسوب لله ﷻ، والله ﷻ محبوبه ومعشوقه وهذا شهر محبوبه ومعشوقه.

ويمكن أن نضرب لذلك مثالًا: فعندما يزورنا ابن صديق لنا أو ابن شخص نكن له الكثير من الحب والود؛ فنحن نحب هذا الولد ونتعلق به كونه منسوب- من باب النسبة- لمن نحب، ونحن ليس فقط تستقبله بأحسن استقبال،  بل ومنذ اليوم الذي يدخل فيه فأنت نعدّ النفس لوداعه، في واقع الحال إننا متعلقون بذلك الصديق، لكن هذا الولد امتداد له.

إذن فهذا الحب الصادق سيجعل منا نتعلق بكل متعلقاته، نحن نريد ذلك المحبوب بالدرجة الأولى، ولكن هذه المتعلقات أيضًا نحن تستقبلها بحب ووله، كما نتألم لوداعها وفراقها.

كذلك البيت المجلس الكتاب القلم، كلها أمور اعتبارية؛ لكن لها بعد عقلائي، وهو الارتباط والعلقة المتشكلة بينها وبين صاحبها وهذه علقة عقلائية وروحية ومعنوية.

وقد استشهدت الصدّيقة الزهراء ﴿؏﴾ في خطبتها بهذا المعنى عندما خاطبت القوم بهذا المعنى: ألا يستحق الرسول ﷺ منكم الإكرام بعد وفاته وانا ابنته ؛كونها ﴿؏﴾ متعلقة فيه ومنسوبة له من باب هذه النسبة استحق الإكرام ويقول النبي ﷺ: “المرء يحفظ في ولده” (٤) فهذا ليس حكمًا فقهيًا ولا شرعيًا ولا تكوينيًا، بل هو يتكلم عن حقيقة وجدانية، فلم يقل ﷺ هذا ليؤسس لهذه الحقيقة؛ بل حقيقة يكشفها لهم، وهذه المسألة لا تحتاج لأحد أن يكشفها لغيره؛  فالإنسان يعرف ويدرك ذلك بنفسه .

هناك بيت من الشعر فارسي يقال:

إن في زمن الغزنوي -وهو أحد الشعراء العرفاء الكبار ولا تستغني مدرسة عن أقواله- يقال كان هناك طلب أن تدهن الكعبة بالذهب وتغطى بستار للزينة؛ فكتب هذه الأبيات مفادها: 

من شدة العشق يريدون طلاء الكعبة بالذهب، وبعد ذلك يزينونها بالرداء، وأنا أرى زينة الكعبة هي مكسية (بضمير الياء) الآتية بعد بيتي وذلك في إشارة للآية الشريفة ﴿وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ البقرة: ١٢٥ 

يقول فعندما  قال الله ﷻ ﴿بَيْتِيَ﴾ ونسبها لنفسه ﷻ؛ أصبح لهذا مذاق خاص، فلماذا التجمل بالذهب، وقد نسب الله ﷻ البيت إليه، فهذه النسبة إليه ﷻ هي التي تجعلنا نعشقها، والتي هي أهم وأعظم وأكبر وأكثر جذابية من الذهب والزينة.

وهذا اعتبار آخر لشهر رمضان المبارك، وإلا فكل الموجودات  هي لله ﷻ وتسبح بحمده ﷻ. 

ولذا فإن الأئمة ﴿؏﴾ عندما يقرأون مختلف الأدعية؛ كأدعية النهار وأدعية الليل وأدعية عند النوم والاستيقاظ، ودعاء عند دخول المكان أو اللبس والشرب؛ كل هذا كونها مقتضى آية من آيات الله ﷻ، وكون هذه الآية ناطقة ومقتضاها أن تجيب هذا الناطق الذي أنطق كل شيء؛ فنحن نجيبه بهذا الذي علمنا إياه أهل البيت ﴿؏﴾، لأن هناك ارتباط بيننا وبينها. 

أمر آخر مهم يشير له أستاذنا جوادي كما وأشار إليه الشيخ مصباح مرات عديدة.

حيث يقولا: إن لسان الأدعية ليس لسان فلسفي؛ كي نعتمد على التحليلات العقلية فيه، فالموجودات في واقع الحال وجودها غير ذاتي بل وجودها ربطي، وهذا الموجود الربطي مرتبط بالله ﷻ، نحن نرى فيها وجود الله ﷻ.

يقول أستاذنا الشيخ جوادي آملي:

لو كان لسان الأدعية عقلي، كيف للعقل يقبل كون الإنسان الفقير كله في ووجوده وذواته وعوارضه حيث كلها من الله ﷻ وهو يخاطب الله ﷻ: “إلهي إن كانَ صَغُرَ في جَنبِ طاعَتِكَ عَمَلي فَقَد كَبُرَ في جَنبِ رَجائِكَ أمَلي، إلهي كَيفَ أنقَلِبُ مِن عِندِكَ بِالخَيبَةِ مَحروماً وَقَد كانَ حُسنُ ظَنّي بِجودِكَ أن تَقلِبَني بالنَّجاةِ مَرحوماً، إلهي وَقَد أفنَيتُ عُمري في شِرَّةِ السَّهوِ عَنكَ وَأبلَيتُ شَبابي في سَكرَةِ التَّباعُدِ مِنكَ، إلهي فَلَم أستَيقِظ أيامَ اغتِراري بِكَ وَرُكوني إلى سَبيلِ سَخَطِكَ”(٥).  

فكيف للإنسان أن يؤاخذ الله ﷻ بعفوه ؟! فهل العلاقة عرضية ؟ وهل العقل يقبل هذا المعنى وهذه التعابير؟! وكأنه يحاسب الله ﷻ “إلهي ما أظُنُّكَ تَرُدُّني في حاجَةٍ قَد أفنَيتُ عُمري في طَلَبِها مِنكَ”؟!

لكن لسان حال الدعاء ليس لسان فلسفة أو كلامي وعلمي، إذ ليس هناك إنسان يستطيع أن يؤاخذ الله ﷻ بأي شيء، لسان حال الأدعية حبي وعشقي، وكل الأدعية هي كذلك، ودعاء الوداع أُخذ فيه لحاظ ماهية الوداع. الإنسان يودع منسوب لمعشوقه. 

وهذه النسبة هي التي تجعل هذا الشهر من حيث كونه منسوب لله ﷻ “شهري” يجعل من هذا الفراق ولهذا الزمان بما أنه متعلق بالمعشوق وظهرت فيه وأسبغ عليه من صفات المعشوق. 

فكرم الله ﷻ المطلق، ورحمة الله ﷻ الواسعة وحنانه وعفوه ومغفرته وستره وإفاضته؛ كلها لا يمكن أن تظهر لنا، ولكي تظهر لا بُدّ أن يكون عبر قنوات؛ وكأن هناك محيط وهذا الشهر كالإبرة التي تتسلل من خلال نقطة حتى تري الناس ما لا يمكنهم رؤيته من بركات وفيض الله ﷻ.

تأخذ نقطة من هذا المحيط تسقي بها هذا المعشوق كالطفل الوليد حيث تكون هاضمته ضعيفة ولو أردنا أن نقدم له الطعام فهاضمته لا تستطيع، ولا بُدّ له من تناوله عبر قناة الأم حيث تتناول الطعام كي يتحول حليبًا يقدر الرضيع على هضمه، وهذا هو شهر رمضان كأنه الهاضمة التي من خلالها ينزل علينا الفيض والعطاء الإلهي حتى يصل إلينا لبنًا سائغًا.

نحن نحب ونتلذذ بهذا اللبن السائغ ولكننا واقعًا نريد المحيط؛ وهذا الشهر الكريم كما ذكره الإمام صلوات الله عليه إذ فيه كل صفات المعشوق التي ذكرها الإمام ﴿؏﴾ فإذن نحن نسلم على الشهر باعتبار نسبته للمعشوق وما ظهر فيه من أيادٍ -لطف وكرم وفيض- للمعشوق.

“اللهُمَّ وَ أَنْتَ جَعَلْتَ مِنْ صَفَايَا تِلْكَ الْوَظَائِفِ، وَ خَصَائِصِ تِلْكَ الْفُرُوضِ شَهْرَ رَمَضَانَ الَّذِي اخْتَصَصْتَهُ مِنْ سَائِرِ الشُّهُورِ، وَ تَخَيَّرْتَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَ الدُّهُورِ، وَ آثَرْتَهُ عَلَى كُلِّ أَوْقَاتِ السَّنَةِ بِمَا أَنْزَلْتَ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَ النُّورِ، وَ ضَاعَفْتَ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَ فَرَضْتَ فِيهِ مِنَ الصِّيَامِ، وَ رَغَّبْتَ فِيهِ مِنَ الْقِيَامِ، وَ أَجْلَلْتَ فِيهِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ”. 

فقدرة شهر رمضان المبارك على حمل الفيض من الله ﷻ  أكثر وأوضح وأصرح كون ناطقيته أقوى وبهذا الأمر بالذات فضله الله ﷻ على سائر الشهور “وَ تَخَيَّرْتَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَ الدُّهُورِ، وَ آثَرْتَهُ عَلَى كُلِّ أَوْقَاتِ السَّنَةِ بِمَا أَنْزَلْتَ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَ النُّورِ، وَ ضَاعَفْتَ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَ فَرَضْتَ فِيهِ مِنَ الصِّيَامِ، وَ رَغَّبْتَ فِيهِ مِنَ الْقِيَامِ، وَ أَجْلَلْتَ فِيهِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ” إذًا بالنسبة للعاشق هذا الشهر -من حيث نسبته لله ﷻ- تكفيه لأن يتعلق به ويحبه ويريده كما يتألم لوداعه، ويكفيه أنه يكشف وينطق بصفات محبوبه فلا شك حينها سيكون فراقه موجع ومؤلم.

وقفة أخيرة مع سروش: 

فبلحاظ المدعى الذي جاء به سروش  للمزيد مراجعة الجزء الأول من فلسفة دعاء وداع شهر رمضان هامش  كون الدّين الإسلامي ورسول الله ﷺ خالٍ من هذا العلوم والمعارف، وإلا لو خلي الإسلام وخصائص رسول الله ﷺ لعكس على مضامين الإسلام من القوة والجبروت والسلطان والحرب، وأن هذا هو ما جاء به العرفاء وأضافوا هذا الحانب وهذه الحيثية -أيّ حيثية الحب والعشق- وقد حاولت الاستماع لعلمائنا وعلماء العامة في الحديث عن سيرة رسول الله ﷺ وكأن المادة الوحيدة التي تجذب البعض منهم هي سيرة حربية القرآن الكريم في حين أن القرآن تكلم عن أخلاق رسول الله ﷺ وارتباطه بالناس، والسيرة الاجتماعية الأخلاقية والفكرية. هامش او حذف العبارة بحاجة للتأكد

ولأستاذنا الشيخ جوادي آملي ثلاثة كتب في هذا المعنى؛ فكيف يفسر لنا سروش هذه الأدعية؟

إذ ليس هناك مانع أن نطبق ما قاله الفلاسفة، كما أن القرآن الكريم قد فسره الفلاسفة بالبراهين العقلية وهذا مما لا نشكل عليه. لكن إذا ما حذفنا عنصر الحب والعشق وحولنا الدعاء إلى لسان علمي لم يعدّ كونه دعاء؛ فهوية وماهية الدعاء لا تتناقض مع العقل، لكن فيها شيء آخر حيث أن الداعي يريد أن يتمركز في عبودية وربوبية الله ﷻ، يريد العلاقة والارتباط الفعلي وهذا في الحقيقة ارتباط عشقي وحبي ارتباط مريد ومراد، فإذن المراد هو المعشوق، وكل ما ينسب إليه معشوق، وكل ما يتصل به يكون معشوقًا ومحبوبًا ووداعه حتمًا سيكون مرًّا.

نسأل الله ﷻ أن لا نخرج من هذا الشهر إلا وقد غفر لنا.


  1. وأما ماسمعته من الشيخ مصباح اليزدي قدس الله سره كانت تحت الترجمة اللفظية تقريبًا إضاءة بسيطة، ولم أسمع كل المطلب. 
  2. عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام)، أنه قال:
    ” إذا رأيتم نارا من المشرق شبه الهردي العظيم تطلع ثلاثة أيام أو سبعة فتوقعوا فرج آل محمد (عليهم السلام) إن شاء الله عز وجل إن الله عزيز حكيم، ثم قال:
    الصيحة لا تكون إلا في شهر رمضان، لأن شهر رمضان شهر الله، والصيحة فيه هي صيحة جبرائيل إلى هذا الخلق، ثم قال: ينادي مناد من السماء باسم القائم (عليه السلام) فيسمع من بالمشرق ومن بالمغرب، لا يبقى راقد إلا استيقظ، ولا قائم إلا قعد” [كتاب الغيبة – محمد بن إبراهيم النعماني – ج١ – ص٢٦٠].
  3. قوله تعالى في الحديث القدسي : الصوم لي وأنا أجازي به. [مجمع الفائدة -المحقق الأردبيلي – ج٥ – ص١٥٥].
  4. أما كان قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) المرء يحفظ في ولده؟ وقد علمت أنه (صلى الله عليه وآله) لم يترك لولده شيئا غيرها؟….. [بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج٢٨ – ص٣٠٢].
  5. المناجاة الشعبانية.

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 135٬689 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاطميون بالانتماء لها ﴿؏﴾ 4.5 (2)

فالمقصود من أهل قم هم الحاملون لفكر وثقافة ومبادئ وأخلاق قم وربما لم يصلوا لها ولم يدخلوها أبدًا، وأما من سكن قم ولم يراعي حرمة السيدة المعصومة ﴿؏﴾ فكان يكذب ويسرق ويهين ويستهين بالمؤمنين، ولا يهتم بأمور المسلمين الكبرى؛ فهو ليس من أهل قم.

فزت ورب الكعبة ٢ 0 (0)

نلاحظ أن أمير المؤمنين ﴿؏﴾ قد أولى مسألة الاهتمام والانشغال بالمظاهر اهتمامًا كبيرًا، وعالج هذه الظاهرة علاجًا يقطع التكاثر تمامًا من النفس، لأن التكاثر يسلب اليقين القلبي العرفاني العملي، أي أن يعمل الإنسان بما يتيقن،