تقدم القراءة:

الحج تشييد للدين ٧

5 أغسطس، 2018

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

اليوم هو عيد الأضحى وهو من أبرك وأهمّ الأعياد الإسلاميّة، والبعض يسمّيه بالعيد الأكبر. الملفت أنّ هذا العيد سُمّي بآخر المناسك في الحجّ، وسنبيّن جانب العيديّة فيه، ولماذا انتخب هذا الواجب من بين واجبات الحجّ ليكون العيد باسمه.

الحجّ فيه طواف وسعي وصلاة خلف مقام إبراهيم (ع). الطواف انقطاع لله سبحانه، ودوران حول التوحيد وتمركز للتوحيد في النفس. الصلاة خلف مقام إبراهيم (ع) هي في الحقيقة تأكيد ومبايعة مع مقامات إبراهيم (ع) ولمواقف وجهود إبراهيم (ع) السعي فريضة مهمّة وأساسيّة وتؤكّد على أنّه ليس للإنسان من الحياة الدنيا إلّا ما سعى. الحجّ فيه عرفة، وعرفة هي الحجّ، وعرفة هي معرفة الله سبحانه والوصول إلى عرفان الله ووجدان الله )وماذا فقد من وجدك؟!)..

إذن لماذا تصبح التضحية والفداء والهدي هو العيد ويصبح يومه يوم العيد؟!

متى تكون الأضحية قربة إلى الله ومتى تكون خسرانا؟!

إذا رجعنا إلى تاريخ الفداء والتضحية وتقديم الهدي إلى الله سبحانه سوف نجد أنّها ليست فقط سنّة إسلاميّة وإلهيّة، بل جرت عادة أغلب الديانات والمتديّنين ومن يعتقد بالغيب أو دين معيّن وحتى في الجاهليّة على أن يقرّبوا أضاحي وما لديهم من إمكانيّات إرضاء لآلهتهم، والكلّ من حيث فطرته يهتدي إلى أنّه يجب تقديم ما يحبّ تقرّبا للآلهة.

لكن هناك خياران:

الأوّل: أن يتقرّب الإنسان بقربان يخترعه هو ويزعمه ويتوهّمه، فيكون سببا لخسرانه.

والثاني: هو القربان الذي يتقرّب به الإنسان بأمر من الله سبحانه وبتكليف وتعيين من الله فيكون سببا لطيران الإنسان وتحليقه وانتقاله من منازل الدنيا إلى منازل الآخرة والغيب. والذي جعل هذا اليوم بعد التضحية عيدا هو هذه النتيجة التي سوف نتحدّث عنها.

القرآن الكريم يذكر الذين قربوا أبناءهم وما يملكون لله بزعمهم ولكنّهم خاسرون ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ(140)﴾ سورة الأنعام. إذن هناك فداء ولكنه سبب للخسران والضلال والانحطاط وهدم التوحيد وهدم الدين.

أضرب لكم مثالا سريعا: الدواعش حينما يفجرون أنفسهم ويتركون أولادهم وأموالهم ماذا نسمّي فعلهم؟! هذا سفه لأنه بغير علم وقد بني على جهل.

الأضحية في تاريخ البشريّة

إذا تتبعنا تاريخ القرابين والتضحية سنبدأ من قصّة ابني آدم. لم يكن على وجه الأرض غير ابني آدم قابيل وهابيل ـ القرآن لم يسمّهما ـ ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْمِنَ الآخَرِ﴾ المائدة: 27 فطرتهم هدتهم، أو ربما قربهم من نبي الله آدم (ع) جعلهم يعرفون أن الإنسان إذا أراد أن يعرب عن غاية ارتباطه بإلهه وربّه فعليه أن يقرّب قربانا {فتقبل من أحدهم ولم يتقبل من الآخر} إذا أكلت النار القربان فقد تقبله الله، وإذا لم تحرقه النار فهذا يدل عندهم على أن الله لم يتقبله… ﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ حسد أخيه! هذه قصة الإنسان باختصار. قال: ﴿قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ المسألة مسألة تقوى. الذي يريد أن يقدم لله هدية فلابد أن تكون بصفات معينة وبكيفية معينة ولن يتقبلها الله تعالى مع ذلك إلا من المتقين.

قصة الفداء والتضحية لم تقف عند ابني آدم بل توارثتها البشريّة.

من أوضح الديانات التي تركز على مسألة الفداء والأضحية هي اليهودية. اليهود يشبهون المسلمين إلى حدّ بعيد، وعندهم شروط تشبه شروطنا، هم يضحّون بنوع معين من الطيور وبالمواشي والإبل ـ نحن لا نضحي بالطيور ـ ، والأضحية واجبة عندهم على كلّ شخص ـ نحن تجب عندنا على الحاجّ فقط ـ. بل حتى محرقة اليهود التي كانت على يد الألمان بزعمهم يسمّونها (هولوكوست) أي: المحرقة المقدسة، فيعتبرونها محرقة ولكنها فداء لليهود وهي مقدسة.

بغض النظر عن صحة التاريخ واستقامته من عدمها لم تزل الأضحية موجودة في تاريخ الأديان الإلهية وغيرها.

لماذا يأمر الله بذبح إسماعيل(ع)؟!

القرآن الكريم ينصّ على أن إبراهيم (ع) رأى في المنام أنّه يذبح ابنه إسماعيل (ع) قربة لله تعالى، وقد تكرّر هذا المنام، وتكرّره يدلّ على أنّ الذبح أمر حتميّ من الله وهو ملزم به.

الله سبحانه أرحم الراحمين وهو ألطف وأرحم وأحنّ على الإنسان من أمّه وأبيه فكيف يأمر أبا أن يذبح ابنه وهو في عمر الثالثة عشر؟! ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ الصافات: 102 يقال أن سنّ السعي هو السن الذي يكون الولد في خدمة أبيه، محبوبا لديه، قد بدت عليه علامات الفهم والاستيعاب وتكون علاقته بأبيه وأمه وأسرته قويّة…فما الحكمة من أن يأمر الله بذبحه؟!

المسألة لا يمكن تحليلها تحليلا عقليّا منطقيّا، لا يمكن تحليلها إلا من جهة واحدة وهي الاعتقاد بوحدانية الله، وأنّ هذا الأمر إذا قطعنا بصدوره عن الله تعالى فهو مقبول، والعقل يغيب في حضرة العشق الإلهيّ التامّ، وفي مرتبة نهاية وغاية التوحيد كالتوحيد الموجود لدى نبي الله إبراهيم (ع). فإذا طلب منه أن يضحّي بابنه الذي هو أعزّ وأحبّ الأشياء إليه، وامتثل لهذا الأمر وضحّى به، فهذه غاية ونهاية تثبيت وتشييد معالم التوحيد، لأنّ أصول التشييد لمعالم التوحيد لا تكون إلّا بتشييد الإنسان الكامل والمنقطع لله تعالى، إنسان قطع ارتباطه بأعزّ الأشياء إليه. ولذلك إبراهيم (ع) هو أعظم ثروة بشريّة وقد لبّى هذا النداء الإلهيّ. طبعا هو لم ير أنّ إسماعيل (ع) قد ذُبِح فعلا وإلا لربّما ذبحه، بل رأى أنّه يذبحه.  

لماذا يوم التضحية عيد؟!

بهذا الموقف الإبراهيميّ صارت كلّ ذبيحة يجب أن تذبح لوجه الله وباسم الله حتى تكون طاهرة مذكّاة ويجوز أكلها ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ الأنعام: 121.

في الدين الإسلامي نجد أن الحجّ هو تعميق لارتباط جذور الإنسان بالتوحيد حتى يتشيد ويُشيد الدين. والدليل على ذلك أنّ هذا اليوم الذي تقدّم فيه الأضحية والقرابين قربة لله هو يوم العيد. لماذا عيد؟!

الإنسان عندما يصل إلى تقوى الله وإلى محبّة الله فإنّه يعيّد. يعيّد عندما يصعد على كلّ رغباته وشهواته وما يعزّ عليه ويقدّم الغالي عنده لله سبحانه، بهذا يكون قريبا من الله، ويوم العيد هو يوم هذه التضحية التي تعني قطع المراحل إلى الله. منذ أن دخل حاجّا طاف بالكعبة وصلى وسعى وذهب إلى عرفة ثم ذهب إلى مزدلفة وازدلف من الله ثم بلغ الأماني وبات بمنى ثم لم يبق من هذا الإنسان شيء يعبر به إلا أن يعطي الله جلت قدرته الهدي وهو الغني، وإذا كان متقيا فسيصل إلى الله ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ﴾ الحج: 37 ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ آل عمران: 92 ولا شك إنّ الإنسان العاقل لا يلقي بماله وإمكانياته في البحر وإنما يضع ماله لشيء أعلى وأسمى منه.

عندما يقطع الإنسان روابطه وعلاقاته بكل ما يعزّ عليه ويقدّمه فداء لله ويرتبط بالله عند ذلك يحقّ له أن يعيّد ويلبس الجديد ويبتهج ويفرح، لأنه وصل إلى مرحلة (البر). البِر، مثل البَر، يعني السعة والاتساع في الذات، الإنسان إنما ينبسط ويتسع وجوده ويحقّ له أن يفرح عندما يترك كل شيء ويتمسك بالله سبحانه.

إذن ارتباط العيد بيوم التضحية لأن الإنسان يكون قد قطع مراحل ومنازل حتى وصل إلى حالة الجزم بأن يكون كل شيء تحت قدميه مقابل تشييد الدين وتشييد الفداء والتضحية في سبيل الله سبحانه.

طبعا من الناس من لا يعطي من ماله وإمكانياته، ويتصوّر أنه رابح عندما يحتال على الدين وبالآلات الفقهية ليتخلص من البذل في سبيل الله تعالى. هذا محتال بالدنيا على الآخرة. هذا شدّ ارتباطه بالدنيا وقطع ارتباطه بالآخرة. أصلا ما المراد من الزكاة والخمس ومن أن يصرف الإنسان وقته في الحجّ ويصرف إمكانياته ونومه وصحته ويضبط أعصابه ولا يجادل ويسعى للأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة وأخيرا يضحّي في سبيل الله؟! المراد منها أن ينشدّ للآخرة ويقفز على الدنيا. يوم التضحية والفداء دلالة على أن الإنسان استطاع أن يقفز ـ ربما التعبير كنائي ـ أن يصعد ويعتلي وأن يقطع جميع المنازل لكي يصل إلى هذه المسألة {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ، {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ}.

إذا أدّى المناسك والأعمال بقصد التقرب إلى الله ملتزما بأوامر الله بلا أن يحقّق لكي يعرف بالدقة والمنطق ما حقيقة المراد منه، وإنما فقط يريد أن يعرف ماذا يريد الله منه ليعمله، وإن لم يفهمه، لأن معالم الحجّ لا يمكن أن يفهمها في الدنيا وإنما يفهمها في الآخرة.

بعد كل هذا يحقّ له أن يكون له هذا اليوم عيدا، فما أسعد الإنسان حينما تصل هديّته فعلا لله، وتصل تضحيته وفداؤه لله، ويكون قد فدى التوحيد وفدى دينه وعقيدته.

الناس في غير الحجّ يضحون حتى تقضى حاجتهم، وتعالج أمراضهم…لكن في الحجّ فقط يقصدون أن ينالوا رضا الله سبحانه. لذلك يوم تقديم الأضحية هو عيد من أكبر الأعياد وحقّ لكم أن تفرحوا بهذا الفضل وهذا الفيض واللطف والعناية واختصاص الله لكم بأداء هذه الفريضة. وأسأل الله أن لا يحرمنا من صالح دعائكم ودعاء صالح المؤمنين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬342 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...