تقدم القراءة:

معصومة في سماء العصمة

8 يوليو، 2019

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

4.3
(3)

مقام المعصومة (ع) مهد العلم والمعارف الواقعية والإسلاميّة الأصيلة

الحديث عن السيّدة المعصومة (ع) له أبعاد عدة، ومن أهمها: أن لهذه السيّدة في ثقافة أهل البيت (ع) وعند الشيّعة بشكل خاص كرامات ومقامات رفيعة وتأسيسية وعالية قد لا نجد لها نظيرًا ولا مثيلًا إلا عند بعض الديانات كالمسيحية في شأن السيّدة مريم (ع)، وامرأة عمران … 

والحديث في مثل هذا اليوم عن موقعية المرأة في ظل هذا العبث وهذه الفوضى وهذا الخلط أمر مهم وتأسيسي، ويحتاج إلى أبحاث ومدارسات كثيرة.*

 السيّدة المعصومة (ع) بُلِيت بما أشارت له الآية الكريمة في قوله جل وعلا: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ علَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ النساء: 54، فبحسب التاريخ أن بني العبّاس كانوا أحد أسباب القضاء عليها (ع). ونحن وإن كنا لم نشهد السيّدة المعصومة (ع) ولم نشهد هذا الفضل، ولكن ما نجده الآن من آثار وبركات هذه السيّدة الجليلة (ع)- من خلال موقعية قمّ المقدسة باعتبارها دارًا للمعرفة وأمّا لقرى الهداية والاهتداء، وبعيدًا عن الروايات التي تتحدث عن كرامتها على الله سبحانه وتعالى أو تلك التي تتحدث في شأن قمّ- إلا أننا نستفيد من القاعدة العقلية القائلة: (المؤثر أقوى من الأثر)، والمؤثر أشدّ وجودًا من الأثر وأسطع نورًا منه؛ فهذه الكرامات المنقولة عن السيّدة المعصومة (ع) ليست أساطيرًا، وليس من المعقول أن يُجمِع مثل هؤلاء العظماء والكبار والمحقّقين وأهل العقل والعلم والمعرفة على وجوب احترامها وتقديرها وعلو شأنها، إلّا لما رأوا من الكرامات الكثيرة منها بعد شهادتها أو موتها -سلام الله عليها- ، فإن أحد سبل اكتشاف مقام إنسان ما أو معرفة قيمته هو معرفة أثره في الحياة الدنيا.

ورد عندنا في الرواية عن الإمام الصادق(ع): (تدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم) (1)

ونحن نعلم أن الشفاعة مقامٌ رفيعٌ وعالٍ لا يناله إلا شخص ذو وجاهة عند الله . وبغض النظر عن تلك الروايات الواردة في شأنها سلام الله عليها -فليس البحث هنا تحقيقي ولا كلامي أو تاريخي، وإنما هو ميداني خارجي- ، لو لم تكن السيّدة المعصومة (ع) في قمّ هل كان سيؤول أمر هذه المدينة إلى أن تكون مدينة العلم والمعرفة كما هي عليه الآن؟! إن هذا الحضور للسيّدة المعصومة (ع) هو الذي انتهى بقمّ إلى هذه المعارف الخاصة والقيمة الرفيعة.

إذا ذهبنا إلى أي جامعة عالمية لها اهتمام بالعلوم التجريبية أو الطبية أو الفيزيائية لا نجد أن لها اهتمامًا بتلك العلوم التي تدّرس في قمّ المقدّسة، وعلاوة على ذلك فهذه العلوم التجريبية بذاتها لا تسمو لتلك العلوم التي تدّرس في قمّ حتى اليوم، وهي علوم معرفة النّفس ومعرفة إمكانيات الإنسان الواقعية، فما الفائدة المرجوة في أن يعلم الإنسان ما هو تحت البحار وماذا يوجد في أعماقها، وطبيعة هذا التراب الذي يمشي عليه وما هي العناصر الموجودة في باطنه؟! نعم، هذه العلوم قد تكون مهمة، لكن لا تقاس بعلوم معرفة الإنسان نفسه ومراتبه وأن يعرف نقاط ضعفه ومواطن قوته، وأن يدرك ماذا يجري في أعماقه، وهذه هي العلوم الإنسانية التي يركز عليها الآن وفي المقام الأول في محضر السيّدة المعصومة (ع) وهي دليل على أن الإنسان والمؤمنين خاصة قد بلغوا أعلى الدّرجات في الوصول إلى أعلى المعارف، وقد ورد عن أمير المؤمنين: (ع) (أفضَلُ المعرفَةِ مَعرفَةُ الإنسانِ نفسَهُ) (2).

ومن خلال التتبع لبعض الروايات المذكورة في هذا المجال سنجد أن هناك فرق بين هذه العلوم وهذه المعارف المقدّسة وبين علوم تأتي بدرجة ثانية أو ثالثة، نعم هي علوم تحظى بقدر من الأهمية والحاجة لها من أجل عمارة الأرض ولتلبية احتياجات الإنسان المادية، لكنّها غير مختصة بتعمير الذات الإنسانية وهي الأهم وبيانها هو دور الأنبياء وهو ما ظهرت به كرامة مثل السيدة المعصومة (ع).

الحرية بالعقل والقيم والاتزان الباطني في مقابل التحرر من العقل أو التقليد الأعمى

يشير ابن سينا إلى قاعدة يقسم النّاس بها إلى ثلاثة أصناف، سنتناولها بشكل مختصر، -علّنا نلتفت إلى هذه الكرامة التي انتشرت وتجلّت من مقام السيّدة المعصومة (ع)-، وهذا التصنيف نراه موجودًا في كلّ المجتمعات ويتكرر دائمًا، وهو على النحو التالي:

الصنف الأولهم الذين يبنون قراراتهم وعلومهم ومعارفهم على العرف السائد العام، وعلى البيئة والتواتر العملي العرفي، فالتواتر الاجتماعي عندهم هو المعيار في تشخيصهم للحسن والقبح، وقدرتهم على تحديد العلم والعرف، فهؤلاء قد يكون عندهم عمل ما أو سلوك ما في زمن ما قبيحا وغير مرضٍ أو غير مقبول، ولكن وبالتدريج -وكما يفعل الاستكبار والاستعمار وأصحاب المخططات الكبرى اليوم- يبدؤون بإزالة هذه الحالة من عدم استحسان العمل وعدم مقبوليته ورفض المجتمع له، أو على عكس ذلك تمامًا إذ يقومون بإزالة استحسان الناس لعمل ما تدريجيًا من أذهانهم ويصورونه للآخرين على أنه عمل ناقص. وكمثال على ذلك كنا في السابق ننظر للمرأة ربة البيت والتي تصب جلّ اهتمامها على أبنائها وأسرتها هي امرأة تقوم بعمل شريف وعظيم، أما اليوم فقد تبدلت تلك النظرة، ففي حال لا يكون لديها إلى جانب هذه الوظيفة الأساس وظيفة أخرى قد تخجل وتشعر بالنقص أن يقال عنها أنها ربة بيت، فما السبب يا ترى؟ ومالذي قد تغير؟ فهل تبدلت القيم؟! أم حدث تغيير في المعنى؟! أم أن التغيير يسري وبالتدريج عند مثل هؤلاء البسطاء -إن صح التعبير- والذين قد يتأثرون بالتيارات والأمواج الجارفة والتي قد لا تتيح لهم أحيانًا المهلةً للتقييم ولا حتى برهة للتفكير والتأمل، وفي الحقيقة هذه مسألةٌ خطيرةٌ جدًا تنفث وتفتك بالمجتمعات الضعيفة والهشّة والرّخوة والتي لم تبنِ مبادئها عن علم وعن معرفة، وهو أمر في غاية الخطورة، فهذه الفئة هي التي أحدثت في الأمة الإسلامية ما أحدثت بعد وفاة رسول الله (ص)، حين تسلّم وأمسك بزمام الأمر من استطاعوا أن يقودوا ويوجهوا هذه الأمة يمنة وشمالًا، فما أسرع ما وصل الحكم إلى بني أمية وبني العباس وبالتدريج نزعوا أقنعتهم وكشفوا واقعهم المنحرف والمضلل والمتجرئ على الله ورسوله (ص) والضارب بعرض الحائط كل منظومة القيّم الإسلامية والإنسانية، حيث قبلهم المجتمع، ولم يعترض عليهم باستثناء تلك الجماعة التي كانت تعدّ -في عرفهم- المعارضة وتمثل الوجه الآخر من الطهارة والقيمية وهم آل بيت محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ولا عجب، فإن هذه الأمور لا تأتي دفعةً واحدةً، وهذا التغير لا يأتي بين عشية وضحاها، هو يبدأ كنسمة الهواء التي تهبّ من اليمين والشمال، وتأتي من فوق وتحت، فيتسلل أثرها بينما يكون الآخرون غارقون أو غافلون لا يفكرون في الحقيقة؛ لأنهم يتنفسون ضمن هذا المناخ، فهم لا يجدون أن هذا الهواء قد خبث أو أن هذه الريح التي هبت غير طيبة، وهذا الأمر يحتاج إلى وعي وبصيرة، فليست المسألة مسألة حاسة بالأنف، وإنما هو إحساس ينبعث من الباطن، ومثل هذه الفئة لا يمكن لها أن تمثل النّمرقة الأساسية والمركزية في الرموز الدينية والإسلامية خصوصًا بالنسبة للمرأة.

أما الصنف الثاني: والذي يتحدث عنه ابن سينا فهم الأحرار، وهؤلاء لا يقلدون أحدًا، وحريّتهم ليست من وحي الجهل، فكثير هم من يدعون أنهم أحرار -كما سوف يأتي- ولكنها تلك الحرّية المدعاة من وحي الجهل والانفلات، أما هؤلاء -الأحرار فعلاً- ليسوا كذلك، فهم أحرار من وحي العقل والقيم والمبادئ، ويرون العيب لشدّة جلائه في عين بصيرتهم أظهر وأوضح  ولو اجتمعت كل الظروف والمجتمع على غير ذلك، بل حتى ممن يتصورهم الآخرون بأنهم عقلاء المجتمع  فلو اجتمعوا مثل هؤلاء لحرفهم عن مبادئهم فهم لا يميلون باتجاه الظروف بل على عكس ذلك فهم من يميّلون بالظروف ويميلون بالمجتمع وينحرفون به بعيدًا عن أمواج الفساد والانحراف وعن عواصف الجهل؛ هؤلاء هم الأحرار بلا انفلات، مفكرون بلا جربزة، وشجعان بلا تهور، وهذا كله من فضل الله ؛ لذا كان أهل البيت (ع) محسودون بسبب فضل الله ؛ الذي فضلهم على العالمين. وإذا ما قارنا هذا المعنى بواقع الحال في العهد الأموي أو العباسي سنجد المرأة في ذلك الحال والمحيط تزداد انفلاتًا وتزداد فسادًا وتكاد تغرق وتبتعد عن المشروع الإلهي لرسول الله (ص)، لهذا نجد النّاس يفرقون بين أمثال السيّدة المعصومة (ع) في عصمتها وطهارتها وعلمها وبين من هم أدنى منها مرتبةً وشرفًا، لأنه -وكما يقال- إن هذا العلم وهذه المعرفة لا تقبل الانسلاخ. فنحن أمام نوعين من العلم: علم كالقشر والجلد وهو ما عبّر عنه الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا﴾ الأعراف: 175، فسرعان ما ينسلخ صاحبه عن آيات الله سبحانه وتعالى، وقد يكون العلم نتاجًا للعفة ومعرفة الذات، ونتاج الغور في إدراك طبيعة الإنسان وواجباته.

لذا فإن هذه الطائفة من النّاس هم من يصنع الواقع، نعم هم يتحركون بقدر ظرفهم، وهذا معنى كونهم متواضعون صلوات الله وسلامه عليهم، لأن التواضع هو ما يقابل التبرج والبروز والهوى وحب الظهور؛ لذا فإن معرفة الإنسان بنفسه تعكس عفافه الظاهري، وهذا المعنى يتجلى في المرأة، والتي بلا شك تتأثر بنحو لباسها ونغمة صوتها وطريقة كلامها ومشيها، فمعرفة النّفس تقوّي سلوك الإنسان ولو كان مخالفًا لموجات المجتمع؛ لذا نلاحظ تأكيد القرآن على مسألة العفاف فيقول: ﴿ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ الأحزاب: 59 فإذا ما عُرفت المرأة بالاتزان، واتّسمت بالوقار وتحلّت بالعفاف فلن يتجرأ أحد على إلحاق الأذى بها، فكما يقال الطيور على أشكالها تقع، ولذلك قال تعالى: (أَن يُعرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ(، فحين تعرف المرأة بالفضل والعلم والطهارة، وبالحشمة والعفاف فهي أولى بالتبجيل والاحترام عند كل إنسان، فمن عُرف بأنه مليء بالعلم والمعرفة متسم بالوقار سيُبجّل ويفرض احترامه لزومًا، فلن يتجرء على إيذاءه إلا الشاذ النادر من النّاس. ومن أبرز هؤلاء النساء السيدة المعصومة (ع) إذ يتجلى علو الشأن للبيت المحمدي.

أما الصنف الثالث: فهم الأسوأ ونرجوا الله أن لا يكونوا من ضمن مجتمعاتنا، فهناك من يعتمد على عقله ويريد أن يعيش حرًا طليقًا ولكن للأسف بلا مبدأ، حرّ بلا عقل ولا أصول معرفية، لذلك هو أسوأ من الصنف الأول، فالأول يجري مع الريح حيث ما جرت، ولهذا هم لا يحدثون فلتانًا دفعيًا، أما هؤلاء من الصنف الثالث هم من يحدث فلتانًا مفاجئًا، وفلتانا دفعيًا بلا عرف ولا جريان اجتماعي يقيّدهم، إنهم يتحررون تحررًا لا عقلائي، ويظنون بأنه يمكن أن يستغني عن الشرع بالعقل، بينما في حقيقتهم وواقعهم لا يعرفون الشرع ولا يعرفون العقل؛ فمن يظن ذلك لم يعرف أن الشرع هو سيّد العقلاء.

فأخشى ما يخشى منه اليوم على أبناءنا أن يكونوا من الصنف الثالث، وأن يكونوا من هؤلاء الذين يبتدعون الطفرات الخيالية وهم من لا يعرف من يقلدون؟! من هم ساداتهم؟ من هم مواليهم؟ من هم مراجعهم؟!

هؤلاء النساء القدوة اللاتي كنّ أنجمًا في سماء ولاية أهل البيت (ع) أيمكننا أن نخفيها أو نتجاوز عنها ونتوجه نحو الأرض القاحلة والفاقدة لمنظومة القيم والمفتقرة للمعارف والعلوم فنتخذها المنهج ونجعلها السلوك؟!

مع أننا ندرك -في قرارة أنفسنا- أنه كلما كان السلوك أكثر عفّة وأكثر حشمة كان كاشفًا عن معرفة أكثر وعن ثقل داخلي أبهى واتزان أكثر، وهذا بذاته الذي أدى إلى أن يلتفّ العلماء حول السيدة المعصومة (ع) بهذا الكيف من الاحترام وهذا القدر من التبجيل والتجليل من أجل هذا المقدار من المعرفة الذي لم نرَ وندرك إلا القليل والقليل من ضوئه المنير.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا في الدنيا زيارتها ومحبتها، وفي الآخرة رضاها وشفاعتها، والحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


* ميلاد السيدة المعصومة 1440هـ

1. بحار الأنوار،ج 60،ص 228

2. كما قال: “نالَ الفَوزَ الأكبَرَ مَن ظفرَ بمعرفةِ النفسِ”. وقال أيضاً: “أعظَمُ الجهلِ جهلُ الإنسانِ أمرَ نفسهِ”. محمّدى الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج6، ص140

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 4.3 / 5. عدد التقييمات 3

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 4.3 / 5. عدد التقييمات 3

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬098 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...