تقدم القراءة:

أسير بسيرة جدي وأبي ٦

30 أكتوبر، 2015

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

4
(1)

٦- مقام المواساة مقام عالٍ للعباس بن علي (ع)

ربما يعدّ المصاب الأشد والأوجع والأصعب في كربلاء هو شهادة العباس (ع) لأنها تعني النهاية والفيصل داخل المعركة.

ورد في زيارة العباس عليه السلام ( فنعم الأخ المواسي لأخيه ) وهو مقام عالٍ جدا. ونحن نعلم أن هناك تفاوت بين أصحاب الإمام الحسين في المقامات.

ويمكن أن نقول أنه ليس من الجزاف ولا الصدفة أن تكون هناك زيارة صادرة من المعصومين (ع) في شأن العباس بن أمير المؤمنين على نحو الاستقلال. فقد وردت له زيارة عن لسان الإمام زين العابدين(ع) والصادق (ع) والهادي (ع) والإمام الجواد (ع) والإمام الحسن العسكري (ع) ذات مضمون مشترك.

يجب الإشارة إلى أهمية وقت الصدور، فورود زيارة للعباس عن الإمام السجاد (ع) معناه أن الناس عرفوا خصوصية العباس في وقت مبكر أي من زمن الإمام زين العابدين (ع) .

سنقف على هذا المعنى الوارد في الزيارة ونشرحه بالمنهج العرفاني:

ماهي المواساة ؟

مواساة الأخ من الجهة العنصرية تقتضي أن تتألم لآلامه وتحزن لحزنه وتفرح لفرحه وتتأذى لأذيته، لكن إذا أردت أن تواسي مرجعا أو قائدا مثلا فيجب أن تكون المواساة من جهة علمية وعملية، مواساة المرجع تقتضي أن تمتلك ظرفية تحمّل علمه، لذلك نحن عندما نزور المعصومين (ع) نقول “محتمل لعلمكم” وهو طلب مبطن مفاده اعطوني إمكانية لكي أحتمل علمكم . أن يحتمل شخص مواساة الإمام الحسين ويكون جديرا بها  فهو مقام عال جدا .

إذن فحقيقة مواساة العباس للإمام الحسين (عبناء على هذا الفهم تكون مقامات للإمام الحسين (ع) بالأصالة وللعباس بالتبع، وحتى نفهم هذا المعنى نرجع لبعض النصوص والزيارات :

عندما نخاطب الأئمة (ع) في الزيارة الجامعة ونقول: “مقدمكم أمام حاجتي وإرادتي في كل أحوالي وشؤوني” أي أن المأموم يقدم الإمام في كل أحواله وعوارضه اليومية، وهذه دعوى كبيرة. وأيضا نقول في الزيارة الجامعة “المُتَقَدِّمُ لَكم مارِقٌ وَالمُتَأَخِرُ عَنْكم زاهِقٌ وَاللازِمُ لَكم لاحِقٌ” فاللازم هو من يستطيع أن يلزم الإمام ولا يتأخر درجة عن الإمام، ومعنى لاحق أن الأئمة لهم الدور والمرتبة والرسالة بالأصالة واللازم لهم بالتبعية يأخذ أحكامهم وتجري عليه (١)وهذا هو عين ما نتلوه في زيارة العباس “أشهد أنك قد بذلت غاية المجهود”

هذا المقام إذا أردنا أن نسميه بما يفهمه العامة نسميه مقام المواساة، وهو أن يحمل العباس همّ الإمام الحسين، أن يتحمل ويدرك من جهة عملية وعلمية ويعرف ما يجري في قلب الإمام الحسين (ع) وهذه حالة من حالات المكاشفة التي ليس لها دخل بشجاعة العباس وقوته البدنية، وإنما لها دخل بقوة قلب العباس وسيره وسلوكه ومتابعته للإمام الحسين(ع) ومن هنا نقول في الزيارة: “نشهد لك بالوفاء والتسليم”، وحتى نفهم معنى الوفاء أضرب لكم مثالا:

نحن في اليوم نعاهد الله سبحانه كثيرا -خصوصاً عندما يحدث حدث يهزنا من الأعماق- لكننا كثيرا ما نخلف العهود، أما العباس (ع) فعندما تشهد له بالوفاء، فأنت تعطيه وسام الوفاء المطلق الذي لم يكن خاصا بموقفه في كربلاء.

إذا استطعنا أن نفهم هذا المقام للعباس بن أمير المؤمنين (ع) سندرك عظيم فاجعة استشهاده ووقعها على الإمام الحسين (ع) . فكما أن السالك الواصل أصعب ما يفقده هو إمامه فإن الإمام صعب عليه أن يفقد سالكا واصلا ،  بل يقول العرفاء أن نسبة محبة الإمام للسالك الواصل الذي قطع هذه المراحل تكون أشد، فيصعب عليه الفراق بحيث يكون بمقام انتزاع روحه لوجود الوحدة الروحية والمواساة الروحية.

وكمثال تقريبي فلنتصور عاطفة الأم- التي هي أكبر عاطفة نستطيع تصورها- عندما تفقد الأم ابنها الذي يمتلك مميزات خاصة يكون ذلك بالنسبة لها كسلب روحها، هذه العلاقة موجودة بين السالك والجاذب، ويكون الفقد أشد كلما كان الواصل أكثر أصالة في المسلك. من هنا نفهم أن العباس متألم على الحسين (ع) ومواسٍ له لكن آلام الإمام الحسين (ع) لفقد العباس أشد. وحتى نفهم عظمة هذه المصيبة أكثر ينبغي أن نميّز بين الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر.

في الجهاد الأصغر يكون العدو خارجيا، أما في الجهاد الأكبر فالعدو هو نفس الإنسان أي أهواؤه ورغباته وجهله، وسهام جهاده توجه إلى نفسه فلابد أن يرمي جهله بسهم من سهام المعرفة ويرمي تعلقه بالدنيا بسهم آخر، وهذه معركة صعبة، وهي معلركة العباس الكبرى . لذا عندما يتحدث الخطباء والشعراء عن شجاعة العباس وحميته فهم يتكلمون عن مواجهته للعدو الخارجي وجهاد أصغر، أما مقام العباس الواقعي فهو في جهاده الأكبر ومواساته للإمام الحسين (ع)،  هذه المرتبة التي لم يصل لها أحد من غير المعصومين إلا العباس (ع) والسيدة زينب (ع) .

معنى مقام المواساة 

قلنا أن دليل العرفاء على الحاجة للسيرة والسنة والإتباع هو أن الإنسان لا يستغني عن إمام لباطنه ينوّر له أحواله الباطنية ويكشف له تقلباته، وهذه في الحقيقة لها عدة مراحل يسميها العرفاء بالسلوك ويقسمونها إلى أسفار أربعة، تحدثنا عن مرحلتين منها،  المرحلة الأولى  يسير فيها الإنسان من الخلق إلى الحق، وفي المرحلة الثانية يسير من الحق إلى الحق وينتقل في أسماء الله ،فيجد ضعفه وضيق ظرفيته فيحتاج إلى منقذ ومعين ومرشد ولابد أن يكون معصوما، وإذا لم يرتبط الإنسان بمعصوم في حالاته الباطنية فسيضل ويضيع ، ولعل هذا يجعلنا نضع اليد على مشكلة واقعية اليوم وهي اتجاه الناس للعرفان الكاذب.

لماذا يتجه الناس للعرفان الكاذب؟

الإنسان بما هو إنسان يميل إلى المقدّس. هذا الميل لا يمكن أن ينتزع منه وإذا لم يطرح العرفان الصادق،  ولم يوجد من يتصدى لإنقاذ الإنسان من الأوهام والخواطر الشيطانية وينقله للخواطر الرحمانية، فإنه يضيع، فإذا رأيتم كثرة الاختراعات سواء في تاريخ البشرية والإنسانية أو حتى في واقعنا اليوم؛ فهذا دلالة على وجود حالة عطش مع عدم وجود الماء الصافي. ولذلك كان أمير المؤمنين (ع) يضرب على صدره ويقول: “أما وهاهنا لعذب فرات فانهلوا، وذاك ملح أجاج فاجتنبوا” ولهذا طرح هذه المسائل – على أنها تبدو مسائل تخصصية – ولكن إذا وقع المجتمع بدعاوى مغلفة بشعارات دينية فنحن بحاجة لمعالجة هذه الظواهر، ربما نراها اليوم على شكل أذكار بعدد معين وبكيفية معينة ونقبله على أساس الإباحة لكن بعد سنوات ربما نتقاتل عليه.

لذا ومن أجل ألا تخلق هذه الظواهر لابد أن نرجع للمدرسة الأصل فأهل البيت (ع) وضعوا لنا معالم هذه المدرسة وأول مرحلة هي السير من الخلق إلى الحق، والثانية من الحق إلى الحق بالحق التي يتنقل فيها السالك بين أسماء الله سبحانه من اسم إلى اسم بمعونة المرشد ، ويحتاج السالك المرشد هنا كي لا يغرق في بعض الأسماء، فأحياناً يعيش الإنسان حالة خوف وخشية من الله سبحانه وهي إلى مستوى معين دافع ومحرك تعطي الإنسان روحا من التقوى والورع والخوف من الله سبحانه، أما إذا غرق في هذا الاسم فإنه يتحول إلى أوهام، لذا لابد أن ينظر إلى جانب الرجاء، والعكس  أيضا فعليه أن لا يستغرق في الرجاء ويغفل جانب الخشية ، أهمية المرشد هي حفظ الإنسان من الغرق في اسم دون آخر .

أما بقية مراحل سير الإنسان هي:

المرحلة الثالثة: وهي السير من الحق إلى الخلق بالحق، وهي مرحلة الرجوع إلى الخلق لهدايتهم وإرشادهم، وقد وصل لها العباس عليه السلام بدليل الزيارات الصادرة عن المعصومين (ع) .

المرحلة الرابعة: وهي السير في الخلق بالحق وهي مرحلة الهداية الرحيمية، وهي خاصة بالأنبياء والأئمة المعصومين (ع) وبمن واسى المعصوم بالتبع.

والعارف في هذه المرحلة يكون قد قطع مراحل في معرفته بأسماء الله يعني ذاق مذاق أسماء الله سبحانه جميعاً، وهذه المعرفة ليست مزيفة وليست وهمية، ولا ادعائية، وليست خيالات لأن إمامه فيها وميزانه هوالمعصوم،  فيصبح حتى سيره وسلوكه معصوما لأنه مواسٍ.

الذي يقطع المرحلة الثالثة بامتياز يصل إلى مرحلة الشهود والتجليات الإلهية وإفاضة الباري جل وعلا عليه، فيرى كيفية صدور الأشياء من الله وعلاقة الأشياء بالله، يرى كل واحد في أي مرتبة ويرى نقصه وعيبه وحاجته، يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً﴾ الفرقان/45 ويقول أيضا: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ العنكبوت/19، في هذه المرحلة من السير يستطيع الإنسان أن يرى كيفية الأشياء.

العباس (ع) قاضي الحوائج … لماذا؟

بيان ذلك هو أن العباس هو الذي يرى حاجتك وليس أنت الذي تراها، فهوالذي يسير من الخلق إلى الحق بالحق، والذي يصل إلى هذه المرحلة من السير يصبح واسطة ويصبح يعرف الحاجات ويعرف كيف يقضيها فهو يعرف النقائص لأنه لا يرى الظواهر فقط؛ بل يرى الكيف، فيرى كيف أن الله أفاض هذه الأشياء ” أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ “ الله أفاضنا والعباس يعرف كيف نرجع لله فيرى نقصنا في عودتنا لله وفي رجوعنا لله وهذا الذي نتكامل فيه فهو يقضي الحوائج لأنه يرى النقص.

وقد استحق العباس (ع) هذه المرتبة لسببين :

السبب الأول: مواساته لأخيه الحسين(ع)

والسبب الآخر: كانت للعباس أمنية وحاجة، لم تقض له ولكن أعطاه الله  أن يكون هو باب الحوائج.

ماهي حاجة العباس التي لم تقضَ؟

في حركة العباس بن أمير المؤمنين كانت له أمنية وكانت كل الأمور الظاهرية في الجهاد الأصغر مهيأة لتحقيق هذه الامنية .أمنية  العباس هي أن يروّي بنات رسول الله (ص) ويصنع ابتسامة على وجه الإمام الحسين (ع) وأن يقدم شيئا للإمام الحسين (ع) ،لكن بالتدريج ابتدأ أمله وطموحه ورجائه يتلاشى، فالله قدر أن لا يصل لأمنيته .

لكن المقادير الإلهية التي لم تعط العباس حاجته بل جعلت العباس قاضي الحاجات، وكأن الله يقول له أنا لا أقضي حاجتك فقط وإنما أجعل مقامك مقام قاضي الحوائج . هذا المقام  يسمى سير من الحق إلى الخلق بالحق وهذا مقام العباس (ع) وهذا مقام المواساة للإمام الحسين (ع) .

 


١. نكرر في الزيارة الجامعة قول “فمعكم معكم” وهذه ليست تكرار لتأكيد المعنى “معكم معكم” وإنما هي تحمل معنى مختلف في كل مرة وتتضمن مرتبة أخرى وليست هي نفسها مكررة بنفس المعنى والمرتبة فنحن معكم  فيما تعتقدون وفيما تقولون معكم في مواقفكم معكم في الجهاد الأصغر ومعكم في الجهاد الأكبر.

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 4 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 4 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬170 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...