تقدم القراءة:

علاقة الإنسان بالطبيعة في القرآن الكريم – ففروا إلى الله ١

18 سبتمبر، 2015

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

أحيي حجاج بيت الله الحرام وأبارك لهم هذا التوفيق والفيض الرباني الفضل والعطاء الإلهي للدخول في ضيافته تعالى.*

الشعار الذي انتخبناه لهذه السنة (فروا إلى الله) هو من قوله تعالى: ﴿ففرُّوا إِلَى اللَّه إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِير مُبِين الذاريات 50 وقد جاء في تفسير هذه الآية عن الأئمة المعصومين عليهم السلام أن الفرار إلى الله هو الحج. روي عن الباقر عليه السلام: (” ففروا إلى الله” يعني حجوا إلى الله)(1)

الملفت أن هذه الآية لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة، نعم وإن كانت قد وردت آيات تشبهها لكنها لا تفيد ذات المضمون، كقوله تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الحديد 27 وقوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ آل عمران 133 لكن لفظ الفرار لم يرد إلا في شأن الحج، وفرق كبير بين الدعوة إلى المسابقة للمغفرة أو المسارعة إلى الجنة وبين الدعوة إلى الفرار إلى الله حيث المغفرة والجنة والرحمة والعفو والجود والفضل واللطف والعلم والأمان من العذاب …  فكل هذا داخل في ضمن اسم الله الجامع لصفات الجمال والجلال لله سبحانه وتعالى .

سوف نبحث  في هذه السلسلة عن الجامع المشترك بين الحج والفرار إلى لله لأنه ليس من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى تعليم وتعريف وشرح، وليس هو مما لا يحتاج الى تخصص.

سنجيب خلال البحث على هذه الأسئلة: ما ارتباط الحج بالفرار إلى الله سبحانه وتعالى؟ وكيف نحقق في حجتنا هذه حقيقة الفرار؟ وهل يمكن أن يدرك الإنسان حالة الفرار ويتلمّسها أم هي أمر غيبي ليس للإنسان أن يشعر به؟

ولكي نجيب عما سبق لابد أن نفهم الآية، وينبغي أن نفهم – أولاً- الآيات التي قبلها لتفرعها عنها، فالفاء في قوله: (ففروا إلى الله) هي فاء التفريع، وهي دلالة على الارتباط بين الآيات السابقة وبين آية الفرار – التي هي موضع بحثنا – إذ تعتبر نتيجة ما قبلها.

سوف نمرّ بشكل مختصر وسريع ببعض الآيات السابقة لآية الشعار،  وقد قسمنا الآيات تقسيما موضوعيا بحيث نستعرض مجموعة الآيات التي تتناول موضوعا معينا حتى نصل قبل نفرة الحجاج إلى الثمرة المرجوة.

الجهل أكبر الخطايا

بداية يجب أن نلتفت إلى أننا قد نغفل في كثير من الأحيان عن جهات النقص والتقصير فينا، إذ نلتف – دائما – إلى خطايانا ومعاصينا الجوارحيّة والحسيّة، ولا نلتفت – غالبا – إلى خطايانا العلمية والمعرفية، مع أن أكبر خطيئة تجرّ كل خطايانا هي الجهل! لاحظوا دعاء الإمام الحسين عليه السلام في عرفة وهو يعدد عطايا الله سبحانه ويقابلها بنقائصه وخطاياه، فيقول: (أنتَ الَّذي أَعْطَيْتَ، أَنْتَ الَّذي أَغْنَيْتَ، أَنْتَ الَّذي آوَيْتَ، أَنْتَ الَّذي كَفَيْتَ، أَنْتَ الَّذي هَدَيْتَ، أَنْتَ الَّذي عَصَمْتَ …) ثم يقول: (أَنـا الَّذي هَمَمْتُ، أَنا الَّذي جَهِلْتُ، أَنا الَّذي غَفَلْتُ، أَنَا الَّذي سَبَوْتُ، أَنَا الَّذي اعْتَمَدْتُ، أَنَا الَّذي تَعَمَّدْتُ، أَنَا الَّذي وَعَدْتُ، وَأَنَا الَّذي أَخْلَفْتُ..) دققوا كيف يركز الإمام على الخطايا الجوانحية، فالجهل هو أكبر خطيئة يقع فيها الفرد وتقعع فيها الأمة. وأكثر وأول ما يجب أن يفر منه الإنسان إلى العلم والمعرفة. ولا أريد بالعلم التخرّصات والاحتمالات والظنيات التي تمتلئ بها أكثر المدارس الإنسانية، هذا الذي تذمه السورة التي بين أيدينا، يقول تعالى: ﴿قُتلَ الخَرّاصُونَ الذاريات 10 لأنهه لا يقابل العلم الاحتمال والظن بل يقابله القطع والواقع ﴿وإنّ الدّينَ لواقعٌ الذاريات 6, ولهذا فإن هذه السورة في الحقيقة تعالج نقص الإنسان العلمي والمعرفي  قبل أن تدعوه إلى الفرار إلى الله سبحانه وتعالى.

نحن الآن كأفراد وكأمة لا نواجه من الهجمة العالمية تحديات حسية وقدرات مادية، إذ لا تنقصنا القدرات المادية فالعالم كله يأخذ من ثرواتنا، ما ينقصنا هو القدرة المعرفية والعلمية، وهو ما نواجهه في الحرب العالمية. وانتخاب هذا الشعار يتناسب ووضعنا كأفراد وكأمة تواجه حربا معرفية ضروسا. وفي مطالعة للآيات قبل آية الشعار ( ففروا إلى الله ) نجد أنها تضع القواعد الأساسية للمعرفة الصحيحة، وعندما يكتشف الإنسان ويعرف نقاط ضعفه وجهله سيتحول من حالة اللا إرادة إلى حالة الإرادة والعزم على الخروج من الجهل إلى العلم. لذا دعونا نسير مع آيات السورة المباركة:

يقول تعالى في بداية السورة: ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا الذاريات: 1-3 حيث الحديث عن الطبيعة والكون، والذاريات هي الرياح التي تحمل التلقيح وتحرك البحار والسفن.

{فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} الحاملات هي السفن التي تحمل الأثقال، أو هي السحاب الذي يحمل الأثقال.

{فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} السفن التي تجري في البحر بيسر وسهولة مع ما تحمله من أثقال كبيرة، هذا أيضا سر من أسرار الطبيعة.

لكن ما سر إصرار القرآن على القسم بالطبيعة؟  

لقد تحدث القرآن كثيراً عن مظاهر الطبيعة كالإبل والسفن والبحار، وأقسم بالشمس والليل والنجم وبكل شيء في الطبيعة كما يقول السيد الإمام (ر.ض)، ولاشك أن لذلك سرّ، ولابد أن له أثراً على إيماننا وعقيدتنا وحاضرنا ومستقبلنا، ولابدّ أن للقرآن نظرة آيديولوجية للطبيعة قد يتصوّر أغلبنا أنه لديه التصور الصحيح عنها، لكن علينا مراجعة ذلك، فأغلب ما لدينا من كتابات دينية حول ذلك لا تقدّم لنا – للأسف – النظرة المتكاملة. لذا لابد أن تتكون لدينا نظرة دينية متكاملة للطبيعة نعرف بها الجانب المقدس للطبيعة الذي استحقت بها القسم الإلهي.

نظرة القرآن حول علاقة الإنسان بالطبيعة 

قد يقال: ما حاجتنا إلى هذه المسألة؟ لكن الواقع أنه قد انتشرت في الوقت الراهن مناهج ومناحٍ بعضها إفراطية وبعضها تفريطية، وسوف نستعرض هذه المناحي ونوضح ما يمثل منها النظرة القرآنية:

هناك ثلاث وجهات نظر حول علاقة الإنسان بالطبيعة:

1- علاقة تسخيرية: أي أن الطبيعة مسخرة للإنسان ليستثمرها ويستفيد منها. وقد تبنّى هذا الرأي الماديون وبعض الإلهيين أيضا، خصوصا مع وجود بعض الآيات القرآنية التي تعين على هذا المعنى.  

نقد هذا الاتجاه:

هذه النظرة ليست خاطئة لكنها ناقصة وتمثل نصف النظرة الصحيحة. وكثيرا ما يسقط الإنسان في جهله ليس لأنه لا يعرف، لكن لأنه يعرف نصف الحقيقة!

نعم لقد قدّم العلماء المتخصصون الذين استطاعوا أن يستفيدوا من الطبيعة خدمات كثيرة للإنسانية، فاستخرجوا الدواء، واخترعوا ما يبرّد الهواء ويعين الإنسان على مواجهة صعوبة الطقس، لكن لنقص هذه النظرة فإنها بمقدار ما خدمت الإنسانية تسببت في ضررها. وبمقدار ما صنع الإنسان من الدواء صنع سلاحا، وبمقدار ما شفى من أمراض تسبب في أمراض وحروب، فلقد سخّر الطبيعة واستفاد منها من جهة لكنه أضر بالبشرية من جهة أخرى.

هذه النظرة للطبيعة لا تجعلها مقدّسة بحيث تستحق أن يقسم الله بها؛ إذ لا يمكن أن يقسم الله سبحانه بشيء وفيه ضرر! لأنه يسلبها حالة القدسية والحال أنه لابد أن يكون هناك جانب معصوم في الطبيعة هو ما يقسم الله به. ولا يمكن أن نقول عن هذه النظرة أنها خاطئة، لكن لا يمكن أن نقول أنها صحيحة على نحو الإطلاق.

2- نظرة الصراع والعداء: وهي أن الطبيعة عدو لروح الإنسان التي حلّت في قفص هذه الطبيعة ولابد من التخلص منها لتحرر الروح، ويتبنى هذه النظرة المتصوفة وبعض العرفاء، وهذا ظاهر في أشعارهم التي تصور الطبيعة على أنها معوقات ومثقلات لسير الروح، وحتى تتصعد هذه الروح لابد أن تتخلص منها.

ومنشأ هذه النظرة هو الفلسفة اليونانية التي طرحت نظرية المثُل، ومفادها أن الروح كانت في مكان رفيع عال ثم حلّت في البدن، وقد تسربت هذه النظرة لكثير ممن لهم ميولات روحية وأخلاقية فأصبحت ثقافتهم ملطخة بهذا الاتجاه مما ولّد عندهم مصطلحات من قبيل جلد الذات وما شاكل.

نقد هذا الاتجاه: هذه النظرة أيضا فيها جانب من الصحة وفيها جانب كبير من الخطأ.

3- النظرة التوحيدية: وهي ما يطرحه القرآن الكريم، وتقوم علاقة الإنسان بالطبيعة في القرآن الكريم على قاعدة أساسية تتمثل في قوله تعالى: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم فصلت 53  فكما أن هناك آيات في الأنفس هناك آيات في الآفاق وكلاهما مقدسان. فما من شجرة ولا ورقة ولا جبل ولا حبة تراب إلا وعليها أسماء الله سبحانه وتعالى. والطبيعة مقدّسة كالنفس، وما حولنا من سماء وأرض وناس وبشر وحجر ومدر فيها ذو بُعد وحقيقة قدسية، وهي آية تنطق عن وحدانية الله سبحانه وتعالى لذا يقسم الله تعالى بها.  

عندما يقسم القرآن بالطبيعة فهو يقسم بشيء معصوم وهذا ما تعتقده النظرة القرآنية، لاحظوا الإمام زين العابدين صلوات الله عليه وهو يتكلم عن الآثار عن الطبيعة وقارنوا بين ما يقول وبين ما تقول الفلسفة اليونانية والنظرة الصوفية. يقول:(ابتدع بقدرته الخلق ابتداعا، واخترعهم على مشيئته اختراعا، ثم سلك بهم طريق إرادته، وبعثهم في سبيل محبته …) لايوجد حبة تراب في هذا الكون إلا وهي توصلك إلى محبة الله، كل حبة تراب هي سبيل وطريق إلى الله سبحانه، والطريقق  إلى الله لابد أن يكون معصوما مستقيما ليوصلك، فالطريق المعوج لا يوصل.

ولصدر المتألهين مقولة لطيفة مفادها أن العشق سارٍ في جميع الموجودات، ولو خلّي الإنسان وشأنه بلا تشويش وبلا جهل وبلا إضافات من خارج النبوات لرأى أن هذه الآيات معصومة في حد نفسها بل هي سبل للوصول إلى الله سبحانه.

من هنا يمكننا الإجابة عن السؤال: لماذا يقسم الله بالطبيعة؟

لا يمكن أن يكون الجواب علميا محكما إلا بناء على هذه النظرة، فالطبيعة واصلة عارفة موصلة معلمة، وإذا كان السالك إلى الله يبحث عن المرشد والأستاذ فالطبيعة مليئة بالأساتذة، وبالتالي فهي أفضل طريق علمي يستعين به القرآن لإيصال الإنسان إلى الله.

هل رأيتم حين يولد مولودا في الديانة المسيحية كيف يعمّدونه في الماء؟ الحج تعميد في التوحيد فإذا قالت الآية (ففروا إلى الله) فبعد أن قدمت مقدمات علمية محكمة متقنة.

وهذا يعني أننا مأمورون بأن نحول جهلنا إلى علم، نحن المسلمون يجب أن نستثمر كل هذه الامكانيات التي حولنا لكي نجمع بين العقل والقلب، ولكي نصل بها إلى الإيمان بالله وعبوديته تعالى، ما يعني أن نغرق في معرفته وتوحيده.

وصلى الله على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

____________________________________________________________________

* محاضرة الأستاذة الفاضلة في مكة المكرمة 1436هـ / ضمن برنامج قافلة الهدى

1. الكافى ج 4 ص 256

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬101 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...