تقدم القراءة:

بين مريم المثال وزهراء الأسوة.. موقع وتطبيقات

24 يناير، 2022

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

 

أبارك للنبي الأكرم ﷺ، وللأئمة الأطهار ﴿؏﴾ ميلاد سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ﴿؏﴾، كما أبارك للمرأة المسلمة خاصة ما فضلها الله ﷻ، وما حباها به بالانتساب لهذا الدّين الحنيف والذي جعل الله ﷻ فيه من ابنة نبيه الأكرم ﷺ قدوةً وأسوةً وسيّدةً لنساء العالمين من الأولين والآخرين، كما وقد نصبها في مقام المرجعية؛ لتكون دليلًا لكلّ النساء عامةً -والمسلمات بنحو خاص- في هذا الزمن الكالح والظرف الذي تزل فيه الأقدام.

نقول هذا؛ ونحن نعيش تحت وطأة انتشار الرؤى الباطلة، وغلبة مناهج التفكير المنحرفة وتغليب أنماط الحياة المادية، مع تراكض المتغيرات والتحولات الاجتماعية، والتي عززت في الإنسان بنحو عام، وفي المرأة -الكائن المسالم بنحو خاص- الجنوح نحو الفردية والمادية، حتى أطبقت عليها أقطار الأرض وآفاق السماء.

وعليه فإننا نرى ضرورة استنفار كل الطاقات المثقفة والواعية لإنقاذ ما تبقى في أيدينا من قيم إلهية ومُثل عليا، وأسوة حسنة، واستنزالها إلى ساحاتنا الفكرية والعملية.

وسوف تكون ورقتنا بعنوان: مريم المثل والزهراء الأسوة والأصل. (١)

(باعتبارهما امرأتان تمثلان القدسيّة لأكبر ديانتين على وجه الأرض).

مريم ﴿؏﴾ المثل المقرب للأصل 

مما لا شك ولا شبهة فيه أن مريم ابنة عمران ﴿؏﴾ لها مكانة رفيعة في الثقافة الإسلامية كما هي عند المسيح أيضًا، وقد أولى القرآن الكريم اهتمامًا بالغًا بهذة السيّدة المقدسة من باكورة تكوينها، وهي في بطن أمها؛ إذ نقل لنا حكاية عن أمها التي نذرت ما في بطنها خالصًا لله ﷻ، والذي كان باكورة لهداية الكثير من أهل الأرض يقول ﷻ: ﴿إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ آل عمران:٣٥؛ ولأن هذا النذر كان قد استوفى كل شرائط القبول الإلهي على أحسن وجه، ولأنه ليس جزاء لإحسان إلا الإحسان ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ الرحمن: ٦٠، فلم يقع نذر أم مريم موقع القبول الإلهي؛ بل ذات مريم ﴿؏﴾؛ حيث تقبلها الله ﷻ بخير قبول، ولذا فلم يدع أمر كفالتها وتربيتها تمر وفق الطريق العادي والطبيعي، بل تدخلت المشيئة الإلهية واللطف الإلهي في توجيه عملية الكفالة والتربية، بإضافة عناية مبالغ فيها؛ حيث كفلها زكريا النبي ﴿؏﴾؛ فكان إنباتها في غاية الحسن والصفاء والبهاء والاستواء؛ وتكبر بالتغذية الإلهية وبدون حساب، وهذا على خلاف سيرة كل النّاس، يقول ﷻ في ذلك: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ آل عمران: ٣٧، ولم تزل كذلك في عناية الله ﷻ وتطهيره وتوجيهه؛ حتى غدت الطّاهرة والبتولة المفطومة عن كل نقص وعيب وإثم، والعفيفة بتمام وكمال العفّة؛ فجعلها الله ﷻ مثالًا للذين آمنوا ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۞ وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ﴾ التحريم:١١-١٢، 

فهي بذلك مثل للذين آمنوا، والأمثلة إنما تضرب للتعريف والتعليم والإرشاد لغيرها، كما يُعدّ المثل من أضعف درجات التعريف؛ فلا تشمله الكليات الخمس في التعريف بالذاتيات، فالمثل والمثال في واقعه أجنبي عن دواخل الممثل؛ أيّ أنه لا يحمل أيّ من مقوماته؛ إنما يؤتى به لتقريب الصورة للذهن عن الأصل، كما أن المثل يُعدّ طريقي يكشف للعقل جوهر الشيء، إذ ليس له موضوعية للممثل.

ومهما كان؛ فإن مريم الصدّيقة ﴿؏﴾ كانت مجرد مثال فحسب، كما توجد قرائن عدة تدل على أنها مخصصة ومستثناة في عالم الخلقة بهذه القرائن الكثيرة؛ علمنا بعدم حريان نماذج مطابقة لها عبر التاريخ؛ فالسياق والكرامات التي ذكرت في قصة مريم ﴿؏﴾ تفيد عدم تعميم هذا المثل من كل جهة، كما أن كل حياة مريم وعيسى ﴿؏﴾ آية غيبية للعالمين ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء: ٩١؛ فعذرية مريم ﴿؏﴾، وغلبة الجانب الإعجازي والغيبي في كل شؤونها حيث -أنها كانت أمٌّ بلا فحل- كما أن ابنها عيسى ﴿؏﴾ والذي يبشر ويظهر نبوته ورسالته قد رفعه الله ﷻ عنده بالغيب؛ فهذا الغموض الغارق في الغيب لا يمكن أن يكون أسوة بل مثال، وكما جاء في الخبر عن الإمام الصادق ﴿؏﴾: أن الممثل له هو فاطمة بنت محمد ﴿؏﴾. 

الأسوة حقيقة ثابتة وضرورة دائمة

إن من المفردات المهمة في أدبياتنا القرآنية هو حتمية الحاجة للأسوة، وهي ليست مسألة إسلامية طارئة توّلدت في ظرف الدعوة الإسلامية التي جاء بها النبي الأكرم ﷺ؛ بل هي من الأصالة والثبات والكينونة بمكان؛ حيث أشار إليها القرآن الكريم، وأكدّ عليها في حديثه عن نبيه الخليل إبراهيم ﴿؏﴾ شيخ الأنبياء وأبيهم كونه قدوة وأسوة حسنة هو والذين آمنوا معه، يقول ﷻ: ﴿قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ﴾ الممتحنة:٤، كذلك ومما يدلل أيضًا  على أهمية هذه المفردة -الأسوة- هو أنها جاءت في الحديث عن المجتمع الإسلامي؛ حيث أكدّت الآيات الشريفة على هذه المسألة أيضًا، بحيث أوضحت أن  (الأسوة الحسنة) كينونة ضرورية وحتمية تاريخية؛ وليست مجرد خيار ينتقيه وينتخبه الإنسان بعد إعمال التفكير، قال ﷻ: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ الأحزاب:٢١، إذ لم يأتِ الحديث حول اختيار أو قرار أو جعل إنساني أمره بيد الإنسان؛ بل المسألة أعرق وأقدم من قرار إنسان أو انتباه بعد غفلة، بل إن هذه الكينونة هي موجب مستقر في فطرة الإنسان. والدليل على ذلك من الآية الشريفة أنها جاءت بصيغة الجملة الاسمية؛ بحيث تفيد الاستمرار؛ وخلافًا للجملة الفعلية المقيّدة بالوقوع في زمان ما، أضف إلى ذلك موقع قد التحقيقة في ﴿لَّقَدْ﴾، وكذلك اللام، بإلإضافة إلى فعل ﴿كَانَ﴾ التام.

كما أن اتخاذ القدوة ليس بفرض جعلي واعتباري؛ فهو أيضًا ينشأ من الخيار الواعي الحرّ، يقول أحد مراجعنا العظام في طور حديثه في هذا المسار:

(إن القدوة لا يمكن أن تُفرض على أحد؛ بل هي الانتخاب الحرّ للإنسان نفسه).

ويضيف:

أولًا: إن القدوة يجب ألا تُعرّف لنا كقدوة ويقال لنا: هذا قدوتكم؛ فمثل هذا الاقتداء تعاقدي ومفروض وخالٍ من الجذابية، نحن الذين يجب أن نختار قدوتنا بأنفسنا؛ أيّ أن ننظر في أفق رؤانا ومعتقداتنا الحقة، ونلاحظ الصورة التي ترتضيها أنفسنا من بين تلك الصور.

إذن هناك وظيفة قبل اتخاذ القدوة، وهي التعرف عليها، لتتشكل لدينا رؤية وقناعة بمن سنتخذه قدوة. 

كما هو الحال في كل المسائل الكلامية؛ فالملاك فيها هو تكميل العقل النظري أولًا بالوعي عليها بلا إكراه.

كما يساعد علم الاجتماع البشري على تصديق مثل هذه الرؤية -بضرورة وجود أسوة حسنة- على أن تكون حاضرة في حياة المجتمعات البشرية؛ كي تدفعهم وتشدّهم نحو الحياة الهادفة. بل إن الإنسان في واقعه -شعر بذلك أم لم يشعر- فهو آنًا آنًا يتأسى بغيره في أمور حياته المتنوعة، ليبقي له ذلك الأمل بالنجاح والفوز والفلاح.

ويقول أيضًا:

إن الفطرة تدفع الإنسان في جميع سلسلة البشر مع اختلافهم في العقائد والأخلاق والطبائع والأمزجة والأمكنة والعادات؛ سواءً كان البدوي منهم والحضري والبدائي والمتمدن والإلهي والطبيعي، فالجميع يندفع بالأصالة للتنفر من كل نقص دفعًا ذاتيًا، والانجذاب العشقي نحو الكمال بالتبع والظلية؛ مهما كانوا في واقعهم محجوبين عن هذه الرؤية، ومختلفين في تشخيص ما هو الكمال؟ ومن هو الكامل؟ ولكن أصالة التأسي سارية في المجتمعات وبلا أدنى تفاوت.  

ومن جملة ما أسلفنا يظهر لنا مدى حتمية وضرورة الحاجة للأسوة.

الزهراء ﴿؏﴾ الأسوة والأصل

الأسوة: اسم مصدر مأخوذ من التأسي، وهي مشتقة من مادّة (ا س ا)، والتي تعني المداواة والإصلاح، حيث يقول البعض: أسوت الجرح إذا داويته، ولذلك يطلق على الطّبيب: الآسي، كما يقال أيضًا أسوت بين القوم، إذا أصلحت بينهم، وكذلك من المواساة، كما يقال: واسيت فلانًا أيّ عزيته، ففي الأصل هو صاحب المصيبة، ولكن كون المعزي يحاول أن يشعر بشعور صاحب المصاب ويتوائم معه.

إن كل ما حولنا يملي علينا بضرورة الحاجة إلى ترجمة قدوة المرأة المسلمة؛ سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين فاطمة الزهراء ﴿؏﴾ لنتخذها أسوة حسنة.

وهنا نؤكد: إنه يجب أن لا نصغي لتلك الشبهات القديمة الجديدة، والتي تدّعي بأن التفاوت الذاتي والبون بيننا وبين الصّديقة الطّاهرة ﴿؏﴾ من جانب، وبين زماننا وثقافتنا الاجتماعية وزمانها ﴿؏﴾ من جانب آخر؛ يمكن له أن يحول دون اتخاذ هذه الخطوة الضرورية واللازمة؛ وذلك أنه ليس المراد من اتخاذ الأسوة هو التطابق في الأمور الذاتية؛ بل المحاكاة في الأحوال والأفعال.

بل إننا إذا ما نظرنا بلحاظ تربوي؛ فإن العصمة داعم لتأكيد التأسي؛ إذ كيف للعاقل أن يقبل التأسي بإنسان يحتمل بحقه الوقوع في الخطأ.

كما أن هناك جواب يقضي على هذا الإشكال المثار؛ وهو إنما يتخذ النّاس الآخرين أسوة لهم بعد ضمان أنهم لا يخطئون، ومع احتمال الخطأ سينخرق باعث التأسي لديهم حتمًا.

وكيف ما كان؛ فإذا ما قسنا حالنا بالزهراء ﴿؏﴾، كونها خليفة الله ﷻ الكامل (بحسب عقيدتنا)؛ حيث أن الصّديقة الطّاهرة ﴿؏﴾ لا تخلف المولى ﷻ في الذات ولا في الصفات الذاتية؛ بل هي تتأسى بأسمائه الحسنى ﷻ وتمثلها، والممثل والخليفة ليس الأصيل، ولكنه مأخوذ في الأسوة نحو من التقدم والأفضلية.

ولحلّ هذه الشبهة؛ فقد أشار القرآن الكريم لمسألة هامّة، إذ ليس بالضرورة أن نقيس أنفسنا وإمكانياتنا الذاتية بنبي الله وخليله إبراهيم ﴿؏﴾ فحسب ﴿قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ﴾؛ بل يمكن أن نقيسها مع الذين آمنوا معه ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾.

وفي واقع الحال هذا ما نراه ونتلمّسه بالوجدان؛ فحين نقرأ ونطالع ونشاهد قصص العلماء والعظماء والعرفاء وأولياء الله ﷻ الصالحين والصادقين؛ نرى في أنفسنا نزوحًا طبيعيًا نحوهم، وتهفو أرواحنا إليهم، كما ونتمنى أن نكون منهم، أو ممن يحتذي خطاهم ويتأسى بسيرتهم العطرة، وفي مقابل ذلك؛ نجد أننا مهما قرأنا أو طالعنا قصص أصحاب الخرافات والعجائب والغرائب والغوامض؛ لا نطمح ولا تتولد لدينا رغبة جادة في أن نكون أمثالهم، أو كأحدٍ منهم؛ مهما جُمّلت وزخرفت وازّيّنت صورهم.

المثل الأعلى والأسوة هو منشأ التغيير 

في المسائل والإشكالات العلمية عادة ما تحلّ القضايا بعرض الأدلة والبراهين، وبضرب الأمثلة -إنما تضرب الأمثلة للتعليم- ولكن غالبًا ما تكمن مشكلة الإنسان وعقبته الكؤود في المسائل العملية، والتي قد لا تستقيم؛ إذ لا بُدّ وأن يكون هناك ما يدفع الإنسان لعدم الركون إلى الدنيا، والبُعد عن حالة الدّعة والضعف والكسل والتواكل.

ويمكن القول إن حالة الجمود والرضا بالواقع منشأه الجحود بالله ﷻ باعتباره (مثل أعلى) كما يسميه الشهيد الصدر -قدس الله سره- حيث يقول في ذلك: المثل الأعلى حين يكون فارغًا منخفضًا أرضيًا؛ سيكرر الإنسان حالة الجمود وعدم انتقاده لواقعه؛ والجمود يساوي الجحود؛ وهذا معنىً جديدًا للجحود، وهو رفض الله ﷻ باعتباره (مثل أعلى)، يقول ﷻ: ﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ۖ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ النحل: ٦٠، وهذا المعنى الذي أثاره الشهيد الصدر -قدس الله سره- في منطق التغيير الاجتماعي، فبداية كل تحول اجتماعي هو وجود فرد متطلع إلى (مثل أعلى) له قيمة فوقية منشدّ نحوها، والفرد ذاته هو منشأ كل التغيرات الاجتماعية والتحولات العمرانية والأخلاقية والاقتصادية؛ حيث إن تطلعات الفرد العالية للأسوة والمثل الأعلى؛ هي التي تضمن تلك الفاعلية المؤثرة نحو تغيير إرادي غير قسري.

 كفانا الله بفاطمة ﴿؏﴾ 

إذا ما أدركنا موقع الأسوة وأهميته في إرشاد العقل وبناء الفرد والمجتمع، سندرك أن الله ﷻ قد كفانا مؤنة البحث والتنقيب عن المصداق (الأسوة)، فعيّن لنا وبسط رحمته على العالمين بالزهراء ﴿؏﴾ الفاطمة الطّاهرة الطّيبة؛ فاختارها للمباهلة(٢) وللتطهير(٣) وهل أتى، وغيرها من المواقع والمقامات الكثيرة والمهمة في تاريخ الأمة.

وبعد هذه المواقع الثابتة لها ﴿؏﴾ في الأسوة والتي قد أعطيت لها؛ يأتي بعد ذلك دور علماء الأمة والنخب من المثقفين والمفكرين الواعين في كشف الصورة الناصعة للأسوة؛ وللأسف فإننا نرى إخفاقنا في كشف تلك الصورة الزاهرة والنيرة والمشرقة للزهراء (الأسوة) لبناتنا مقابل الزهراء المختلقة والمخترعة؛ حيث جعلناها بين زهراءين:

  •  زهراء متقاعدة لا تحرك ساكنًا غير مؤثرة البتة، ليس لها أيّ دور علمي أو فكري، ولا تضيف إلى المؤمنات بها أدنى عزّة وكرامة، ولا تقدم لهن رؤية كونية إلهية معرفية، ولا أدنى نصيب من قناعة بأنفسهن باعتبارهن مكوّن أساس في المجتمع.
  • وأخرى زهراء مستحدثة آخر همّها العبادة، والذكر والزهادة والبيت والأسرة والتربية.

ونقول هنا: وحيث أن من طبيعة التاريخ -لطبيعة إجحاف أهله- فإنه وإن عجز على أن يقدم لنا الزهراء ﴿؏﴾ في سيرة متكاملة الجزئيات، ولكن بالتأكيد إن ما قدمه لنا من نماذج عميقه جدًا فيها من القوة والقدرة على أن تحركنا نحو التسابق في التأسي بها ﴿؏﴾.

ونستعرض بعضًا من النماذج والأمثلة وعلى نحو الاختصار

  1. الزهراء ﴿؏﴾ الدرع والحصانة لأسرة التوحيد 

حين باع الإمام علي ﴿؏﴾ درعه، وهو لباسه الواقي الذي يرتدىه في المعارك والاشتباك مع العدو، ليستبدله بمهر للزهراء ﴿؏﴾، ولعل السبب في ذلك أنه قد حصل على الدرع الأهمّ، والذي سيقي بيته وأسرته من كل المخاطر، ومن الطبيعي جدًا أن يستعيض العاقل المهم بالأهمّ يقول ﷻ: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ﴾ البقرة: ١٨٧، فالزهراء ﴿؏﴾ هي الدرع الحصين الذي استبدل به أمير المؤمنين ﴿؏﴾ درعه؛ فهو وقى بيته وأبناءه من الظلم، والركون إلى الظالمين، وهذا ما يراد به بالدرع. 

لقد قدمت لنا الزهراء ﴿؏﴾ أسرة لا نظير لها في الأولين والآخرين؛ وهي الفاطمة عن كل خطيئة، والدرع من كل نقيصة، قدمت أسرة التوحيد والإخلاص في ظل مجتمع حديث عهد بالجاهلية الجهلاء وفتن الأهواء “لَم تُدَنِّسكُم الجاهِلِيَّةُ الجَهلاءُ وَلَم تَشْرَكْ فِيكُم فِتَنُ الأهواءِ”(٤)، فلا بُدّ أن تكون الزهراء ﴿؏﴾ هي درعهم ضدّ الشرك والهوى، وهي الأسوة لهم ﴿؏﴾. حيث كانت القدوة في التزامها بأمر الله ﷻ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ التحريم: ٦.

  1. تطوير وإنعاش وبث الحياة في الحاجات المادية

فالزهراء ﴿؏﴾ هي الأم التي تستنزل الملائكة لتهز مهد وليدها، وهي مع ذلك تظل تطحن بالرحى حتى تمجل يداها؛ كل ذلك لترقق الخبز لأطفالها، وتغذيهم تقربًا لله ﷻ، وإعدادًا لهم للعمل الصالح، يقول ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ المؤمنون: ٥١.

يقول أستاذنا الشيخ جوادي الآملي: إن من يكون الحسّ مدار حياته، حيث تقف حياته ومعارفه عند حدوده فحسب؛ فإن فعالياته البدنية ستغدو مادية كذلك؛ ستقف عند هذا السطح ولن تسمو فوقه، فإذا ما أكلوا فإنهم كالأنعام يأكلون، يقول ﷻ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾ محمد: ١٢، ويقول ﷻ: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ الحجر: ٣.

وأما من يعمل على ضخ الحياة في الماديات والمعنويات؛ فهو يحوّل الطعام إلى نشاط روحي وفكري، ثم لعمل صالح  يقول ﷻ: ﴿يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾، ففاطمة ﴿؏﴾  والتي طحنت حتى مجلت يداها الكريمتان كانت تعلم أبنائها عمل الصالحات، والنخوة والبسالة والشجاعة ونجدة المظلومين؛ فكما قال سيّد الشهداء ﴿؏﴾ معللًا خروجه على الطاغية يزيد -عليه لعائن الله-: “ألا وإنّ الدعي بن الدعي -يعني ابن زياد- قدْ ركز بين اثنتين، بين السلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحُجور طابت وحجور طهرت، وأُنوف حمية، ونفوس أبية”؛ وعلى ذلك لنا أن نقول إن إطعام الزهراء ﴿؏﴾ لأبنائها هو كمن كان يطعم الأنبياء ليعملوا صالحًا، ليهدوا العباد ويرشدوهم ويثوروا في وجه الطغاة، فكل هذا يدخل تحت عنوان الصالحات التي جاءت في الآية المباركة في الخطاب الإلهي للرسل ﴿كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً﴾.

فلا يعجزنا التأسي بالزهراء ﴿؏﴾ لأن نقوم بمثل هذه الأدوار الزهرائية المتعددة؛، فنخدم أبناءنا، ونعمل على تحويل هذه الأمور المادية من إعداد للطعام وغيره لأمور معنوية؛ لتدرعهم بالإيمان والعمل الصالح والقوة والقدرة والثبات، لمقاومة الطغاة. 

ولو وقفنا على نماذج عملية للزهراء ﴿؏﴾؛ لوجدنا أنها قابلة للتأسي في كل صورها وأدوارها، وهي أسوة في كل زمان ومكان؛ شريطة أن نعمق من وعينا لشخصها ﴿؏﴾.


  1. ملتقى المرأة العاشر – ١٤٣٣ هـ
  2. القاموس المحيط
  3. ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ آل عمران: ٦١
  4. ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ الأحزاب: ٣٣.

  5.  مفاتيح الجنان، زيارة أئمة البقيع ﴿؏﴾.

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬299 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فزت ورب الكعبة 0 (0)

﷽ السلام عليك يا رسول الله، السلام على أمير المؤمنين، وعلى الصديقة الطاهرة، وعلى الأئمة المعصومين.   السلام عليك يا أمير المؤمنين، ويعسوب الدين، وقائد الغر المحجلين، السلام عليك يا باب الله، السلام عليك يا عين الله الناظرة، ويده الباسطة وأذنه الواعية، وحكمته البالغة،...

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...