تقدم القراءة:

العقيلة تدعوكم لما يحييكم ٩

3 سبتمبر، 2021

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

5
(2)

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ الأنفال: ٢٧.

الإنسان إذا ما صفا قلبه من الغفلات وعقله من الأوهام وكان صافي الولاية والمعتقد والنفس والروح فإن الله ﷻ يرغب في اصطفائه؛ فيصطفيه بالتأييد والتهيئة والإعداد لأدوار أساسية ومهمة؛ وعلي بن الحسين الأكبر ﴿؏﴾ كان ممن اصطفاهم الله ﷻ من أهل بيت النبوة والرسالة، ولذا عندما رأى الإمام الحسين ﴿؏﴾ ما في ابنه علي الأكبر ﴿؏﴾ من استعداد وصفاء الجوهر وبسالة الموقف، قرأ عليه هذه الآية الكريمة مستدلًا بها على أهلية ابنه ﴿؏﴾: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ۞ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ آل عمران: ٣٣-٣٤،(١) وكيف لا يكون كذلك، وهو يراه وقد وقف موقفًا تجسمت فيه روح جدّه المصطفى ﷺ، وتمثل عظيم شجاعته ﷺ؛ في العزة والإقدام والاستهانة بهذه الحياة في سبيل الآخرة، غير مبالٍ أوقع على الموت أم وقع الموت عليه(٢)، موقفًا لم يحدّث التاريخ لأحد من أبناء الأنبياء ﴿؏﴾ بمثله.

يقف عليٌّ الأكبر ﴿؏﴾ وهو شاب وحيدٌ مقابل جيشًا تعداده سبعين ألفًا أو يزيد، مددهم متواصل من الكوفة إلى الشام -كما تنقل بعض الروايات-، وهو لا مدد له، وقد بسطوا نفوذهم على شاطئ الفرات؛ يكرعون منه وينتهلون متى ما يشاؤون، وهو محبوس عن قطرة ماء يبِلُّ بها حشاه وقد فتَّت كبده حرّا، يتجرع كل ذلك مع ما هو أقسى عليه منه؛ أن يرى أطفال علي وفاطمة ﴿؏﴾ يتصارخون العطش والماء أمامهم.

لقد بكاه الإمام الحسين ﴿؏﴾ أكثر من مرة، وجديرٌ أن يبكيه ﴿؏﴾.

مرتكزات سابقة

لا زال الحديث عن عقيلة الطالبيين زينب الكبرى ﴿؏﴾ ومسألة الإحياء، والتي كما ادعينا أنه إحياء أزليّ أبديّ.

واستكمالًا للحديث حول هذا الدور الإحيائي نطرح إشكالًا ونجيب عليه.

إشكال مطروح حول اصطحاب النساء وحرائر الرسالة إلى كربلاء

وهنا نقف على مسألة ونطرح هذا التساؤل -وإن كان طرح هذه المسألة لا يّعدّ جديدًا، بل مما يطُرح وبنحو دائم –(٣) والذي يقول:

أمّـا القتـل; فقـد كان عنـد العـرب أهـون شـيء، وهـو أمر معتاد متعارف لا شـيء فيه من الفظاعة والغرابة

لكن الغريب هنا هي مسألة سبي العيال؛ ولذا فإن اصطحاب الإمام الحسين ﴿؏﴾ إياهم معه إلى كربلاء يكون قد عرضهم للهتك، والعقل العملي يدرك قبح هذا الهتك الذي لا يوازيه ولا يعدله قبح.

وهل من سـبيل إلى الكشـف عن نفسـية يزيد وخسّـة طبعه وعدم أهليّته ، من حيث لؤم عنصره، وخبث سـريرته، وقبح سـيرته -مع قطع النظر عن الدين والشـرع ـ أقرب وأصوب وأعمق أثراً في النفوس عامّة والعرب خاصّة والمسـلمين بالأخصّ من هتك حرم النبوّة (صلى الله عليه وآله وسلم) وودائع الرسـالة ، وجلبهم أُسـارى من بلد إلى بلد، ومن قفر إلى قفر؟!

وقد أجاب بعض العلماء على هذا التساؤل وقالوا: كان الإمام الحسين ﴿؏﴾ أعرف أنّ يزيد وابن زياد من خبث الذات وسـوء الملَـكة مسـتعدّان لتلك الجرائم; فأراد أن يبرزها منهم إلى الوجود وتكون الناس منهم على بيّنة محسـوسـة، ثمّ يكون الغالب بعدها هو المغلوب، والقاهر هو المقهور؛

وهذا الأمر مما يراه بعض علمائنا كونه حسن وراجح عقلًا، ويجبر قبح الهتك والاعتداء على آل بيت العصمة والطاهرة ﴿؏﴾.

نعم ، يزيد قتل الحسـين (عليه السلام) وأنصارَه ، ولكنّ الحسـين قتل يزيد وكلَّ بني أُميّة بأعظم من قتلهم له بألف مرّة ; قتلهم يزيد يوماً واحداً ، وقتلوه وقومه إلى آخر الأبد . فأي الظفرين أعظم ؟! وأيّ القتلين أكبر ؟!

فإن كان يزيد -عليه لعائن الله- قتل حسينًا ﴿؏﴾، فإن زينب ﴿؏﴾ قتلت بني أمية أجمع؛ بل فلنقل أن زينب ﴿؏﴾ هدمت وأطاحت بحكم الجائرين وبواقعهم التاريخي في كل زمان ومكان؛ بسير قهقرائي نحو الخلف منذ كربلاء وما قبلها حتى يوم السقيفة، ولكل ما جرى على أهل بيت العصمة والطهارة ﴿؏﴾، وما جرى على هذه الأمة منذ وفاة رسول الله ﷺ، كما استفادت بسير أمامي من كربلاء وإلى كل طاغية سيأتي حتى قيام دولة الإمام المهدي (عج) بل وإلى آخر الدهر؛ لتغدو نتيجة ذلك الهتك؛ هدم لعُرى الظلم والجور، وإحياء أزليّ وأبديّ للأمة.

لكن الشيخ الكبير محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه نبذة من السياسة الحسينية له رأي آخر حيث يقول:

لا يجوز في الدّين أن يعرض الإمام الحسين ﴿؏﴾ نساءه وعياله للهتك مهما كانت الغايات، ويقول هذا الإشكال منبعث من البساطة والسذاجة.

فالهتك قد يكون بنحوين؛

الأول: وهو بمعناه الأول والمتصور، وهو مرفوض تمامًا وفق رأي العلّامة. فكما يقول:

فإنّ الذي لا يسـاعد عليه الدِّين، بل ولا تسـمح به الغيرة، هو تعريض الإنسـان عِرْضَهُ للهتك الموجب لِما يمسّ الشـرف ، ويخدش رواق العفّة والصيانة ، وسـرادق النجابة والحصانة .

الثاني والقول له:

أمّا الهتك الذي تسـتحكم به عرى القدس والطهارة والعزّة والمنعة، فذلك ممّا لا يشـين ولا يهين، وتلك الحرائر صلوات الله عليهنّ مهما سَفِـرْنَ فَـهُـنَّ محجّبات، ومهما تَـبَـذَّلْـنَ فهنّ مَصونات، وهنّ بحيث النجم من يد المتناول.

شُـعُّ على وجهِ البراقِعِ نورُها فيحسـب راء أنَّهُنَّ سَـوافِرُ

أيّ أن الهتك الذي تتجلى من خلاله كامل العفّة، وتستحكم فيه عرى القدس والطهارة والعزة والمنعة؛ فهذا لايعد هتك واقعًا؛ بل مما يُعدّ سالبة بانتفاء الموضوع، فحين ارتفعت تلك الأخبية، وارتفعت تلك الستور، وبدا منها عُرى القدس والعفّة والطهارة والعزة والمنعة؛ فلا يّعدّ أمرًا شيِّنا، ولا يُعدّ إهانة لتلك المخدرات الحرائر صلوات الله عليهن؛ فلا تزول لهنّ عفّة حين ترفع عنهنّ الخيمة، ولا يزول لهنّ ثقل أو رصانة مهما رفعت عنهنّ الحجب؛ فمهما سفرن هنّ محجبات، ومهما تبذلن هن مصونات الرسالة، بل تجلّت تلك المصونية أكثر وظهرت وبانت، وما انكشف في الحقيقة غير نور العفّة والستر نور والجلال.

السطحي ومن يتصور أن هذه مسألة إسفار فهذا فهم سطحي ثم يقول الشيخ الإمام:

والغرضُ: إنّ هذا الجواب محكم رصين ، وله حظّه من الحقيقـة، وإن لم يقنع به الناقد والمشـكّك.

وهناك وجه ثان وجيه أيضًا يذكره الشيخ الإمام وهو:

إنّ الحسـين (عليه السلام) في كلّ أدواره وأطواره، ومنذ نشـأ وشـبّ إلى آخر نفَس من حياته كانت شـيمته الشـمم والشـهامة، وعزّة النفس والإباء والكرامة، تتجلّى وتشـعّ من جميع حركاته وسـكـناته، وكلّ أحواله وملَـكاته، ولو ذهبنا إلى سـرد الشـواهد على هذا لجاء كـتاباً مفردًا، إلى آخر كلامه

ثم يقول:

فالحسـين ـ وعلى ذِكره السـلام ، هو يحمل بين جنبيه هذه النفس الكبيرة ـ لمّا أراد الخروج من مكّة إلى العراق أبت نفسـه الكريمة ، وأنفت همّته القعسـاء أن يخرج هو وولدانه وغلمانه على ظهور خيولهم خروج المتشـرّد الخائف، والنافر الفزع، ولم يرض لنفسـه إلاّ أن يظهر بأسـمى مظاهر الأُبَّهَةِ والهَيْبَةِ والجَلالِ والحِشْمَةِ في الموكب الملوكي، وفخامة الملك والسـلطان.

ومن المعلوم أنّ لحمل الحرم والعائلة من لوازم الفخامة والعظمة، وشـوكة المناطق والسـرادق، ما لا يحصل بدونها، ولو خرج سـلام الله عليه من أوطانه وترك عقائله في عقر دارهم لكان خروجه أشـبه ما يكون بصعاليك العرب وأهل الغزو والغارات والمتلصّصين، وحاشـا لسـيّد أهل الإباء أن يرضى لنفسـه بتلك المنزلة والخطّة السـافلة، بل سـار بأهله وذراريه

بعد ذلك يستعرض جملة من المواقف القدسية لزينب الكبرى ﴿؏﴾، ويستطرد القول:

أو ظهر عليها ذرّة من الذلّ والاسـتكانة ؟! أو خضعت فانقطعت ؟! أو عجزت عن ارتجال الخطب البليغة التي لو جاء بها الوادع السـاكن والمطمئنّ الآمن بعد ليال وأيّام لكانت آية من آيات الإبداع ، ورمزاً من رموز البراعة ؟!

ووقفت زينب بنت عليّ (عليه السلام) والخفيرات من أهل بيتها في مجلس ابن زياد.

ثم يقول:

أفهل تخشـى -لو تصوّرت مزايا تلك الرزايا لزينب- أن تقول: إنّ موقفها عند ابن زياد كان أعظم من موقف أنصار الحسـين يوم الطفّ عند جند ابن سـعد ؟!

قل ولا تخف، وعلَيَّ الإثبات.

أي وأنا أثبت لك بالأدلة أن وقوف زينب ﴿؏﴾ كان يعني مع تصور كل ما جرى عليها أعظم وأجلّ وأهمّ،

هل أحسـسـتَ في تلك السـاعة الرهيبة من زينب أمام عدوّها القاسـي الظالم الشـامت الشـاتم أن تلجلج لسـانها؟! أو اضطرب جَنانها ؟!

إلى أن يقول:

وأمّا ما تخيَّلْتَهُ من أنّ هتك الحريم لا يقدم الغيور عليه مهما كان الأمر، فهو وَهمٌ زائف، وقد عرَّفناك أنّ الهتك المُشـين هو الذي يلمس أذيال العفّة، ويمسّ ذلاذل الشـرف، لا الذي تسـتحكم به أسـوار الصون وسـياج العفاف .

وبعد هذا كلّه، فهل أقنعك هذا الوجه، وعرفت كيف كانت منزلة الحسـين (عليه السلام) من عظمة الشـأن وسـموّ السـلطان ؟!

أما هذا الهتك إنما أبان وكشف عن أسوار للصون والعفّة والاحتجاب.

ويقول:

إذاً، فجزى الله تلك الحرائر بحسـن صنيعهنّ عن الإسـلام أحسـن الجزاء ، وكلّ مسـلم مدين بالشـكر لهنّ وللحسـين (عليه السلام) إذا كان مسـلماً حقّـاً ويرى للإسـلام حقّـاً عليه .

هذا أيضًا من كلام الشيخ كاشف الغطاء أوردناه على طوله لأهميته،

وعلى هذا، فيحقّ للجنس اللطيف -كما يسـمّونه اليوم- أن يفخر على الجنس الآخر بوجود مثل تلك العليّات العلويّات فيه، وقد تجلّى واتّضح أنّ هذا الجنس الشـريف قد يقوم بأعمال كبيرة يعجز عنها الجنس الآخر ولو بذل كلّ ما في وسـعه، وأنّ له التأثير الكبير في قلب الدول والممالك، وتحوير الأفكار، وإثارة الرأي العامّ .

تفريع على كلام العلامة كاشف الغطاء مرتبط بالدورالإحيائي للعقيلة

وهنا نضيف تفريعًا ومعنى تأسيسيًا يتناسب مع الحديث حول قضية الإحياء؛ فهناك مسألة مهمة، وهي وكما تعلمون أن أهل الكوفة كانت قلوبهم مع الإمام الحسين ﴿؏﴾ -كما قال الفرزدق- عندما سأله الإمام الحسين ﴿؏﴾ عن أهل الكوفة: “كيف خلفت أهل الكوفة؟” قال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك(٤) .

وكما وأن الإمام الحسين ﴿؏﴾ حين خطب فيهم في يوم العاشر قال لهم: “أحين استصرختمونا والهين، فأجبناكم موجفين”(٥)؛ أيّ ليس مجرد أن قلوبهم كانت مع الإمام ﴿؏﴾ كما قال الفرزدق؛ بل إنهم والهون مريدون، وبإلحاح وإصرار واستصراخ  للإمام الحسين ﴿؏﴾، رغبة في استقدام الإمام ﴿؏﴾، ولكن في واقع الحال هناك نقص في تلك القلوب وبحاجة إلى تتميم، فذلك العشق، والتوله والحب والتعلق بالإمام الحسين ﴿؏﴾ وتلك الرغبة وهذا الاستصراخ لا يرتجى منه؛ طالما بقيت تلك القلوب والأفئدة ناقصة؟!

لدى علماء علم الكلام قاعدة تسمى: (قاعدة اللطف الإلهي)؛ فكل إنسان ما لم يكن معصومًا فهو يحتاج إلى تكميل وتتميم واقعي، وملء وتعبئة “اللهُمَّ مَن تَعَبَّأ وَتَهَيا وَأعَدَّ وَاستَعَدَّ لِوِفَادَةٍ إلى مَخلوقٍ رَجَاءَ رِفدِهِ وَطَلَبَ نائِلِهِ وَجائِزَتِهِ”(٦)

وأنّ مِنْ لازم تلك العناية، بعث الهُداة والمُرشـدين البالغين أقصى مراتب الكمال البشـري; لتكميل الناقصين من بني جنسـهم، ولا يتسـنّى التكميل والاهتداء إلاّ بالتسـليم والانقياد لهم، واليقين بعصمتهم عن الخطأ والخطيئة، وأنّهم مؤيدون بتلك العناية؛(٧)

لإتمام ذاك النقص، وتعبئة تلك القلوب وملؤها، لبلوغ أقصى مراتب الكمال البشري.

فكما أن الله ﷻ يرسل الأنبياء كي يحيوا النَّاس على الفطرة التي فطر الله النَّاس عليها؛ وذلك كون الفطرة ليست فاعلًا كاملًا، مقتضى الفطرة كي تكون فاعلة هي بعثة الأنبياء ﴿؏﴾؛ وهذا بمقتضى قاعدة اللطف التي أشرنا إليها.

فهذه القلوب الناقصة إذا لم يكتمل ما في القلب -وإن كانت مع الحسين ﴿؏﴾-؛ سيكون لديها انفصال بين ما في القلب والتطبيق، والذي يجعلها -القلوب- كاملة هي الفاعلية.

وهنا يكمن السرّ في عملية الإحياء، والأنموذج الذي أحدثته وقدمته السيّدة زينب الكبرى ﴿؏﴾ لإحياء هذه الأمة، فلكي تكتمل تلك القلوب والإرادات، مما يجعل السيّدة زينب ﴿؏﴾ تعمد لمعالجة هذا الأمر، ولذا نجدها ﴿؏﴾ عندما دخلت على أهل الكوفة ورأتهم وهم يبكون وينتحبون(٨) قالت: “أتبكون وتنتحبون؟! إي والله ! فابكوا كثيرًا واضحكوا قليلًا، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدًا، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة” إلى أن تصف الإمام الحسين ﴿؏﴾ بأوصاف  كثيرة ثم تقول: “أتدرون أيّ كبدٍ لرسول الله فَرَيتُم؟! وأيّ كريمةٍ له أبرزتم؟! وأي دمِ له سفكتم؟! وأيّ حرمةٍ له هتكتم؟! لقد جئتم بها صَلعاء عَنقاء سَوداء فَقماء، خَرقاء شَوهاء، كطِلاع الأرض وملء السماء … “(٩).

وبدوا وكأنهم نادمون وتائبون -على أحسن التقادير-؛ لكن هذه التوبة تُعدّ ناقصة؛ لا يسعها أن تحيي القلب كما جاء في الدعاء “فَأحيِهِ بِتَوبَةٍ مِنكَ يا أمَلي وَبُغيَتي وَيا سُؤلي وَمُنيَتي”(١٠) بملاحظة كونها جاءت نكرة تشير إلى كونها توبة عظيمة، كما وأنها ليست أيّ نحو من التوبة، بل و”بِتَوبَةٍ مِنكَ”؛ والتوبة درجات، والسيّدة زينب ﴿؏﴾ ترفع درجة التوبة لدى هؤلاء لتبلغ أعلى درجاتها، وتتحقق بهذه التوبة الإحياء “فَأحيِهِ”.

مستويات التفاعل والتأثر بالبكاء

مستويات التفاعل

وهناك ثلاثة مراتب ومستويات لتفاعل الإنسان وتأثره بالبكاء والجزع آخرها هو ما يحقق له الإحياء الكامل، ويتمم النقص والذي يؤدي إلى حُسن الفعل، بل واكتشاف حُسن ما قامت به السيّدة زينب ﴿؏﴾ عقلًا فضلًا عن النقل .

١- عندما يبكي الإنسان وينتحب ويتفاعل بنحو من الجزع مع شؤونه الشخصية كأن يخسر مالًا، أو يظلم من قبل الآخرين؛ فالعقل لا يرى ذلك الفعل مذمومًا إلى حدّ الشناعة، وإن كان الأمر غير ممدوح لكنه لا يعدّ قبيحًا، ولذلك فهو لا يُعدّ حرام شرعًا.

٢- هناك حالات إذا ما كان هذا البكاء صادر نحو جهة أخرى؛ قد يرى العقل فيه نوع من الحُسن؛ كأن يتفاعل مع الأبرياء والأطفال، أو ما يجري على المؤمنين عمومًا أو المسلمين في العالم؛ فقد تراه ينفعل ويبكي، وهو نوع من التفاعل مع الآخر الذي هو “نظير لك الخلق”، وهذا في الحقيقة مما يرى العقل أنه حسن؛ ولا يراه مذمومًا؛ ذلك من كون منبعه ومنشأه قيمة أخلاقية راقية يدركها العقل، فبالنظر العقلي يرى أن هذا البكاء ينبأ عن نباهة وقوة الإحساس ورهافة الحسّ وشفافية المشاعر، والتي يرى العقل فيها نوع من الحُسن.

٣- لكن هناك مرحلة من التفاعل يراها العقل كاملة أي كونها في قمة في الكمال كما ويرى حُسنها العقلي، وأن الدفع باتجاهها مطلوب وحسن، وهو عندما يكون هذا البكاء لانتهاك حرم الله ﷻ، أو عندما يتفاعل مع ما من شأنه أن يمسّ عبوديته لله ﷻ، ويربطه بربوبيته ﷻ؛ فالعقل يدرك أن منشأ هذا التفاعل هو ارتباط بين العبد وعظمة الله ﷻ، وأن منشأ هذا التفاعل هو في الحقيقة والواقع انكشاف رؤية الله ﷻ في باطن هذا الإنسان، فعندما يجزع لانتهاك حرمات الله ﷻ؛ فهو كاشف عن حُسن عميق في عقله، ودليل يعود إلى مسألة يرى العقل العملي أنها حسنة كون الإنسان اكتشف عظمة الله ﷻ وانكشفت له، وهذه في الحقيقة تجلٍ لقاعدة اللطف.

وبالعودة للإشكال المطروح في مفتتح الكلام نقول: إن كان أصل الإشكال وهو كيف إن الحسين ﴿؏﴾ يرسل أهل بيته ومعهم أغلى من فيه بنت علي وفاطمة ﴿؏﴾؟! وكيف يأخذ معه السيّدة الكبرى زينب ﴿؏﴾؟! وهنا نقول نخلص إلى نتيجة: إن كان العقل يرى قبح  ذلك الفعل من كونه ﴿؏﴾ يعرضها مع النساء والعيال للهتك؛ فإن حُسن العقل يرى ما هو أسمى من ذلك القبح، والتي تتمثل في قاعدة اللطف والتي يدرك العقل حسنها.

البكاء في المجالس الحسينية توجيه من العقيلة نحو الإحياء

نحن الموالون عندما نحيي مجالس الحسين ﴿؏﴾، ونبكي لرزئه وأهل بيته ﴿؏﴾، فنحن وكوننا نتصور قضية الإمام الحسين ﴿؏﴾، وربما وحتى قبل سماع صوت الناعي؛ ولكن كوننا نريده بكاءً موجهًا -فالناس بحاجة إلى توجيه- لذا فنحن نبحث عن من يوجه عقولنا وأرواحنا ونفوسنا وبكاءنا؛ فالبكاء يحتاج إلى توجيه ومرتبة، ثم إلى مرتبة أعلى، ثم إلى مرتبة أعلى منها، لإدراك حسن وصورة وعظمة الله وجلاله، حتى إذا ما مسّت عظمة الله ﷻ، بكينا بكاء العبد الخاضع بين يديّ الله ﷻ، ورأى العقل العملي حسن هذا البكاء، ورأى أن هذا البكاء هو من أعظم وأفضل العبادات التي يقوم بها.

فمن يمكن له أن يوجه النَّاس هذا التوجيه غير السيّدة زينب ﴿؏﴾ أن ترفع سقف التوبة والندم لدى هؤلاء، فكفى بالندم توبة، وأن توجه هذا البكاء، وأن تخرج هذا البكاء من كونه مجرد حالة عاطفية محدودة ومؤقتة، إلى بكاء واع يحيي الأمة ؛ ولذا فنحن كنا وما زلنا وسنبقى إلى أبد الدهر نبكي ما قالته زينب ﴿؏﴾، وما جرى عليها وعلى مخدرات الرسالة.

فكل هذا في الواقع هو تتميم لنقصنا، وتدخل من الله ﷻ، وجريان وسريان لقاعدة اللطف، كونها ﴿؏﴾ مصطفاة ومختارة من الله ﷻ لهذا الدور، ولهذا التتميم وهذا الإحياء.

الاصطفاء مقتضى الدور الإحيائي

ومن المصطفين أيضًا من أصحاب الإمام الحسين ﴿؏﴾ وأهل بيته هو علي الأكبر ﴿؏﴾ والاصطفاء له مراتب وقد أبدع القرآن الكريم في بيان هذا الاصطفاء؛ أولًا لهذا الاصطفاء مقدمات يقول ﷻ : ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ آل عمران: ٣١، وعلي الأكبر لأنه اتبع إمام زمانه الإمام الحسين ﴿؏﴾ فقد أحبه الله ﷻ ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ وطهره واصطفاه ثم تقول الآية الكريمة التي تليها: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ۞ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) آل عمران: ٣٢-٣٣، وبذلك ندرك أن الاصطفاء له مقدمات، كما وندرك بالوجدان أن هذه المقدمات تنطبق على علي الأكبر ﴿؏﴾ ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ أحبه الله ﷻ، ولأنه اتبع الإمام الحسين ﴿؏﴾ فقد غفر الله ﷻ  له كل نقص، حتى اصطفاه واختاره(١١)؛ وكما نعتقد إن الإمام الحسين ﴿؏﴾ عندما قرأ هذه الآية على علي الأكبر ﴿؏﴾ فقد طبق كل تلك الآيات الثلاث على علي الأكبر ﴿؏﴾، فإذا كان الإمام الحسين ﴿؏﴾ يعطل جميع أهل بيته ﴿؏﴾ عندما يستأذنونه في المبارزة؛ لأنهم رحمة الله ﷻ، ولكي لا تخلو الأرض منهم، فهم مرجع العباد، والوسيلة وهم الملاذ، لذا فقد كان يؤخرهم إلا علي الأكبر ﴿؏﴾ -كما قال كتاب السيرة- فما كان الحسين ﴿؏﴾ ضنينًا به ولا عليه، عندما استأذن علي الأكبر ﴿؏﴾ أباه الحسين ﴿؏﴾ للمعركة في الخبر فنظر إليه الحسين ﴿؏﴾ ونظرة يائس منه ثم قال: “يا عمر بن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي”(١٢)، واستعبر وبكى ﴿؏﴾ ونظر إلى السماء وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.

ألا لعنة الله على الظالمين.


  1. قول الله ﷻ ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ لتشمل بذلك الملائكة.
  2. فقال عقبة بن سمعان: فسرنا معه ساعة، فخفق عليه السلام وهو على ظهر فرسه خفقة ثم انتبه وهو يقول: ” إنا لله وإنا إليه راجعون ” والحمد لله رب العالمين ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين فقال: مم حمدت الله واسترجعت؟ قال: يا بني إني خفقت خفقة فعن لي فارس على فرس وهو يقول:
    القوم يسيرون، والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا، فقال له: يا أبت لا أراك الله سوءا، ألسنا على الحق؟ قال: بلى والله الذي مرجع العباد إليه، فقال:
    فإننا إذا ما نبالي أن نموت محقين، فقال له الحسين عليه السلام: جزاك الله من ولد خيرا.. بحار الأنوار – ج٤٤ – ص٣٧٩.
  3. سوف نستفيد في هذه المسألة من كلام للعلامة الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتاب نبذة من السياسة الحسينية.
  4. محمد بن جرير الطبري – دلائل الإمامة – ج١ ص ١٨٢.
  5. مناقب آل أبي طالب – ج ٣ – ص ٢٥٧.
  6. من أعمال ليلة الجمعة ونهارها – مفاتيح الجنان..
  7. استشهاد مقتبس من الكتاب السابق.
  8. بإذن الله سنتحدث في بحث اليوم 11 بنحو أكثر تفصيل.
  9. “أتبكون وتنتحبون؟! إي والله ! فابكوا كثيرًا واضحكوا قليلًا، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدًا، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم ومدرج سنتكم -وبرواية: وملاذ حربكم، ومعاذ حزبكم، و مفزع نازلتكم، ومقر سلمكم، ومنار محجتكم، ومدرجة حجتكم، ومدرّة ألسنتكم- ألا ساء ما تزرون وبعدًا لكم وسحقًا، فلقد خاب السعي وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله وضربت عليكم الذلّة والمسكنة، وَيلكم يا أهل الكوفة!  إلى أن تصف الإمام الحسين بأوصاف  كثيرة ثم تقول : أتدرون أيّ كبدٍ لرسول الله فَرَيتُم؟! وأيّ كريمةٍ له أبرزتم؟! وأي دمِ له سفكتم؟! وأيّ حرمةٍ له هتكتم؟! لقد جئتم بها صَلعاء عَنقاء سَوداء فَقماء، خَرقاء شَوهاء، كطِلاع الأرض وملء السماء … ” [اللهوف، 147-148، انتشارات جهان تهران، 1348 هـ ش].
  10. مناجاة التائبين.
  11. روي ان الحسين (ع) دعا: اللهم انا أهل بيت نبيك وذريته وقرابته فاقصم من ظلمنا وغصبنا حقنا انك سميع قريب، فقال محمد بن الأشعث: وأي قرابة بينك وبين محمد! فقرأ الحسين (ان الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض) ثم قال: اللهم أرني فيه في هذا اليوم ذلا عاجلا، فبرز ابن الأشعث للحاجة فلسعته عقرب على ذكره فسقط وهو يستغيث ويتقلب على حدثه [مناقب آل أبي طالب – ج٣ – ص ٢١٥].

  12. فلما لم يبق معه سوى أهل بيته خرج علي بن الحسين عليه السلام وكان من أصبح الناس وجها وأحسنهم خلقا فاستأذن أباه في القتال فأذن له ثم نظر إليه نظرة آيس منه وأرخى عليه السلام عينه وبكى ثم قال: اللهم أشهد فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقا وخلقا ومنطقا برسولك صلى الله عليه وآله وسلم وكنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إليه فصاح وقال يا بن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي فتقدم نحو القوم فقاتل قتال شديدا [اللهوف في قتلى الطفوف – السيد ابن طاووس – الصفحة ٦٧].

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬171 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...