تقدم القراءة:

حين تصنع الأمة على عين السجاد

5 أكتوبر، 2017

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

عظم الله أجورنا وأجوركم بشهادة سيدنا ومولانا الإمام زين العابدين عليه السلام.*

قال الله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ الزمر/ 9

لقد امتلأت حياة الإمام زين العابدين (ع) بالفاعلية والنشاط لهداية وتعليم وإرشاد الأمة، فقد كان دوره يتمثل في العودة بالأمة إلى المنهج المحمدي الأصيل، وكنا قد سلطنا الضوء سابقًا على هذا المقطع من حياة الإمام عليه السلام وتحدثنا حول إعداده الأمة ليكونوا أوعية للعلم. فإذا كان الإمام الباقر (ع) سوف يقوم بدور بقر علوم الأولين والآخرين وينشر المأثور المخفي المجهول من أبعاد الدين ويفتح باب العلم، فلاشك أن العلم يحتاج إلى وعاء صيقلي وصاف وطاهر ليكون نفّاعًا ومفيدا.

الآية التي استفتحت بها تبين قيمة وموقعيّة العالِم، وأنه لا يتساوى والذي لا يعلم. وعدم التساوي بين العالم والجاهل أمر ثابت بالوجدان، ولكن الخلاف يكمن في تحديد مركز التفاوت بينهما، وهو يعتمد على تعريف العلم.

ماهو العلم؟

     قيل أن العلم هو: حضور صورة الشيء عند الذهن، وهو الحاصل في الذهن من قوّة الحسّ أو الخيال أو الوهم أو قوّة العاقلة. وبناءً على هذا التعريف يصبح العلم مجرد صور ذهنية عارضة على العقل والذهن والخيال.

بينما يرى الحكماء الذين يقولون بالحركة الجوهرية أن العلم هو اتحاد العالم والمعلوم، فإذا عرف الإنسان شيئًا فإن ماعرفه وما علمه يصبح متحدًا معه، فالمعلوم الأولي للإنسان ليس حضور صورة الشي الموجود في الخارج، بل حدوث وحدة بين العالم والمعلوم، من هنا فإن وجود العالم يتجوهر ويشتد بزيادة علومه فتزيد بذلك نفسه ويتكامل وجوده، لذا فإن ما يحدث من تغيير للعالِم هنا ليس أمراً عرضيًا كحضور الصور الذهنية، بل هو قوة إضافية وسعة في نفس الإنسان فيصبح وجوده أشرف وأعلى وتتوسع واعيته.

من هنا سنفهم من قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أن الفارق بين العالم والجاهل فارق ذاتي وواقعي وكيفي، وليس هو صرف زيادة عددية للصور الذهنية. ولأن العلم كيف نفساني والنفس عقل ووجدان وقلب وبرهان، فالعلم يوسع وعاء العقل والقلب وهو مجموع الإنسان، من هنا فإن إعداد وعاء العلم لا يحدث إلا بتطهيره عن الأهواء والرغبات المادية، ولذا وردت عندنا تعابير كثيرة تجرّد التعلم من أي غاية لطلب العلم غير العلم نفسه “مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا”

وحين لا تساوي الآية بين العالم والجاهل، فليس كل عالم لا يتساوى مع الجاهل، إلا بهذا الشرط، أن يطلب العلم ليقترب من الحق جل وعلا ويصبح أكثر حقانية، وطريق ذلك هو طلب المعرفة والعلم والهداية والإرشاد عبر تصفية العقل والقلب بالقنوت (أي الخشوع في الصلاة) ورفع اليد لله بالدعاء لتغرف من سماء المعرفة لذا تبدأ الآية بـ ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ فما لم يحذر الإنسان الآخرة ويخشى الله لن يصبح وعاء قلبه وعقله سماويًا ليتلقى المعرفة.

    لقد كان أحد أهم الأدوار التي مارسها الإمام زين العابدين (ع) هو قلب أوعية الأمة من مقابلة الأرض إلى مقابلة السماء، لأن العلم المقابل للأرض ينبغي الاستعاذة منه “اللهم أني أعوذ بك من علم لا ينفع” والعلم الذي يبدأ من التراب وينتهي إلى التراب لا يزيد صاحبه إلا عمىً وبكمًا وصمما.

لقد جهد الإمام زين العابدين (ع) لنفض غبار الأهواء والغفلة عن العقول لكي يعدّها لتلقي العلم المبقور، وسعى إلى تطهير أوعية العلم لتجد في الباقر (ع) ضالتها.

إذاً دور الإمام الباقر (ع) ليس إضافة روايات إلى التراث الديني، بل هو شقّ طرق في العقول والقلوب وبقرها حتى بان النور المحمدي فيها. ولا شك أن شقّ هذه الطرق في العقول والقلوب هي عملية انقلاب ذاتيّ للأمة بحيث لا تساويها أمم الجهل، ليس في إمكانياتها الأرضية وفتحها للدول والأراضي فقط، لأن هذه كلها أمور عرضيّة.

إن عملية الانقلاب التي أحدثها زين العابدين (ع) لكي لا تتساوى هذه الأمة مع سائر أمم الجهل في ذاتها، في دنياها وأخراها وحكمتها وتعقلها وتقلبها من عالم الحقيقة.

وكما أن الله يصنع الأئمة على عينه فالناس صناعه الأئمة، وقد جاء في المأثور عنهم (ع) “نحن صنائع ربّنا، والخلق بعد صنائعنا” وقد صنع الإمام السجاد (ع) هذه الأمة المكبّة على وجهها وأعادها إلى صناعتها السماوية ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ الملك/22.

كان هذا مرورًا سريعًا على جانب من دور الإمام السجاد (ع)، وهذا ما كان يقلق طلاب الدنيا والشهوات ويثير حفيظه الحاكم الجاهل الأموي منه، وذلك لأنه انكشف للناس أن هناك وجودين متباينين لا يستويان: وجود يغرقهم في الطهر وآخر يجرّهم لأوحال الجهل، وجود يهيؤهم للباقرية والمحمدية وآخر يهيؤهم للبهيمية، ولا بد أن تصطدم المسيرتان، وتكون النتيجة ظلم أشد وجور أقسى، ومن ثمّ سُمّ الإمام وهو عليه السلام إلى آخر لحظاته يمارس دور توجيه القلوب إلى المركز الأصل.

ألا يلفتكم أن آخر ما كان يوصي به الإمام السجاد (ع) الإمام الباقر (ع) أن يبلغ شيعته أنه لا تنال شفاعتنا مستخفا بالصلاة؟

فالسلام عليك ياسيدي ومولاي وأنت تلفظ أنفاسك التي صنعت أوعيتنا باتجاه السماء لننال شفاعتك.


* ذكرى استشهاد الإمام السجاد عليه السلام. محرم/ 1439هـ

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬103 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...