البعثة المحمدية انطلاقة من ‌أعمق نقطة في الغيب

قال تعالى : ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ الجمعة 1-2

ليلة المبعث الشريف ليلة عظيمة الشأن، وشأنها شأن واقعي، ولها بعد عرفاني وروحي.* والقرآن حين يتحدث عن هذا الموضوع يبدأ بديباجة رائعة أشبه بافتتاح للكون وقص شريط الوجود. لرؤية جمال وأثر وواقع وحقيقة هذه البعثة. دعونا نتأمل في الآيات لكي نرى أين هي بعثة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله. 

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ 

ورد التسبيح في القرآن بكل مشتقاته (سبح لله، يسبح لله، سبحان الله، سبح اسم ربك الأعلى، سبحان الذي أسرى ..) وليس هناك شك في أن للتسبيح خصوصية وهو يتميز عن التحميد والتهليل. لاحظوا مثلا تسبيحة الزهراء (ع) هذا الذكر العظيم مع وجود التحميد والتكبير فيه إلا أنه يسمى تسبيحا.

التسبيح: مأخوذ من مصدر (السبْح) ، والسبح والسباحة هو الذهاب بعيدا وإغراقا في الماء من أجل التطهير ، ونحن عرفا نقول لمن يسبح في الماء بأنه سبّاح ويسبح ويعرف السباحة⁽¹⁾. الآية هنا تنسب تسبيح الله وتقديسه لكل الموجودات. لا شك أن التسبيح بما فيه من معنى إزالة النواقص التي تعرض الذهن عن الله سبحانه وتعالى فهو يستدعي انغماسا في التوحيد وغرقا في عالم المعرفة وتعقل الحقائق، ثم أن الفعل جاء بصيغة المضارع فهو يفيد الاستمرار والدوام. يقول السيد موسى الصدر: ” كل الموجودات عارفة بالله سبحانه وتعالى “ أي هي كالإنسان الذي يسبح في محيط التوحيد حتى يقترب أكثر باتجاه القدوسية والعظمة، لكن هناك موجود واحد يختلف تسبيحه عن بقية الموجودات وهذا ما سنبينه في الحديث.

معاني التسبيح:

ما معنى تسبيح الموجودات لله ؟ هناك تفسيران لمعنى تسبيح الكائنات:

الأول: تسبيح الموجودات يعني أننا إذا تأملنا نظام الموجودات سنجدها وفق نظام دقيق ومترابط، وحالها يحكي وحدانية الله سبحانه وتعالى، فهي تدور في نظام واحد وتنتهي إلى وجود منظم واحد وهو الله سبحانه وتعالى، فلو أخذنا مثلا عضوا من أعضاء الإنسان أو جينا في جسم الإنسان بل ما هو أقل من ذلك، فسوف نجد له نظاما دقيقا متقنا، هذا النظام يحكي بدون كلام عن وجود الله وعظمته وقدرته، ويدل على صفات الجمال والجلال المطلقة له سبحانه وتعالى، فهو مسبح لله تعالى من هذه الجهة. والتأمل في ذلك يطهرنا من أوساخ الغفلة وشوائب الجهل ويجعلنا نسبَح في معرفة الله.

الثاني: أن كل ما في هذا الكون ذو شعور وإدراك وتسبيحه هو تسبيح فعلي وواقعي، فالآية عندما تقول: ﴿لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ تعني أن إدراك تسبيح الموجودات لا يفقهه أي أحد⁽²⁾ . ولو كانت الآية تتحدث عن التسبيح التكويني الذي تحدثنا عنه لما قالت (لاتفقهون تسبيحهم), فكلنا نفقه ذلك النوع من التسبيح ، أما الذي لا نفقهه في الحقيقة هو أمر آخر ,وقد أشار له القرآن في قوله: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ [النور 41] فكل موجود في هذا الكون له صلاة معينة وتسبيح معين، و الفقيه كل الفقيه هو الذي يفقه تسبيح هذه الكائنات ويعرف منطقها، وهذا من صفات الأنبياء ﴿عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ [النمل 16] فلكل موجود منطق ولا يفقه منطق هذه الموجودات ويعرف إلى أين تذهب وإلى أين تنتهي سباحتها وإلى أي مقدار تصل هذه الموجودات أيا كان. وكل موجود يدرك بمقدار وجوده، والوجود لا ينفك عن الإدراك لأن الإدراك من أحكام الوجود.

إذن كل موجود هو مدرك عارف سالك له برنامج أخلاقي سلوكي عرفاني رباني ويقوم بهذا البرنامج عن علم ووعي منه فـ ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ فكل الكائنات عرفت صلاتها أي طريق سيرها وسلوكها فهل عرفنا نحن صلاتنا ؟ لا نقصد بذلك أحكام صلاتنا، بل صلاتنا بما هي صلة وموصلة بالله سبحانه. 

الخلاصة: أن التسبيح في الآية هو السبح بعيدا في تنزيه الله سبحانه والتخلص من كل العوالق والنقائص وهو شأن كل الموجودات.

معنى البعثة المحمدية:

﴿الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾

هذه الصفات الأربع لله سبحانه وتعالى متحدة هي التي توضح لنا معنى البعثة المحمدية، ولكل واحد من هذه الأسماء معنى مستقل سوف نوضحه على نحو السرعة، ولكننا بها مجتمعة نفهم البعثة المحمدية ونفهم سرها.

1- الملك: من أسماء الله ومعناه: هو الذي يملك القرارات ⁽³⁾ والله سبحانه ملِك ومالك وهناك فرق بينهما وهو أن المالك هو الذي يملك أعيان الأشياء ووجودها الظاهري بينما الملك هو الذي يملك القرارات. وبمثال بسيط يتضح الفرق بين الملكية والمالكية، فأنت تملك البيت وتملك يدك لكن مالكيتك للبيت مقتصرة على ملك عين البيت ووجوده الظاهري أما ملكك ليدك فيختلف لأنك تملكها وتملك التحكم فيها فأنت ملك عليها لا مالك لها فحسب، والكلام في هذه الآية عن جهة ملكية الله الذي في يده بواطننا وإرادتنا، و تقاديرنا.

2- القدوس: التقديس كما يقول الراغب الأصفهاني هو التطهير، والقدس الطهارة، ولو جاءت الآية باسم الملك دون اسم القدوس لوقعنا في تصور ملك كهؤلاء الملوك والسلاطين الذين نعرفهم , والسر في المزج بين الملكية والقدوسية هو أننا نجد عبر التجربة البشرية أنّ من مَلك استأثر، و طغى ولم يراع الحقوق، لأن أي مالك ملكه قائم على الناس.

نحن هنا نسبح وننزه مالكية الله عن هذا النحو ونفرغ أذهاننا من ظلم ملوك الأرض ولوثهم، وإلا فإننا لو انتزعنا القدوسية من الملك لبقيت هذه الشوائب، وظل ما ارتكز في أذهاننا من حالة التجبر والسيطرة، فالإنسان في الأعم الأغلب يبتلى بذلك حين يمتلك شيئا، أما الذي لا يقع في الظلم فهو إنسان معصوم، و مالم تكن هناك قدسية فالظلم محتمل. فحتى نتصور جمالية هذا الملك فقد اقترن بالتقديس والغنى، بالفيض والعطاء والمحبة.
3- العزيز
4- الحكيم
العزة هي نوع تمكن وتصرف في البواطن ونوع ملك الإرادات والقرارات والأمر والنهي، وهذا يحتاج إلى حكمة، ومن لا يمتلك الحكمة فأنت لا تثق في قراراته وأوامره ونواهيه.
هذه الصفات الأربع ممزوجة تفتح باب البعثة. وتصورنا للبعثة لا يتحقق إلا بهذه الأركان الأربعة متعاضدة؛ لأن كثيرا من الشبهات ناشئ من القراءة المجتزأة لأسماء الله سبحانه. يقول الشهيد مطهري: “سألني أحدهم: الله أليس قادر أن يدخلنا الجنة بدون أن يجعلنا في هذه الدنيا ويبتلينا بها ؟ قلت : نعم هو كذلك . قال: وهل هو قادر مطلق ولاشيء يحدّ قدرته ؟ قلت له : نعم . قال : إذن لما لا يريحنا ويدخلنا الجنة بدل هذا العناء ؟ فقلت له: أنت أخذت اسم الله (القادر) لوحده والحال أن هذا القادر هو حكيم ورحيم ومعط… الخ، أخذت اسما واحدا وتريد أن تفهم به كل الأمور!”.
أقول إن مثل هذا الشخص، مثل شخص يرى حلقة من مسلسل ويريد أن يفهم بها القصة من أولها إلى آخرها !

صاحب الميزان له كلمة رائعة يقول: لولا أن آدم وقع في الخطيئة لما رأى رحمة الله سبحانه ولا عرف لطفه، فرحمة الله ولطفه ليست لفظا ولا كلاما، بل هي أن ترى نفسك تخطئ وتعصي والله سبحانه وتعالى يستر عليك، أن ترى نفسك أكثر شخص يعيب على نفسه ورب العالمين يعفو عنك … بل يقول صاحب الميزان أن آدم لو لم يأكل من الشجرة لكان خطؤه أكبر، فكيف كان سيتعرف على رحمة الله. للعرفاء مصطلح اسمه تناكح الأسماء الإلهية، وهو يعني أن الأسماء الإلهية تتزاوج وتولد أسماء غيرها. يمكننا القول هنا أن أربعة أسماء تناكحت وولدت البعثة المحمدية. وكما أن كل الكائنات هي باتجاه التسبيح والسبح والتطهير فكذلك الإنسانية تحتاج إلى تسبيح وتطهير وتقديس وتزكية حتى تذهب غرقا في معرفة الله سبحانه وتعالى ,ولا يتحقق الغرق إلا بهذه الأسماء لكن ذلك يحدث عمليا بالبعثة.

البعثة تنطلق من أعمق نقاط الغيب:

لاحظوا كيف بدأت الآية الحديث عن البعثة ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم﴾ بدأت بـ (هو) حيث ضمير الغائب.
القرآن أحيانًا ينسب بعض الأفعال لله سبحانه وتعالى على نحو العموم والجمع ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [المؤمنون:18]  ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا﴾ [يس: 33] ولكن هناك حالات خاصة ينسب الفعل الإلهي فيها إلى الهوية الغيبية لله، ومنها هذه الآية ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم﴾ أي لم يتدخل أحد في بعثة هذا الإنسان (محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وآله) ولم يتسبب أي عامل في انتخابه لا البيئة ولا الوراثة، ولم يشارك في اختياره بل هو منتخب مباشرة من عالم الغيب المحض، ومن ذلك العالم انطلقت بعثته.

وإذا كانت كل الكائنات تنطلق من عالم السبح والتسبيح والتطهير لتصل إلى الله، فقد بدأت بعثته صلوات الله عليه وعلى آله من حيث تريد أن تنتهي المخلوقات، فهو صلوات الله عليه بدأ من العمق وحركته بدأت من الهوية الإلهية. كل الكائنات تسبح في عالم التقديس وقد علمت صلاتها وتسبيحها .. تتحرك لتصل إلى عمق المحيط ولكنها مازالت تسبَح ( يسبّح لله ..) فعل مضارع يفيد الاستمرار، لكن الذي بدأ من عمق المحيط هو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾

(بعث) : البعث في اللغة هو الحياة بعد الموت، وبعثة رسول الله صلى الله عليه وآله ليست للأبدان بل للأرواح، والروح لها مراتب، وطموح رسول الله أن يحيي هذه الأرواح في أعلى مراتبها.

(في الأميين رسولا منهم) الأمي: هو الجاهل الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يوجد عنده طريق للعلم والمعرفة.

رسولا: من مادة ( أرسل ) وأصل الإرسال في اللغة هو الإطلاق، ولذلك قال نبي الله موسى لفرعون ” أن أرسل معي بني إسرائيل “لأن فرعون كان قد قيّدهم بسيطرته عليهم، فموسى يطلب منه أن يرخي أعنّتهم.
والنبي صلى الله عليه وآله رسول بعث لإرسال هذه الأمة الأميّة فكانت معجزته في أوساطهم هي علمه ومعرفته.

لفتة:
علينا أن نلفت أن لفظ ( معجزة ) ليس لفظا قرآنيا، وليس له ارتباط بالمذاق القرآني فالله لا يريد أن يعجز أحداً لذا لنتفق على استبدالها باللفظ القرآني ( آية ). فإذا كانت آية عيسى أنه يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، وآية موسى هي العصا والحية وسبع آيات بينات، فإن آية محمد بن عبد الله هي ذاته، كان أميّا ولكنه يأتي للإنسانية بكتاب لا شبيه له ولا مثيل في مادته ولفظه في حال أنه لم يدرس ولم يتعلم.

من طريف ما ينقل القرآن أن من الشبهات التي أثاروها حول رسول الله والقرآن أنهم يتهمون رسول الله بأنه يأتيه رجل أعجمي فيعلمه ، فيقول القرآن: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل 103] لكن القرآن يرد عليهم بأنه لو كان هناك من يعلمه مضامين القرآن فماذا عن آيات القرآن في بيانه ولفظه، فالمعجزة – أقولها تسامحا – ليست في المضمون فقط بل في القالب والكسوة اللغوية البديعة أيضا ! , والحق أنه لو كان يأخذ هذا العلم عن غيره فلِمَ لم يدّع ذاك الرجل النبوة لنفسه ؟!!

وظائف النبي صلى الله عليه وآله:

تحدثت الآية هنا عن وظائف النبي صلى الله عليه وآله، وبقدر ما يستفيد الإنسان من هذه الوظائف، يكون قد سبح في عالم البعثة وتطهر به. فوظيفة رسول الله (ص) أن يزيل ما علق في النفوس والعقول الأرواح والأعمال والأخلاق من نقص، لذا لاحظوا الآية تحدثت عن ثلاث وظائف:

الوظيفة الأولى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ التلاوة هي القراءة الدائمة حيث أن (يتلو) فعل مضارع، ثم أن التلاوة نفسها تفيد القراءة المتتابعة. رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله في تلاوة مستمرة للقرآن، وإذا كان ربيع القرآن بالنسبة للناس هو شهر رمضان فرسول الله (ص) كل دهره ربيع للقران فهو في كل زمان (يتلو عليهم آياته).

الوظيفة الثانية: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ والتزكية تعني التطهير والنمو والرشد. إن أمام كل موجود في هذا الكون موانع تمنع من رشده، وآفات تحيط به. ونمو الإنسان الروحي معرض للآفات كالزرع عندما ينبت وتحيط به آفات تمنع نموه اذا لم ترفع وتقتلع. أحد وظائف رسول الله (ص) في البعثة هي إزالة أسباب عدم النماء وعدم الرشد وعدم الترقي وهذا ما يسمى بالتزكية. وإذا كان الإنسان هو المسؤول عن تزكية نفسه، فرسول الله مسؤول عن تزكيتنا جميعا وهذه مهمة كبيرة. يقول الشهيد مطهري: رسول الله صلى الله عليه وآله مسؤول عن تهذيب أخلاقنا وعن إزالة الموانع التي تحول دون رشدنا ومسؤول أن يدخلنا في هذه اللجج الربانية لنتطهر .

كيف يمارس رسول الله ص هذه الوظيفة ؟ لانعر . فهذه المهمة كلها غيب في غيب وقد رأينا كيف بدأت الآية من هوية غيبية. كل ما نعرفه أنه صلوات الله عليه يمارس تزكيتنا آنا آنا ( فالتعبير بالمضارع يفيد الاستمرار ) وهو محيط بنا.

الوظيفة الثالثة: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ والفرق بين الكتاب والحكمة هو أن الكتاب هو القرآن بما فيه من أحكام إلهية ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة183]. الكتاب هو القران، أما الحكمة فهي ممارسة رسول الله (ص) لتطبيق هذه الحقائق الموجودة في القرآن. والحكمة هي إدارة النفس، إدارة المنازل، إدارة المدن⁽⁴⁾ أي أن رسول الله (ص) يقوم بدور سياسي هذا الدور السياسي هو من الحكمة، وإدارة رسول الله للأسرة من الحكمة. وحتى يؤثر تعليم الكتاب ويؤتي ثماره لابد أن يكون إلى جانبه الحكمة، فالقران مثلا يتحدث عن الصلاة لكنه لم يفصل في أحكام الصلاة وهذا دور الحكمة.

هناك معنى لطيف يذكره العرفاء في قول رسول الله صلى الله عليه وآله )صلوا كما رأيتموني أصلي) نحن نعلم أن تفاصيل الصلاة ليست موجودة في القران، فتعليم الحكمة هو أن يعلمنا الرسول كيف نصلي. يقول الفقهاء في معنى الرواية: صلوا كما رأيتموني أصلي: أي انظروا طريقة وضوئي وصلاتي وحركات ركوعي وسجودي. لكن للعرفاء فهم آخر مفاده: ليس ظاهر الصلاة وأحكامها هو المقصود بل اجعلوا نوع صلاتي أمامكم وتمثلوها. ورد في الروايات أنه صلى الله عليه وآله إذا أذن المؤذن كان كأنه لا يعرف أحدا. وللشيخ جوادي لفتة دقيقة هنا حيث يقول: صلوا كما رأيتموني أصلي، لا تقتصر على الصلاة بل هي مطلقة يعني صوموا مثل ماريتموني أصوم، وحجوا مثل ماريتموني أحج، وتخلقوا كما رأيتموني أتخلق .. الخ.

﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾

الذي اهتدى بتعليم رسول الله وتزكيته هم من اتبع الكتاب والعترة (أني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي) كتاب الله بلا عترة لا ينتهي إلى نتيجة، ومن قال ( حسبنا كتاب الله ) فصل بين الكتاب والحكمة فقد قال صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: (أنا مدينة الحكمة وأنت يا علي بابها) وخليفة رسول الله يمارس دور رسول الله في التطهير والتزكية لأنها عمل مستمر حتى تكون كل الكائنات في حالة سير وسلوك داخل محيط المعرفة والوحدانية والاتصال بالله سبحانه.

الحمد الله الذي رزقنا في الدنيا محبتهم ومعرفتهم ونسأله أن لا يحرمنا في الآخرة قربهم وشفاعتهم والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المحاضرة بمناسبة البعثة النوية لعام 1435هـ

(1) السبح: المرّ السريع في الماء وفي الهواء، واستعير لمرّ النجوم في الفلك ( وكل في فلك يسبحون ) والتسبيح تنزيه الله تعالى وأصله المرّ السريع في عبادة الله . [ مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني 329 (بتصرف) ]

(2) الفقيه في الاصطلاح هو الذي يجمع من عناصر موضوع ما من النصوص الشرعية ويستنبط منها حكما . هذه القدرة هي ميزة الفقيه فالفرق بين الفقيه وغيره هو ما يفهمه دون غيره من الروايات .

(3) الملك: هو المتصرف بالأمر والنهي في الجمهور وذلك يختص بسياسة الناطقين ولهذا يقال: ملك الناس ولا يقال : ملك الأشياء . ( مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني / 774 )

(4) تنحصر الحكمة العملية في ثلاثة أقسام: الحكمة المدنية أو علم سياسة المدن، والحكمة المنزلية أو علم تدبير العائلة، والحكمة الخلقية أو علم الأخلاق . ( مبادئ الفلسفة الإسلامية / عبد الجبار الرفاعي )