تقدم القراءة:

الأمومة والبنى التأسيسية

20 أبريل، 2014

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا • وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا …..﴾ إلى أن يقول: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا﴾(1) 

لا شك أن موضوع المرأة قابل لأن نتحدث فيه من حيثيات كثيرة وجوانب عدة، فبعضها يخصّ شخصية المرأة نفسها، وبعضها يتحدث عن موقعها كأم أو زوجه أو أخت، وتختلف الأبحاث باختلاف حيثيتها فقهية أو إنسانية أو كلامية.

أما حديثنا فسيكون عن المرأة من حيث كونها أُمّا، وموقعها التأسيسي في النسيج الاجتماعي والبنى التحتية لنظامه، مقابل من يعتقد أن أساس البناء الاجتماعي هو الاقتصاد وأن الطبقات الاقتصادية والوضع المالي هو الأصل في بقية النسيج الاجتماعي.

نحن ندعي أن الأمّ هي أصل البناء الاجتماعي وأساسه، ومن معتقدات وأفكار هذا المدّعى أن الأمومة هي الأرض التي تصنعها الأم وتؤسسها فتحوّل ما تحت أقدامها إما إلى جنّة أو إلى جهنّم حارقة وشقاء الدارين – والعياذ بالله – وهي دعوى يتفق عليها التربويون فضلاً عن الثقافات التي تزخر بها الديانات الإلهية. وما أكثر مضامين النصوص الدينية التي تؤكد ذلك، فقد جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال (صلى الله عليه وآله): أمك. قال: ثم من؟ قال (صلى الله عليه وآله): أمك. قال: ثم من؟ قال (صلى الله عليه وآله): أمك. قال: ثم من؟ قال (صلى الله عليه وآله): أباك.(2) ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): «الجنة تحت أقدام الأمهات» وقوله (صلى الله عليه وآله): «تحت أقدام الأمهات روضة من رياض الجنة..»(3).

وسنثبت هذه الدعوى بدليل تلفيقي من المعقول والمنقول. 

فقد قسم الفلاسفة و المدارس العقلية الحكمة الى قسمين:

– حكمة نظريّة: وسموها بالعلم الأعلى، وهي معرفة ما يجب أن يُعرف أو العلم بالموجود كما هو تجنبا عن الوقوع في الوهم والخيال والجهل.

– حكمة عمليّة: والتي موضوعها العمل والسلوك وصياغة التعامل وفق ما يجب أن يُعمل. وتعد الحكمة العملية هي أساس سعادة الإنسان، وهي ما يحول بينه وبين الوقوع في الانحراف والخروج إلى سبيل الشقاء، ومن ثم التأثر والتأثير على المجتمع الذي هو عبارة عن روح مركبة من مجموع هذه السلوكيات الأخلاقية.

أين دور الأمومة من هذه المنظومة؟

سأتناول البحث مستفيدة من الآية القرآنية التي صدّرت بها الحديث:

القران تحدث عن الحكمتين: النظرية والعملية. وهذه الآية تعتبر من أهم الآيات التي تحدثت عن جوانب الحكمة العملية وكونها الضمان والأساس والأرضية الصلبة التي يقوم عليها نسيج المجتمع. الذي كلما كان قويا وراسخا سادت السلامة والعدالة والأمن والاستقرار في المجتمع، وانتظم الشأن الاقتصادي والسياسي وأقيمت بذلك الدولة الفاضلة. وتتميز الأم هنا بأنّ عقل المرأة العملي أكثر فعالية من عقل الرجل، وهو ما أثبت في محلّه. 

ولبيان ذلك نعرض ما قاله الحكماء في هذه المسألة:

قلنا أن الحكماء يقسمون فعاليات العقل إلى: فعالية عملية وفعالية نظرية. 

الفعالية النظرية تتعلق بالتدقيق والتفكر في الأمور النظرية، ونفس هذا التدقيق إذا تعلق بالأمور ذات الطابع العملي كالحب والإرادة والشوق سمّي بالعقل العملي. وكثير ما يصل العقل نظرياًّ إلى أن المصلحة في أمور معينة والمفسدة في أمور أخرى، ولكن يحجبه عن الالتزام بذلك على مستوى السلوك ضعف عقله العمليّ، وضعف الانبعاث والحبّ والتحرك والطلب. يقول الحكماء هنا أنه باعتبار أنّ المرأة موجود رقيق عاطفيّ سريع الميل فلا فاصل بين وعيها لحقيقة معينة وسرعة طلبها وانبعاثها لها. أي ليس هناك حجاب – على حد تعبيرهم – بين الإدراك والتأثر وبين العمل، وهذا مائز في الأمومة يجعلها أكثر تأثراً بالموعظة وأشد حساسية من الخطأ وأسرع تحركا لتغييره. وهي أسرع أيضا في تحصيل المصلحة، فهي شديدة الحرص على مصلحة أبنائها بحيث تلتفت للجزئيات وصغار الأمور وتنفعل منها ولها، ولا يخفى أن عدم التهاون بالصغائر كي لا تتحول إلى كبائر هو أحد عناصر التربية الصحيحة والتوقي من المساقط وشدة النفور منها بمجرد ظهور قرائنها، هو خير عاصم من الانزلاق فيها، وهذا من خصوصيات الأم، وهو أمر مشهود .. فإن الأم حينما تلاحظ بوادر الخطر على ابنها فإن ذلك يدفعها لأن تتحرك عشرات الخطوات وتتخذ الإجراءات العملية لذلك، في الوقت الذي لا يحرك الرجل قدما واحدة، وذلك لأن قوى التأثير والتحريك والانبعاث والحب تختلف تكوينا فيهما، والتربية تحتاج للأول بالدرجة الأولى وإن احتاجت بعض الوظائف للآخر.

الآية التي بين أيدينا عبارة عن وصايا إلهية هي بمثابة الخريطة العملية لتحقّق الحكمة العملية، لأن الله في آخر الآية يقول: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ.

يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ

شرعت الآية من أعلى قمة وأول مقتضى من مقتضيات الحكمة، وهذه هي الخطوه الأولى التي إن ثبتت عليها الأقدام يبدأ بناء المدينة الفاضلة وكما يقول الشاعر الفارسي: “ابدأ التحرك من باب ليلى القلب لتكون صاحب عزم وإرادة”. ثم عطف على هذا القضاء (ومعنى القضاء الحكم المبرم الذي لا رجوع عنه) عطف عليه قضاء آخر فقال: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ وهو محطة توقفنا. وهذه هي الحلقة الثانية من الحكمة العملية.

لقد بحث البعض في علّة قرن الإحسان للوالدين بعبادة الله سبحانه – وبدليل آخر مذكور في محله يثبت فقهيا وقرآنيا وحكميّا أن دور الأم ورضاها وبرها مقدّم على رضا الأب – فقالوا أنّ هناك تناسب بين علتين: علّة إيجاد الله للإنسان كعلة إيجادية وعلّة وجود الأبناء عبر واسطة الوالدين كعلّة معدّة، ولهذا التناسب كان مقتضى ترتّب الحكمة العملية، فكان الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله مباشرة. ولكن بالتدقيق في سائر الآيات نعلم أن الأمر أكثر عمقا ودقّة من ذلك.

سنستعرض دليلاً آخر لسبب اقتران دور الأم بعبودية الله باستعراض مناسبة هي الأهم بينهما. وهي التي تسلط الضوء على موقعية الأمومة كركيزة أساسية في البناء الاجتماعي: إن التناسب بين الإحسان والأمر بشدة الارتباط بالوالدين وترتيب ذلك على عبودية الله وربوبيته هو جانب المسانخة والتشابه العجيب بين الربوبية والأمومة.

إننا مهما بحثنا في كل الروابط والعلاقات الاجتماعية لن نجد علاقة هي أشبه بعلاقة الخالق بالمخلوق كرابطة الأمومة،  وبمقارنة سريعة نجد نقاط التشابه التالية:

1 – الله سبحانه غنيّ عن العباد، وإنما يرزقهم حبّا لهم قال الإمام علي عليه السلام: (إن الله خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم)(4). والأم سليمة الفطرة أيّا كانت ديانتها إنما ترعى أبنائها بباعث الحب والمودة والسعي لمصلحتهم فقط.

2 – إن العبد يتفلّت دوما من هذا الحب والرعاية الإلهية، وكلما توهّم الغني طغى وسعى في قطع العلاقة (إنك تتحبب إلي فأتبغض إليك ,وتتودد إلي فلا أقبل منك)(5).

إن نفس هذه المعادلة نجدها بين الأم والأبناء، فكلما كبر الابن بدا عنده الشعور بالغنى والتفلّت حتى من تلقّي المحبة، وظهرت عنده الرغبة في الاستقلال، بينما الأم فكلما كبرت ونضجت تشبثت بها خصائص الأمومة ونأشبت فيها أظفار المحبة، و تولّعت فيها أحكامها.

3 – إن من شأن الربوبية المراقبة والمحاسبة والمراودة كما يقول الحكماء، وهذا يتجلى تماماً في الأمومة، فبعد مرحلة الاحتضان تقتضي الأمومة مراقبة الأبناء لكي لا يقعوا في المفسدة، والمحاسبة حين الوقوع في الخطأ، والمراودة بعد التوبة.

إن تقصير الأم عن أداء هذه الوظيفة لا يؤدي إلى قطع النسل بل قطع الحكمة والأخلاق والفضيلة.

يجدر أن نشير هنا إلى أن التوجيه الأول الذي ذكرناه للآية إنما يترتب عليه أنه إذا انقطعت العلاقة مع الأم انقطع النسل المادي والتناسل، ولكن بعد عرض جانب المسانخة بين الأمومة والربوبية سنجد أن قطع العلاقة مع الأم لا يعني قطع التناسل المادي فقط، بل يعني قطع التناسل الروحيّ والفكريّ والثقافي ّوالمعرفيّ، وقطع أسباب الرحمة لأن الأمومة أشبه بجرعة ربانية مزرّقة في النفس الإنسانية وفطرتها.

الأمومة وليدة تجلّي الربوبية في المرأة:

الأمومة في الأنثى ليست دوراً لمرحلة معينة كالزوجية التي تتفتح في سنّ معين ثم تخبو، وليست وليدة حاجة بدنية أو ماديّة كما هي بقيّة الحاجات، بل هي وليدة تجلّي الربوبية بسعة مفهوم الربوبية.

ولذا لو أخذنا مفهوما كـ (صله الرحم) مثلا – الذي أصله الأم فلم يعبّر بصلة الأصلاب مثلا! – فسنجد أن كل البشرية تعود لرحم واحد. فأمومة المرأة مظهر لسعة رحمة الله (ورحمتي وسعت كل شي) فالمرأة أم لأبنائها وأم لأبيها وأم لمجتمعها وصديقاتها وزميلات العمل … ولكلّ الشرائح التي تحتكّ بها، وتحت أقدام هذه الأنثى جنّة السعادة، وبها تبنى المدينة الفاضلة.

ولذا كان عقوقها من أكبر الكبائر. ومن أصول الحياة الحكيمة التأكيد على هذا الدور، والتثقيف عليه وإعداد المجتمع ليتحول من مجتمع ذكوريّ إلى مجتمع ينسج من هذين العمودين (المرأة والرجل) جنّة عرضها السموات والأرض ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾.

ممارسة الأمومة في ظل التحديات المعاصرة:

ربما نتساءل بعد هذا: كيف تمارس المرأة اليوم أمومتها في ظلّ التحديات الكبيرة في هذه العصر، ومع هذه الهجمة الشرسة التي تتقاذف إنسان اليوم من كل الأطراف؟

هناك قواعد أساسية تمكن مراعاتها الأم من تأدية مسؤوليتها الإلهية وهي:

1- المراقبة :

كما يقول صاحب الميزان في رسالة الولاية، وهي تبدأ من سن الطفولة. فللتربية أصول ومن أهمها البدار، والاستفادة من خلوّ ذهن الطفل من المزاحمات. بل حتى في التربية الاجتماعية يعد السباق لزراعة القيم واقياً للإنسان من الشبهات المستحكمة. فالمبادرة فرصه ذهبية ولذلك يقول الأمير (ع) في وصية للإمام الحسن (ع): “ولقد بادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك”.

2- مراعاة مناهج وأساليب التربية ومنها:

أ• الدعوة القولية والتدریب والممارسة و التكرار والتلقین: ومما يؤسف له أنّ أغلب الأمهات يتصورن أن قولهن تكويني تقول للشيء كن فيكون! ويتصور العلماء والخطباء أن التربية هي سماع الموعظة مرات ومرات ثم يرهقهم التكرار .. وكأننا لا نسمع قول نبي الله نوح: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا • فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا • وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا • ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا • ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾(6)هذا مع إن القول والموعظة القولية هي أضعف مراتب التأثير.

ب• الدعوة العملية لأعلى مراتب الفضائل: إن المتأمل في سلوك الزهراء عليها السلام يراها عمليّا كانت أعبد الناس، وأطوع الناس وكل هذا بمرأى ومسمع من أبنائها، وهذا بخلاف النظرية التي سادت اليوم أنه يجب أن نطرح الدين والتدين والسلوك التسامحي لكي لا ننفر من الدين، والحق أن الدين هو الدفينة المودعة في الأعماق، والذي يجب أن لا نتوقف من أجل إبرازه عن الحفر داخل الروح والنفس الفطرية لاكتشافه وإثارته وتحريكه، لأننا كلما حفرنا أكثر ظهر لنا الدين أصفى وأجلى وأشد.


1.  الإسراء 23-39

2. الكافي: ج2 ص159 

3. مستدرك الوسائل: ج15 ص180

4. نهج البلاغة

5. دعاء الافتتاح

6. نوح: 5-9

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬293 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فزت ورب الكعبة 0 (0)

﷽ السلام عليك يا رسول الله، السلام على أمير المؤمنين، وعلى الصديقة الطاهرة، وعلى الأئمة المعصومين.   السلام عليك يا أمير المؤمنين، ويعسوب الدين، وقائد الغر المحجلين، السلام عليك يا باب الله، السلام عليك يا عين الله الناظرة، ويده الباسطة وأذنه الواعية، وحكمته البالغة،...

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...