كانت الشعائر الحسينيّة هي المنطلق لكلّ الشعائر التي تقام اليوم لإحياء مناسبات أهل البيت عليهم السلام، وإذا كنّا سابقا لا نحتاج إلى دراستها وتدقيق النظر فيها وتصحيحها؛ لأنّها كانت تمارس محلّيا ضمن دائرة داخليّة يغلب عليها التوافق العرفي والترسّل؛ فقد غدت الآن تحت الشمس في الفضائيات وعبر شبكات التواصل الاجتماعيّة فخرجت من حيّز التساهل العرفيّ، وصار الوضع يقتضي خطابا صالحا لنقدّم به أنفسنا للعالم، ونعرّف به مذهبنا للآخرين.*
لذا نرى من الضرورة اليوم ومن موقع المسؤوليّة أن نعيد التأمّل في مدى صلاحيتها وهي في صورتها الحاليّة. ومدى جدوائيّتها في نقل رسالة المذهب بالصورة العقلائيّة للآخرين، إذ ربّما نكون سبباً لإعطاء صورة سيّئة عن أمر له من القدسيّة والقيمة والموقعيّة والتأثير والبناء الفكريّ والاجتماعيّ ما لا يوجد في مذهب آخر.
وحيث أنّ المنطلق لتقييم أيّ ظاهرة تنسب إلى الدين؛ والقاعدة العقليّة الأولى التي يبنى عليها كلّ سلوكنا الدينيّ هو مقدار ما في تلك الظاهرة من جلب النفع والفائدة والتعليم والتربية، ومقدار ما فيها من دفع للضرر وعلاج المفاسد.. فعلينا أن نضع هذه الشعائر في الميزان، ونعرف ما هو المجدي منها وما هو المضرّ؟
فهل المسألة تعبّدية صرفة وتوقيفيّة كأحكام الصلاة والصوم والمستحبّات؟ أم أنّ لها بعدا آخر منطقيّا وعقلائيّا يُعمل العاقل فيه نظره؟!
لا شك أنّ تلك الشعائر ليست من التوقيفيّات المحضة، فأقصى ما تدلّ عليه الوصايا الدينيّة هو إحياء ذكر أهل البيت بشكل عامّ، والتعبّد لله بتثقيف المجتمعات على قيم آل محمّد (ص) ومبادئهم. أمّا الأسلوب فهو متروك للذوق السليم والمنطق الصحيح. ومن هذه الفرجة ربّما تتسلّل بعض الأوهام، وتتدخّل العوامل النفسيّة والبيئيّة والاجتماعيّة المختلفة.
إذن يجب أن يكون هناك معيار لهذه الشعائر، معيار ينسجم والمنظومة العقائديّة التي تحكيها، فهذه الشعائر لا تكتسب قيمة إلا حين تنسجم مع هذه المنظومة .
وبرغم ما نراه من حرص شديد جدّاً عند أغلب الشيعة على إحياء هذه المراسم؛ من وقف للحسينيّات، التي يتحمّل الناس تلقائيا مسئوليّة إدارتها والإنفاق الدائم عليها، وتفرّغ شريحة من المجتمع لممارسة الخطابة والوعظ، وإقامة المراسم بشكل دؤوب، واجتماع الناس لذلك، وسريان هذه المراسم في المجتمعات الشيعيّة بشكل لا تقدر عليه دول..
لكن يبقى السؤال: ما هو المجدي منها وما هو المضرّ؟ وكيف ننقّح هذه الشعائر بحيث يؤتي نفعها الروحيّ والعلميّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ ثماره؟!
هل يمكن أن لا نبالي بالتحليل المنطقيّ لهذه الشعائر، ونكتفي بالدوافع النظيفة والنوايا الحسنة؟ هل صِرف صدق النوايا كاف؟
هل يمكن أن يترك لنا الدين مطلق الحريّة لنعبّر كما نشاء وكما يحلو لنا؟
بمعنى آخر.. هل لإقامة الشعائر موضوعيّة في نظر الدين بغضّ النظر عن ارتباطها بالقيم الرساليّة، أم أنّ استحبابها طريقيّ أي أنّه طريق لإحياء أهداف الرسالة؟
لا شكّ أنّ التعبدّ بهذه الشعائر له دور كبير، ولكن لا شكّ أيضا أنّه ينبغي التعبّد بها بمقدار ما ينسجم والمنظومة الفكريّة للمذهب.
وعلى سبيل المثال.. تمرّ علينا هذه الأيام ذكرى وفاة السيّدة أمّ البنين رضوان الله عليها (بناء على تساهل في تاريخ الوفاة).
لكنّنا نجد ظواهر غريبة جدّا يصعب علينا تفسيرها طبقا للعقلانيّة التي هي شرط المعتقد.
فنرى شموعا تشعل ومفارش خضراء تمدّ، وسبحا ملوّنة توزع على الحضور، وسفرا عليها ما لذّ وطاب من المأكولات بألوان معيّنة ممّا يستدعي التوقّف !
صحيح أنّه ليس في هذا العمل حرمة لأنّ الأصل الإباحة، لكن كيف تحوّلت تلك الطقوس إلى عادات انتشرت في كلّ المناطق وكأنّها توقيفيات شرعيّة، حتّى بات يُخشي أن تصيغ هذه الشعائر عاداتنا وتقاليدنا ونفسيّاتنا! فنحوّل تلك المراسيم إلى قربات نستغني بها عن مضمون رسالة السيّدة أمّ البنين رضوان الله عليها. فنكون كمن شبع بالقشور وألقى اللبّ، أو كما يقول الشهيد المطهّريّ: “نكون كالمريض الذي يعيش شبعا كاذبا وبدنه ليس مليئا إلاّ بالسموم والأمراض”.
______________________________________________________________________________
* المحاضرة بمناسبة وفاة السيدة الجليلة أم البنبن رضوان الله عليها .
0 تعليق