تقدم القراءة:

مواقع النجوم ٨

11 يناير، 2010

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

مواقع النجوم ٨/ السنة السجادية

يمكننا أن نقول أن الإمام السجّاد عليه السلام كان عيسويّ النهج، فقد نفخ في هذه الأمّة التي ماتت فيها روح الإسلام وتحوّلت إلى مجرّد طين من روحه التي هي روح الشريعة، وبعثها لتعود أمّة تنبض بالحياة.* وقد أثّر بنهجه العيسويّ هذا على الجميع، سواء من كان يملك القابليّة أو لا، فامتدّ تأثيره وشمل حتّى العبيد والإماء، ولأنه (ع) أطول الأئمّة عمرا فقد كان تأثيره أيضا كبيراً وواسعاً.

لقد وصلت الأمّة إلى مرحلة أن تُعد أمّة كافرة تمامًا في باطنها، ومستعدّة لممارسة كلّ سلوكيّات الكفر، فقد وصلت لاستحلال دمّ أهل البيت عليهم السلام. إن استعدادها للكفر والانحراف امتدّ إلى جميع الشؤون والمعاملات السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة، لأن شعلة روح الإسلام انطفأت في أعماقها، والحال أن ميزة الشريعة الإسلاميّة هي تلك الروح، والتي هي الارتباط الواقعي بين التكوين والتشريع.

 التشريع الإلهي ينقسم إلى:

1/ أحكام، وهي ظاهر الشريعة.

2/ آداب وسنن، تحيط الحكم الشرعيّ، وهي زينة الحكم وجماله.

3/ أسرار وحقائق تمثّل باطن العمل وارتباطه بعالم السماء.

لم يستطع الخلفاء الذين استولوا على السلطة بعد الرسول (ص) أن يقضوا على الأحكام الإسلاميّة في بعدها الحسّيّ، لأن الأمور الحسّيّة يصعب القضاء عليها، ولكنهم أماتوا روح الإسلام في تلك الأحكام، وساعدهم على ذلك بساطة الناس وقلّة وعيهم، فلم يلمسوا هذا الفصل الخطير بين أحكام الإسلام وروحه.

ولم يكن تفريغ الإسلام من روحه وليد الزمن الذي عاش فيه الإمام السجّاد عليه السلام، بل كانت البداية إبعاد الإمام عليّ سلام الله عليه عن موقعه، وقد قال الأمير (ع) متنبّئا بهذه النتيجة إبّان خلافة معاوية: (لُبِس الإسلام لبس الفرو مقلوبًا)(١) فقد كان أجمل شيء يلبسه العربيّ آنذاك هو معطف الفرو، فإذا لبسه أحد بالمقلوب لا شك أنه يصبح أضحوكة، وهذا عين ما فعله الخلفاء، فقد حوّلوا الدين إلى أضحوكة حين انتزعوا روحه، فصار الدين صلاة بلا معنى وزكاة بلا معنى وحجّ بلا معنى.

الإمام السجاد يحيي الأعماق: 

بعد كربلاء اتّضح فعلا أن هذه الروح في الأمة قد انتهت، وتحوّلت الأمّة إلى مجرّد طين، فكانت بحاجة إلى كفّ عيسوية تبعث الروح فيها لتطير وتحلّق. لهذا وجد الإمام علي بن الحسين عليه السلام أن دوره هو مدّ يد لطفه لإحياء هذه الأمّة الميّتة بكلّ المقاييس، لقد كانت سنّته عليه السلام هي بثّ روح الشريعة وعشق الدين في أعماق الإنسانيّة. وما الصحيفة السجاديّة إلاّ مفردة ومظهر من لمسات الإمام التي بثّت الروح في هذه الأمّة، لأن الإمام (ع) أدرك أن هذا البلاء سيلازم الأمّة في المستقبل، فكان دوره أن يترك للأمّة سِفراً مليئاً بالقيم والمفاهيم يكون أمانا لها من هذا الانزلاق الخطير، لما للمفاهيم من قابلية الانتقال عبر الأجيال. 

لقد سعى الإمام عبر دوره ذاك لأن يحيي روح الدين في أعماق الناس، فمن يطالع الصحيفة السجادية يلمس هذه الروح تنبعث في أعماقه. ولعل الرواية التالية تبيّن أثر هذه السنّة السجاديّة وجريانها في النفوس: (جاء في الآثار أن أصحاب الإمام المهديّ عليه السلام يخرجون من الأعماق)(٢)

 هناك عدّة وجوه لفهم الرواية:

الوجه الأول: أن أصحاب الإمام -باعتبار الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة- هم مجموعة مبتعدة عن الناس، وحياتهم الخاصّة محاطة بالخفاء والكمون، هذا البعد عن الناس ليس من حيث المكان، وإنما من حيث طبيعة الثقافة والفكر الذي يعتقدون به، فهو لا يتناسب مع طبيعة الناس وحياتهم، وإذا ابتعد الإنسان عن الناس في نهجه الفكريّ والحياتيّ يسمى بعيداً.

الوجه الثاني: معنى أن أصحاب الإمام يأتون من الأعماق أنهم يأتون من أماكن بعيدة بعداً عميقا عن مكة، فإذا نظرنا إلى الحواضر الشيعيّة كإيران ولبنان والعراق والمناطق الشيعيّة الشرقيّة نجد موقعها بالقياس إلى مكّة يعتبر بعيداً جدّا.

الوجه الثالث: وهو متناسب مع السنّة السجادية من جهة، ومنسجم مع التقسيم الذي أوردناه لأحكام الدين سلفاً من جهة أخرى. وهو أن المراد من الذين يأتون من الأعماق هم من يكون دافعهم للاتصال بإمامهم هو حركة وانبعاث نابع من الأعماق.

ولو تأمّلنا في تعاطي الناس مع الأبعاد الثلاثة السالفة الذكر للدين، نجد أن الذي يكتفي من الدين بالظاهر، ولا تشكّل له روح الدين مطلباً ولا غاية، فهذا في الواقع لا يعيش منتظراً، بل يستهلك حياته ويستنفذ رأسماله بلا فائدة. لأن الإنسان إذا وقف على القالب الظاهريّ للدين فسوف يصبح سطحيّاً في تعاطيه مع الدين، فلا يتحرّك من الأعماق، والحال أن المطلوب من المؤمن أكثر من هذا الظاهر.

 إن أصحاب الإمام الذين سوف يتبنّون هذا المشروع وهذه الحركة هم بين مجموعتين :

  • إمّا أناس مؤمنون بمنهج أهل البيت، لكن عقيدتهم منشؤها البيئة والمناخ والمحيط الخارجيّ، وهم ملتزمون عمليّا بما قاله الأئمّة (ع)، لكن التجارب أثببت عبر التاريخ أن عقيدة هؤلاء لا تصمد أمام الفتن والشبهات الشديدة.
  • وإمّا أناس (يأتون من الأعماق) بمعنى أنهم لا يكتفون بالظاهر في فهمهم للدين، بل هم يتحرّكون من الأعماق، والجامع المشترك الذي يجعلهم يتّصلون بالإمام عليه السلام هو هذا البعد العميق، وروح الدين والشريعة والمعتقد. وهؤلاء هم من سيحمل المشروع فعلاً. 

عشق الدين هو المؤمّن، من الانزلاق: 

إذا وقف الإنسان على البعد السطحيّ الظاهريّ في أيّ مشروع يخوضه ويعمل عليه فستبقى في جوفه منطقة فارغة، ولأنها لن تبقى فارغة إلى الأبد؛ فسوف تتعبّأ بشيء آخر. والأسلوب الصحيح لتبنّي الدين هو عشق الدين، ولايصبح الدين فعّالا جذّابا حيويّا إلا إذا لامس تلك المنطقة العميقة جدّا في الإنسان، وصبغها بلونه، وأعطاها طعمه ورائحته. لذلك يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله: (أفضل الناس من عشق العبادة وعانقها وأحبّها بقلبه وباشرها بجسده وتفرّغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا؟ على عسر أم على يسر)(٣) لم يقل رسول الله (ص) أن أفضل الناس من التزم بأداء العبادات أو أكثر من ذكر الله، أو قيّد نفسه بآداب الشريعة، الميزان في الأفضليّة هو عشق العبادة.

والعشق هو أعمق نقطة في سويداء القلب، حين يتعلّق القلب بالوصول لشيء يكون قد عشقه، وعندما يصل العاشق فإن كلّ حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله تصطبغ بصبغة المعشوق. وأفضل الناس هو الذي استطاع أداء الأحكام الشرعية: ظاهرها، وآدابها، وزاد بأن لمس روح الأحكام الشرعية، وارتبط بها وعشقها حتّى (عانقها). والمعانقة لكلّ ما يرتبط بالمعشوق ترتب طبيعيّ على العشق.

 أما المرحلة التالية (باشرها ببدنه) فالتحرك البدنيّ يأتي في المرحلة الثالثة بعد العشق والعناق للعبادة، هذه الحركة المترتّبة على العشق هي حركة من الأعماق، وهذه هي ميزة الإنسان المنتظر للمشروع الإلهي. سئل أبو سهل النوبختيّ لماذا كانت السفارة بعد محمد بن عثمان في الحسين بن روح النوبختي؟ فقال أن أبا القاسم الحسين بن روح رجل لو كانت الحجّة تحت ذيله وقرّض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه.(٤) هذا عين ما قام به الإمام زين العابدين عليه السلام, فقد أظهر هذا العمق وأبرز هذه الروح، وأحياها بكفّه العيسوية بلطف لا يكون إلاّ في محمّد وآله.

وهذا ليس صرف مدّعى، والقرآن شاهد، فبنو إسرائيل الذين جعل منهم القرآن نموذج الأمّة التي تشكو منها ملائكة السماء وملائكة الأرض، عندما تصوّروا أنهم قتلوا نبيّ الله عيسى (ع) قالوا: ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾ النساء 157. لاحظوا الافتخار في قولهم (إِنَّا)، إنه تماماً مثل قول القائل:

املأ ركابي فضة أو ذهبا

إني قتلت السيّد المحجّبا

قتلت خير الناس أمّاً وأبا

لقد وصل المجتمع إلى حدّ الافتخار بقتل سبط رسول الله (ص)، وعندما تصل الأمّة إلى هذا المستوى فالحال الطبيعي أن أولياء الله يأسفون ﴿فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ..﴾ الزخرف 55، الله لا يأسف على شيء فالمقصود يكون: آسفوا أوليائنا.

لكم من الموجع أن النبيّ عيسى عليه السلام حينما آسفه قومه رُفع إلى الله، بينما حين آسفت هذه الأمّة رسول الله (ص)، وفعلت ما فعلت في أهل بيته، بل آسفت الكون حتّى بكت السماء والجدران و..  وأصبحت أمّة ميؤوسا منها، وتستحقّ الانتقام الإلهيّ، لم ينتقم الله منهم بل أنقذهم أن أوليائهم هم أرحم البشر، والذي منع نقمة الله من النزول عليهم هو وجود عليّ بن الحسين عليه السلام.

ورغم موت هذه الأمّة وتحوّلها إلى طين، إلاّ أن الإمام برحمته ولطفه كان يحمل الأمل بين جوانحه لهذه الأمّة، فنفخ فيها من جديد فأحيا من أحيا منهم، لأنه بدأ يحرّكهم من الأعماق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المحاضرة بمناسبة وفاة الإمام السجاد عليه السلام  

(١) نهج البلاغة

(٢) جاء في كنز العمال حديث رقم (31443) عن ابي غسان المديني قال‏:‏ قدمنا الشام مع داود بن فراهج ومعنا رجل من بني وعلة السبائي كان صاحب علم وحكم فقال داود‏:‏ انت رجل شريف الق هذا الرجل وتعرض له – يعني الوليد بن يزيد – فبالحري ان ترد علينا خيرا، فقال‏:‏ انه مقتول لتمام اربعين ليلة من هذا اليوم وهو انقضاء خلافة العرب الى قيام صاحب الوادي من ال ابي سفيان ثم يعود الى الشام سنتهم حتى يكونوا اصحاب الأعماق، فقال داود بن فراهج‏:‏ سمعت ابا هريرة يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقول‏:‏ صاحب الأعماق الذي يهزم الله العدو، على يديه نصر، فقال‏:‏ انما سمي نصرا لنصر الله اياه.

(٣) الكافي ج 2، ص 83، رواية 3 

(٤) الغيبة للطوسي ص391 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬363 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...