تقدم القراءة:

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣

5
(2)

بسم الله الرحمن الرحيم 

السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.

عظم الله أجورنا وأجوركم بشهادة سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين، وجعلنا الله وإياكم من الطالبين بثأره.

لا زال الحديث عن دور السيّدة زينب ﴿؏﴾ الاجتماعي وبحسب المرتكزات السابقة نستكمل الحديث

وانكشف الغطاء 

بعد اليوم العاشرمن المحرم الحرام، انكشف الغطاء وأصبح كلُّ شيءٍ بيّنًا؛ خطوات أولياء الله ﴿؏﴾، وخطوات الشيطان ومتبعيهم في كلا الجانبين.

إن إتباع خطوات الشيطان لهو تسافل من درجات السلّم الإنساني إلى الهوي والحضيض؛ وهذا ما حدث بعد وفاة النبي ﷺ وآله لمن سوّل الشيطان وأملى لهم؛ فاتبعوا خطواته وانقلبوا على أعقابهم(١)، وبعد أحداث هذا اليوم بانت آخر درجات هذا السلّم؛ إذ أنه لا يُتصور من أمة أيّ نبي أن تأتي بما جاءت به أمة محمد بن عبدالله ﷺ وآله في مثل هذا اليوم، فهم وإن كانوا قطعوه وهجروه وخانوه وكذبوه، وكما أنهم نقضوا ونكثوا مواعيده وبيعته؛ اليوم يقتلون سبطه وحبيب قلبه ووارثه، ويبقى ملقىً على الصعيد ثلاثة أيام بلا غسل ولا كفن، وبنات رسول الله ﷺ وآله سبايا يُطاف بهن بين البلدان.

سلاح المواجهة والمعالجة للسيّدة زينب ﴿؏﴾ 

تقف في هذا الوقت حفيدة النبي الأعظم ﷺ وآله زينب ﴿؏﴾ لتعالج هذا الإسفاف والانحراف العقائدي والفكري والإنساني الذي شمل كل مرافق الدولة الإسلامية، وقفت لتضع حدًا لذاك التهاوي والسقوط بما تمتلك من رؤية إلهية حكيمة للأمور، مُتسلحة بقوة عزم وشجاعة معجزة، موقف جهادي؛ لأنها ﴿؏﴾ تواجه عدوًا من حيث الظاهر والمادة يمتلك إمكانات هائلة، من جند ومال وسلاح وعتاد، دولة مترامية الأطراف، ومن حيث الباطن والجانب غير المادي (المعنوي)؛ فهي تواجه جنود الجهل والشيطنة في حربٍ قد قامت على أشدها في كل الأرجاء وعلى مختلف الجبهات.

لو أردنا أن نتسائل عن الأسلحة التي ستواجه بها السيّدة زينب ﴿؏﴾ تلك القوة الغاشمة، قد يتبادر إلى الذهن يمكن لها ﴿؏﴾ أن تنطلق لمحاربة هذا الجيش وهذه الشياطين، بما تحمله من قيم واقعية واقتدار علمي وقوة بيان، وهذا نظريًا صحيح، فزينب ﴿؏﴾ سليلة بيت العصمة والطهارة، فجدها النبي ﷺ وآله خاض حروب كثيرة، وأبيها  أمير المؤمنين ﴿؏﴾ شارك في العديد من الحروب والصراعات، وأمها  الزهراء وأخويها الحسن والحسين ﴿؏﴾ منذ الولادة وحتى الشهادة تاريخ جهادي حافل؛ لذا فتجربتها العميقة حاضرة وثّابة، وإن كانت كل تلك تعدّ إمكانيات روحية ومعنوية، وخبرة كبيرة وعميقة ومنطلق وقوة وعزم، قلما تجتمع لشخص كما اجتمعت لزينب ﴿؏﴾؛ ولكن الأهم من كل ذلك هو إمكانياتها الشخصية التي لا نظير لها، فإن السيّدة زينب ﴿؏﴾ ممن آتاهم الله ﷻ الحكمة وفصل الخطاب.

إن أبرز ما يميز شخصية السيّدة زينب ﴿؏﴾ هي الرؤية المتماسكة التي لا انثلام فيها مع اختلاف مراحل حياتها وظروفها، فهذا التماسك في شخصيتها وانثنائها وتطابقها على بعضها البعض، حيث لا يناقض شيء من أقوالها وأفعالها ذاتها، ولا العكس صحيح.

ويمكن استفادة هذا المعنى من تعبير المفكر جورج جرداق(٢) وتأكيده حول النقطة الرئيسية والمركزية لقوة شخصية أمير المؤمنين ﴿؏﴾، حيث يضرب لذلك مثالًا فيقول: إن تماسك شخصية أمير المؤمنين ووحدتها في كل خصائصها، أشبه ما يكون بتماسك الطبيعة.

فعندما ننظر للطبيعة وما تحويه من تربة وماء وهواء؛ فإننا نجد أن الوردة لا تزهر إلا عندما يزودها التراب بكل ما فيه من مواد وعناصر هامة لعملية النمو، لتعود هي وتعطي التراب كل ما فيها، كذلك الهواء والماء يزودانها بما تحتاجه من عناصر، فلا بدّ من هذا التماسك لتأمين حياة الوردة. 

ولذلك فإن الله ﷻ يأمر الإنسان ويدعوه للنظر والتأمل في هذه الطبيعة، ليرى هل فيها من فطور، أو انثلام، أو فرجة، بل سيرى تماسكًا بين كل تلك الجزيئات حيث تنتهي كلها إلى حركة واحدة وتوجه واحد.

ويرى جورج جرداق أن روح الإمام علي ﴿؏﴾ هي كذلك أيضًا، إذ أن هناك تلازمًا بين الروح الكلية أو العقل الكلي، وما يتمتع به ﴿؏﴾ من قدرة وحكمة ورؤية، وهذا معنى فلسفي يُعبر عنه أهل الحكمة (بالغاية من دراسة الحكمة)، وهي أن يُصبح الإنسان كونًا عقليًا أو عقلًا كاملًا كالكون الموجود في الخارج.

ويقول:

إن هذه الروح الكلية أوالعقل الكامل إذا ما قارناه بأحوال أمير المؤمنين ﴿؏﴾، وأحوال النّاس من حوله، ومع اختلاف الزمان والمكان؛ فإن هذا سيكشف لنا عن شمولية شخصية أمير المؤمنين ﴿؏﴾، والتنوع الموجود في وحدة شخصيته؛ فمع أنها متكثرة الأبعاد وشمولية، لكنها ترتبط بشيء واحد، فهذا الإنسان الحكيم في حكمته والكون المُحكم، يرى الكون في مجمله كيانًا واحدًا.

الرؤية الواعية “العقلية”

يقول الله ﷻ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات:٥٦، وكنظرة أولية ، نلحظ إن الآية الكريمة فيها حصر لوظيفة الجن والإنس؛ إذ لم تقل ما خلقت إنسانًا أو ما خلقت فردًا من الجن، بل قالت ما خلقت ﴿الْجِنَّ وَالْإِنْسَ﴾، أيّ خلقت كل الجن والإنس لغرض وهدف وهو عبادة الله ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وهذا معنى ظاهر من الآية الكريمة.

ولكن هناك معنى آخر وهو ظاهر أيضًا؛ ولكن بحاجة إلى بعض التدقيق، وهو أن العبادة في الحقيقة تُسل من باطن الجن والإنس، فالعبادة لا تأتي -ليست مفروضة- بالقوة، بل هي في الحقيقة في دواخل الجن والإنس، وعندما يقول ﷻ ﴿الْجِنَّ وَالْإِنْسَ﴾ يقصد به كل الخلق في السماء والأرض، أيّ أنهم خُلقوا بحيث أن كل ما يصدرعنهم يتحول إلى عبادة، وهذه الرؤية الواعية لكل المخلوقات، فكلٌ يُسبح بحمده؛ فإذا ما فكًّكْنا باطن المخلوقات؛ سندرك أنها خُلقت كي تعرف الله ﷻ، وهذه هي الرؤية هي التي تجعل الإنسان حكيمًا متماسكًا، لا يتناقض عنده شئ عن شئ آخر.

ونضرب لذلك مثالًا، إذ أنه ومن الملاحظ أن الإنسان ومن خلال الممارسات الطبيعية التي يقوم بها في مراحل عمره المختلفة نجد لديه بعض المتناقضات بين أقواله أو أفعاله التي صدرت عنه قبل مرحلة سابقة من عمره عما عليه حاليًا، وقد نلاحظ ذلك من خلال المعاشرات فهناك الكثير من النّاس قد يتبنى فكرة في عمر محدد ثم يعدل عنها، وقد ينتقد ظاهرة ثم قد يُسلّم بها في وقت لاحق، وقد يكون هذا الانسجام مستمر في أقواله وأفعاله؛ ولكن لا يوجد انسجام مستمر في الرؤية؛ وهو الأهمّ والأشدّ من كونه موجود في الأقوال والأفعال.

إن عدم الانسجام في الرؤية أو لنقل هذا الانثلام في الشخصية -الموجود بداية- هو ما قد يؤدي إلى تلك التقلبات -على الأقل- في وجهات النظر؛ بينما الرؤية المنسجمة والمتعاضدة هي التي تبدأ من رؤية الإنسان بأن كل مخلوق إنما خلق لعبادة الله ﷻ، ويستطيع أن يرى الحقّ فيه كما يقول أمير المؤمنين ﴿؏﴾ “ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه”.(٣)

بمعنى أن رؤية الله ﷻ تستل من باطن هذا المخلوق، وهذه هي الرؤية العقلية.   

وفوق هذه الرؤية العقلية هناك الرؤية التوحيدية، وهي المعرفة الحقيقية بالأشياء التي تجعل الله ﷻ ظاهرًا.

الرؤية التوحيدية

الرؤية التوحيدية في الحقيقة هي التي تجعل الحكيم يرى نواميس الأشياء الواقعية  الثابتة وقوانينها، فالكون كما يقول الفلاسفة متحرك، ولكنه كذلك ثابت في حركته لا يغير نواميسه وسننه وقوانينه، فسنن الله ﷻ لا تتبدل ولا تتغير(٤) 

والحكيم هو الذي يرى سنن الله ﷻ، وهذه أقوى نقطة تجعل شخصيته منسجمة ومتماسكة وقوية.

فإذا ما استطاع الإنسان أن يرى تلك الموجودات الجزئية مترابطة، ولها حقوق على بعضها البعض، وأن السماوات والأرض قامت بالحقّ  كما ورد عن أمير المؤمنين ﴿؏﴾ قوله: “إنما قامت السموات والأرض بالحق”(٥)؛ عند ذلك ستصبح هذه أقوى نقطة ومرتكز في شخصية الإنسان.

 روح زينب ﴿؏﴾ في مواجهة حبائل الشيطان 

إن أقوى نقطة اعتمدت عليها السيّدة زينب ﴿؏﴾ في مكنتها من مواجهة القوى الغاشمة ليس فقط تراكم التجارب لديها؛ بل في رؤيتها التي لم ينفذ لها الشيطان أبدًا؛ لأن الشيطان كما يذكر القرآن  الكريم ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ الأعراف: ١٥٣ 

في الرواية الواردة في ليلة العاشر من المحرم الحرام، عندما ضاق صدر الإمام الحسين ﴿؏﴾، وبقي وحيدًا فريدًا ولم يكن في الخيام غير زينب ﴿؏﴾، وعندما علمت بما سيجري على أخيها ﴿؏﴾ بكت، فقال لها: “لا يذهبن بحلمك الشيطان”(٦)

وليس معنى ذلك أن الشيطان موجود في دواخل زينب ﴿؏﴾؛ حيث يسعه أن يسيطر عليها أو يذهب بحلمها؛ بل هو على غرار قول الله ﷻ للأنبياء ﴿؏﴾: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ الحج:٥٢

فالأمنية إما أن تكون شيئًا في النّفس أو تكون شيئًا في الخارج؛ فالأب الذي يتمنى أن يدرس ابنه ويبلغ أعلى المراتب، فابنه الذي في أمنيته ليس داخل نفس الأب، بل هو موجود في الخارج.

ومحال أن يؤسس الشيطان أو أن يلقي في أمنية الأنبياء ﴿؏﴾ أو أن يضعف ما في دواخلهم وأعماق باطنهم؛ لأن أولياء الله ﷻ ليس للشيطان عليهم من سبيل.

نعم قد يعبث الشيطان في مساعي الأنبياء ﴿؏﴾، ويؤجج الصراعات الدائرة بين الأنبياء ﴿؏﴾ والمشركين والكفار، فيساعد الكفار، ويلقي في أمنية الأنبياء (الخارجية)، فالنّاس إذا ما قست قلوبهم أصبحوا ألعوبة بيدّ الشيطان، وهذه ساحة كبيرة وصراع كبير بين المؤمنين وبين المتآمرين على الإيمان؛ وسيعبثون بأماني الأنبياء ﴿؏﴾، والتي هي النصر وظهور التوحيد، وهذا شئ غير جديد، فالشيطان يحيك مؤامرته دائمًا وأبدًا.

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

السيّدة زينب ﴿؏﴾ ومواجهة أقسى أنواع عنف الخارج  “العنف الرمزي”

إن السيّدة زينب ﴿؏﴾ وإن كانت في ساحة الصراع بين الحق والباطل لا تغفل عن الشيطان، ومحال أن ينفذ إليها -كما بيّنا-؛ إلا أنه في الخارج أيضًا يجب أن تتسلح بسلاح قوي وواعٍ جدًا، فالموقف حساس، وعليها أن تحسب لكل حركة حسابها، فتعرف متى عليها أن تتحدث، أو تلزم الصمت، فلا تستغفل أو تستدرج، ويسحب البساط عن مشروعها من حيث لا تحتسب؛ لأن ما ستلقاه من عنف وقساوة وشدة و بكل المعايير يحتاج في مقابله إلى انكشاف ووعي وإدراك ومعرفة. 

 فالحديث ليس عن الممارسات الخشنة والعنيفة التي ستواجهها زينب ﴿؏﴾ في قابل الأيام من بعد شهادة الإمام الحسين ﴿؏﴾، مما قام به جلاوزة القافلة وأزلام نظام بني أمية؛ حيث أشبعوها وأهل بيتها ونسوتها وإمامها ضربًا، وشدًا بالحبال، وسبًا وشتمًا لها ولأبيها وأهل بيتها ﴿؏﴾؛ فتلك الممارسات يمكن أن تدفع من خلال المعالجة والإرشاد والتوجيه، وهذا أمر ممكن تصوره بحال من الأحوال، وإنما الحديث هنا عن عنف من نوع آخر هو أعمق وأدق وأكثر شدة وبلاء، وهو العنف الروحي والحرب والشيطنة التي مارسها أغلب الأمة؛ وربما لذلك فقد تكرر لعن الأمة -وليس الأفراد- في الزيارة المطلقة الأولى للإمام الحسين ﴿؏﴾: “لُعِنَتْ اُمَّةٌ قَتَلَتْكُمْ وَاُمَّةٌ خالَفَتْكُمْ وَاُمَّةٌ جَحَدَتْ وِلايَتَكُمْ وَاُمَّةٌ ظاهَرَتْ عَلَيْكُمْ وَاُمَّةٌ شَهِدَتْ وَلَمْ تَسْتَشْهِدْ ، الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ النَّارَ مَأْواهُمْ وَبِئْسَ وِرْدُ الوارِدِينَ وَبِئْسَ الورْدُ المَوْرُودُ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ”.(٧)

إن هذا العنف الاجتماعي -غير عنف بني أمية وجيشهم-، قد عبّر عنه الفلاسفة المتأخرون بالعنف الرمزي، وهذا النوع من العنف -في كثير من الأحيان- لا يلتفت من يمارسه على الآخرين كونه عنفًا، كذلك الذي يقع عليه -العنف- قد لا يدرك أنه عنفًا، ويتم ذلك عادة من خلال ممارسة الطبقية الاجتماعية -إن صحّ التعبير-.

ولتقريب الصورة نضرب لذلك مثالًا: عندما يشعر أيّ أحد بنحو من الارتياح لتمكنه وتسلطه على شخص آخر مظلوم أو غير متمكن من الدفاع عنه نفسه، فإنه ومن خلال تلك الممارسات وإظهار تلك الإمكانيات التي يملكها؛ هو يمارس عنفًا؛ ولكنه من النوع غير البيّن وغير الواضح، كونه ليس بنحو الضرب على الأكتاف، ولا من نوع الكلام الجارح، ولا هو سبابًا أو لعنًا. 

كذلك عندما تعيش الأمة حالة من الراحة والرخاء واللا مبالاة أمام شخص يحيا كل تلك الظلامات من أجلها؛ وهي تسمع وترى، ولم تستشهد ولم تلتحق بركب الإمام الحسين ﴿؏﴾؛ فهي أمة ملعونة، وهذه الأمة ككل هي تمارس نحوًا من العنف، ولو أن فردًا من هذه الأمة يمارس عنفًا رمزيًّا فإن اكتشافه ليس بالأمر السهل واليسير، وعندما نقول بأن الفلاسفة المتأخرين اكتشفوه، نريد أن نبين كيف أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ سلطت عليه الضوء عليه وأبانته.

 ويمكن أن نضرب لذلك مثالًا ما يجري في مثل هذه الأيام مما يسمى بالعنف الاقتصادي، عندما يملك أحدهم بيت ومال وحياة مرفهة، ولسعادته بما يملك تراه يصور وينشر ويبث صوره عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يفعل ذلك وهو قد لا يقصد الإساءة أو الأذية أو استهداف أحدهم، ولكن في الأعماق هو يمارس عنفًا خفيًا ضد الآخرين ممن لا يملكون تلك أو بعض تلك الإمكانيات، وهو وإن كان خفيًا، ولكن مثله مثل السلاح، فهو يضغط نفسيًا على ضعفاء الحال، وهذا الضغط النفسي الذي يجري على الآخرين يلعب ويغير ويوجد في دواخلهم استعدادات قوية للميل نحو الدنيا والنزوح نحو الشرّ، من حيث لا يلتفت، خاصة في بعض الظروف الاجتماعية؛ إذ أن هناك أناس مكلومة، وأسراء، وشهداء، وعندما يمارس الإنسان حياته بأريحية تامة وعدم مبالاته بغيره، فهو يمارس ضغطًا اجتماعيًا ونفسيًا على الآخرين. 

إن العنف الرمزي ليس حربًا ناعمة، فإذا مورس على شعب أو فئة أو جماعة؛ فإنه ولو بعد زواله تبقى آثاره موجودة، وضحايا هذا العنف وإن لم يشعروا بذلك بداية؛ فإنه يبقى في أعماقهم؛ كونه خفي، ويصعب تفكيكه كما ويحتاج للمتابعة. 

وهنا نقول: فنحن لم ندرك واقع ماذا جرى على سبايا آل البيت ﴿؏﴾، ولم نرَ تلك الصور العنيفة ولا يمكن أن نتصورها بحال؛ ولكن عندما يقال ضربوهم برؤوس الرماح، وأركبوهم على نياق عجفاء، فالإنسان بطبيعته يدرك الأمور الحسيّة، أما العنف الرمزي الذي مورس عليهم يعرف ويكشف بالتحليل والفلسفة فحسب.

النجاة من العنف الرمزي بالاعتصام بحبل العقيلة ﴿؏﴾

إن للسيّدة زينب ﴿؏﴾ دور خاص في مواجهة كل ذلك العنف الذي عبرنا عنه بالعنف الرمزي، والذي كان قد مورس بأبشع أشكاله على سبايا أهل بيت العصمة والطهارة ﴿؏﴾، وفيهم الأطفال والصبية، وقد أدخلوهم ﴿؏﴾ مجالس الطغاة وهم مقيدون وذلك من خلال إظهار الشماتة بهم، واتخاذ يوم شهادة الحسين ﴿؏﴾ عيد من الأعياد، حيث أعلنوا مظاهر الفرح والسرور، وحثّوا النّاس على لبس الجديد ، وقرع الأجراس عند أبواب الشام، فهو كما جاء في الزيارة يوم فرحت به آل زياد وآل مروان وغيرهم عليهم لعائن الله. (٨) 

بل هناك مما لا يحصى من صور العنف الذي أُريد به كسر هويتهم وشخصيتهم وسلبهم مرجعيتهم وموقعتيهم في قلوب المؤمنين، وكل ذلك كان كفيلًا بأن يكسر ويثني ويحرف هؤلاء الأطفال ويمرضهم روحيًا؛ ولكن أّنى ذلك وحاميتهم عقيلة الطالبيين زينب ﴿؏﴾؛ والتي قامت ﴿؏﴾ بدور يتناسب مع عقيليتها، حيث أوصاها الإمام الحسين ﴿؏﴾ أن تكون معقلًا لهم، وأن تحولهم إلى نفائس وكرائم ثمينة عبر التاريخ يرى فيهم أنوار علي وفاطمة ﴿؏﴾؛ فهم النور والمشكاة التي لا تنطفأ.

فأحد معاني كنية زينب ﴿؏﴾ بالعقيلة، هو هذا الدور وهذه الوظيفة، فأما أن يكون معناه عقيلة كل شيء أيّ أكرمهم، وبهذا المعنى يقال للرجل عقيلة، يقول أستاذنا الشيخ جوادي الآملي: العقيلة تعني المرأة الكريمة النفيسة المخدرة.

وهناك معنى آخر لطيف للعقيلة، وهو رأس الجبل الذي هو معقل الغزلان، يتحصنوا ويعتصموا به ويلجأوا إليه؛ فالذي يكون في قمة الجبل لا يستطيع أن يصل إليه عدو، وبالخصوص إذا كان معقلًا بالقمة.

وهذا من أهم أدوار السيّدة زينب ﴿؏﴾، والتي ببركاتها تحّمل الأطفال والنساء ونجوا من آثار العنف بكل أشكاله وأنواعه، كونهم أدركوا أنهم اعتصموا بحبل زينب ﴿؏﴾ المتين، حيث لم تهن ولم تغرق ولم تضعف إرادتهم بتلك الدعايات الإعلامية أبدًا، وهذا من أهم أساليب التربية في ذلك الزمن. 

فالمرأة القديرة هي التي تستطيع أن تواجه أمثال تلك الحملات الشديدة والعنيفة وتزيل آثارها، ولا شك أن هذا من اقتدارها، ومن قوة تدبيرها، وحكمتها في كل زمان ومكان.

لقد كانت السيّدة زينب ﴿؏﴾ في ذلك الحال تسير بهم وقد أنهكهم التعب والآلام، وأمامهم رأس الحسين ﴿؏﴾ يقطر دمًا، يخال للناظر أنه كلما سقطت قطرة من رأس الحسين ﴿؏﴾؛ سقط قلبها ﴿؏﴾ من فوق الناقة ليلتقط كل تلك القطرات من على التراب لتمسح بها قلبها المكلوم وتخفف بها أوجاعها.


  1. في إشارة إلى واقعة سقيفة بني ساعدة، وهي أولى الوقائع التي حدثت بعد رحيل النبي ﷺ وآله في السنة ١١من الهجرة، حيث تم مبايعة أبي بكر بعنوان خليفة المسلمين بعد رسول الله وذلك في اجتماع لم يحضره بني هاشم لانشغالهم في تجهيز رسول الله، ويعد ذلك انقلابا ومخالفة صريحة لوصية رسول الله ﷺ وآله في يوم الغدير وغيره بولاية أمير المؤمنين ﴿؏﴾.
  2. كاتب وأديب ومفكر مسيحي من جنوب لبنان (١٩٣١م-٢٠١٤م)، قام بتأليف ما يقارب من ٣٠ كتابًا، ومنها موسوعته القيمة عن أمير المؤمنين ﴿؏﴾ الموسومة (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) في خمسة أجزاء وملحق، وقد قام المجمع العالمي لأهل البيت ﴿؏﴾ بتحقيقها واختصارها في كتاب واحد، تناول الكاتب فيها محطات ومواقف مهمة من حياة الأمير ليبين أنه ﴿؏﴾ أفضل أنموذج تجلت فيه القيم الإنسانية على مر التاريخ، وقد حازت هذه الموسوعة على الكثير من الجوائز والاهتمام والإشادة من قبل العلماء والأدباء والمفكرين؛ فقال السيد محسن الحكيم عن هذا الكتاب: (وأنصح الجميع أن يدرسوا هذا الكتاب على ضوء العقل والفطرة؛ ليسمعوا الحقيقة من صوت العدالة الانسانية، ويتأثروا بروحه).
  3. مسند الإمام علي ﴿؏﴾، السيد حسن القبانجي،ج١، ص١٥٠
  4. يشير القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله ﷻ ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ الأحزاب:٦٢
  5. قوله ﷻ: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ الأنعام: ٧٣ 

    وقوله ﷻ: ﴿وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلْأَرْضُ بِأَمْرِهِۦ﴾ الروم : ٢٥

    وقوله ﷻ: ﴿وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلَّا بِٱلْحَقِّ﴾ الحجر: ٨٥

    ورد في دعاء الجوشن الكبير الذي نزل به جبرائيل على النبي ﷺ وآله: “يا مَنْ قامَتِ السَّماواتُ بِأَمْرِهِ”

    ورد في الخطبة التطنجية للأمير والتي نقلها الشيخ علي اليزدي الحائري في كتابه إلزام الناصب في إثبات الحجة الغائب،ج ٢، ص ٢١٠  “وقامت السماوات والأرض بقدرته”.

  6. يا دهر أف لك من خليل * كم لك بالاشراق والأصيل من صاحب أو طالب قتيل * والدهر لا يقنع بالبديل وانما الامر إلى الجليل * وكل حي سالك سبيلي السبيل فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها وعرفت ما أراد فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت وعلمت ان البلاء قد نزل واما عمتي فإنها لما سمعت وهي امرأة ومن شان النساء الرقة والجزع فلم تملك نفسها ان وثبت تجر ثوبها وانها لحاسرة حتى انتهت إليه فقالت وا ثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن يا خليفة الماضي وثمال الباقي فنظر إليها الحسين ع فقال لها يا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان وترقرقت عيناه بالدموع وقال لو ترك القطا ليلا لنام فقالت يا ويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصابا فذلك اقرح لقلبي وأشد على نفسي ثم لطمت وجهها وهوت إلى جيبها فشقته وخرت مغشيا عليها فقام إليها الحسين وصب على وجهها الماء وقال لها أيها يا أختاه اتقي الله وتعزي بعزاء الله واعلمي ان أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون وان كل شئ هالك الا وجهه إلى أن قال فعزاها بهذا ونحوه وقال لها يا أخية اني أقسمت عليك فأبري قسمي لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا انا هلكت..” أعيان الشيعة – السيد محسن الأمين ج٧ ص١٣٨
  7. الشيخ عباس القمي، مفاتيح الجنان، ص٥٢١
  8. الشيخ عباس القمي، مفاتيح الجنان، زيارة عاشوراء

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬220 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فزت ورب الكعبة 0 (0)

﷽ السلام عليك يا رسول الله، السلام على أمير المؤمنين، وعلى الصديقة الطاهرة، وعلى الأئمة المعصومين.   السلام عليك يا أمير المؤمنين، ويعسوب الدين، وقائد الغر المحجلين، السلام عليك يا باب الله، السلام عليك يا عين الله الناظرة، ويده الباسطة وأذنه الواعية، وحكمته البالغة،...

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...