تقدم القراءة:

يبدل الله سيئاتهم حسنات

3.7
(9)

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد في أدعية رجب دعاء خاصّا بمناسبة ميلاد الإمام الجواد ﴿؏﴾ ممّا يعني التركيز على أهمّيّة هذه المناسبة وموقعيّته، وهو الدعاء المعروف (اللّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِالمَولُودِينَ فِي رَجَبٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الثَّانِي وَابْنِهِ عَلِيٍّ بْنِ مُحَمَّدٍ المُنْتَجَبِ، وَأّتَقَرَّبُ بِهما إِلَيْكَ خَيْرَ القُرَبِ يا مَنْ إِلَيْهِ المَعْرُوفُ طُلِبَ وَفِيما لَدَيْهِ رُغِبَ،…)(1) ويظهر أنّ لولادة الامام الجواد ﴿؏﴾ مقام يستحقّ أن يُسأل الله سبحانه به، وأنّ ولادته محطّة من محطّات الرجاء، ولا سيّما أنّ هذا الدعاء صادر من الناحية المقدّسة للإمام (عجل الله فرجه الشريف)، و لا شكّ أنّ الإمام لم يأمر بقراءته إلّا وهو ﴿؏﴾ يعلم أنّه بمعرض إجابة لله سبحانه، فالله سبحانه يصف نفسه ويقول (وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ) التوبة: 111.

 ورد عن رسول صلّى الله عليه وآله: (من أحبّ أن يلقى الله عزّ وجلّ و قد رفعت درجاته و بُدّلت سيّئاته حسنات فليتوال محمّد بن عليّ الجواد)(2).

هذه الرواية فيها غرابة، ويكتنفها إشكالان يحتاجان إلى حلّ، وهذا الحلّ يبيّن لنا قيمة مقام الإمام الجواد عليه السلام وميلاده وولايته.

الإشكالان هما:

  1. تبدّل السيئات حسنات: نعلم أنّ للسيّئة آثارا واقعية، فكيف يسلب الله سبحانه هذه الآثار ويبدّلها إلى حسنات؟ ثمّة فرق بين التغيير والتبديل؛ فالتغيير يكون في شكل الشيء أو لونه مع بقاء أصله، أمّا التبديل فهو أن تزيل الشيء نفسه وتأتي ببديل له.
  2. أنّ الذي سيئاته أكثر سيحصل على حسنات أكثر بمقتضى هذا التبديل، وهذا يحتاج إلى حلّ!

حلّ الإشكال الأوّل: تبدّل السيّئات حسنات:

حسب الوارد عندنا في النصوص ثمّة أسباب لتبدّل السيّئات حسنات:

  1. الأعمال الصالحة: في الآيات الأخيرة في سورة الفرقان يصف الله (عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) إلى أن يقول جلّ وعلا (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) الفرقان: 70.
  2. الزيادة في المعرفة والعقيدة: وهذا السبب تأثيره أقوى من تأثير الأعمال. نحن مشكلتنا أنّنا نجهل قيمة المعرفة، وأثرها الأخرويّ في مصير الإنسان، فلا نعطي المجالس العلميّة من الاهتمام ما نعطيه مجالس العبادة. والرواية هنا تعِد من تولّى الإمام الجواد ﴿؏﴾ بتبديل سيّئاته حسنات، وهذا عمل جوانحيّ قلبيّ روحيّ(3).

إذن فالأعمال التي تبدّل السيّئات حسنات تكون تارة أعمالا صالحة وأخرى عقائد ومعرفة.

بعد هذه المقدّمة سنبدأ بحلّ الإشكال الأوّل: كيف يبدّل الله السيّئات حسنات؟ وهل يمكن إصلاح الآثار الواقعيّة للسيّئة؟

 لقد جاء في الروايات أنّ هذه الآية من أرجى الآيات، فكم الفارق كبير بين حصول الإنسان على الشفاعة والمغفرة وبين أن يتحوّل رصيد سيّئاته إلى حسنات!

لكنّ هذا التبدّل كيف يتمّ؟ سأنقل بداية جواب صاحب الميزان ثم أبيّنه:

يقول صاحب الميزان: “أعمالنا في الخارج  ليس لها وصف حسَن أو قبيح إلّا بنسبتها إلى القانون والشرع”. يقول العلّامة (قده) أنّ الحُسن والقبح في العمل هو من حيث مطابقة الفعل لأمر الله أو نهيه. فمثلا قول الصدق حسن من جهة أنّه موافق للشرع، وإلّا من ناحية الفعل فإنّ الصدق والكذب كلاهما كلام. ويضرب العلّامة مثالا ثانيا وهو الفرق بين السفاح والنكاح، فيقول: أنّ قبح السفاح راجع إلى مخالفته للقانون الإلهيّ، وحسن النكاح راجع إلى مطابقته للقانون، وإلّا فالفعل في نفسه واحد.

 وهنا نتساءل: إذا كان الفعل في نفسه لا يوصف بحسن ولا بقبح؛ فما الذي يجعل نفس الفعل مرّة موافقا للقانون ومرّة مخالفا له؟

 ما منشأ مخالفة القانون؟

إنّ منشأ مخالفة القانون هو الروح والنفس، فإذا أردنا أن نعرف منشأ وجذر القبح أو الحسن في أفعالنا فعلينا أن نعود إلى النوايا.

والعقل يدرك أنّه لا مانع أن تتبدّل النوايا وتصلح الروح، ومع هذا التبدّل ستتبدّل كلّ الأعمال التي صدرت عن تلك الروح. ذلك لأنّ الروح هي منشأ هذه الأعمال ومنها ترتوي.

التبديل الذي يجريه الله ليس لنفس الفعل السيء بل لمَنشأ الفعل ذات الفاعل وهو نيّة الإنسان، وهذا ما لا يرفضه العقل.

ببيان أسهل نقول:

إذا أردنا أن نحلّل الأعمال التي نقوم بها نجدها مركّبة من:

  1. جانب فعليّ: وهو الفعل الخارجيّ الصادر عن الجوارح. (وقلنا أنّه لا يوصف بحسن أو قبح).
  2. جانب فاعليّ: وهو النيّة والقصد من ذات الفاعل. (وهو منشأ الفعل كما مرّ).

وبهذين الركنين يتمّ العمل، سواء كان حسنا أو سيّئا. وثمّة قاعدة عقليّة تقول أنّ المركّب ينحلّ بانحلال أجزائه، فلو حلّلنا الماء إلى هيدروجين وأوكسجين سينحلّ ذات وجود الماء بانهدام ركن منه. وسأضرب لكم مثالا عرفيّا: هذا المكان الذي نحن فيه لو انهدّ ركن أساسيّ منه فسينهار بكامله. كذلك الخطيئة والسيّئة، حتّى تكون مؤثّرة لا بدّ أن تكون متكاملة الأركان، وإذا انحلّ منها ركن لا تبقى مؤثّرة.

ما يفعله الله سبحانه حين يبدّل السيّئة حسنة هو تبديل ركن أساسيّ فيها، وهو نيّة الفاعل وروحه، فإذا تغيّرت النيّة انهدّ أحد أركان السيّئة فما عادت سيّئة، وما عادت مؤثّرة، وهنا تتبدّل إلى حسنة لتغيّر منشأ الفعل.

قد يقال أنّ ذلك العمل متعلّق بزمان مختلف سابق فكيف يصحّ أن يتبدّل؟ ونجيب بأنّ روح الفاعل وإرادته ونيّته تغيّرت، والنيّة ممتدّة ويمكن تنفذ في كلّ العوالم، والإرادة ليس لها دخل بالزمان والمكان. فلو تبدّلت النيّة والإرادة تبدّلت كلّ الأعمال التي صدرت عنها فأعمالنا لا تنفصل عنّا بعد صدورها وتنتقل لعالم آخر، بل هي باقية معنا لا تفارقنا، يقول تعالى (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) الإسراء: 13.

بعد أن عرفنا معنى التبديل، وعرفنا أنّ ما يبدّل السيّئات حسنات أمران كما ذكرنا: أعمال وعقائد، نعود إلى الرواية: (من أحبّ أن يلقى الله عزّ وجلّ و قد رفعت درجاته و بدّلت سيّئاته حسنات فليتولى محمّد بن عليّ الجواد). هذه الرواية تريد أن تقول لنا أنّه كما أنّ أفعال الإنسان كاشفة عن نيّته الحسنة فكذلك علمه وولايته وحبّه وبغضه، وهذا جزء من ذاته. والإنسان الذي لا طاقة له على القيام بالكثير من العبادات والصالحات التي تتسبّب بتبدّل سيّئاته حسنات؛ فهناك طريق آخر وسبب آخر وهو ولاؤه للإمام الجواد عليه السلام، فمحبّة الإمام الجواد ﴿؏﴾ تقلب وتغيّر آثار سيّئات الإنسان وتغيّر مصيره.

حلّ الإشكال الثاني: هل صاحب السيّئات الكثيرة أكبر حظّا؟

خلاصة الإشكال هو: كيف أن من صدرت منه ذنوب أكثر وجهل وتقصير أكثر يحصل على رصيد أكبر من الحسنات بعد أن تتحوّل كلّ تلك السيّئات حسنات؟!

هذه المسألة في علم الأخلاق دقيقة جدّا، وبيانها:

أنّ الإنسان كلّما كان منغمسا في الجهل والمعاصي أكثر كان رجوعه إلى الصواب أصعب، وحركته نحو الخير أكثر مشقّة، ومعروف أنّ الأجر على قدر المشقّة. فإذا أراد المذنب الجاهل الدخول في ولاية الإمام الجواد ﴿؏﴾ ورغب أن ينتقل من الخطايا والغفلة إلى اليقظة، ومن الجهل إلى العلم، فهذا عمل بالغ المشقّة عليه. فالإنسان كلّما ابتعد أكثر كلّما تكلّف مشقّة أكبر في طريق الرجوع والأوبة، لذا فإنّ كلّ خطوة تحسب له حسنة.

 اضرب مثالا لأبيّن المسألة: المحتاجون إلى حمية لتخفيف الوزن كلّما كانوا يحملون وزنا أكثر كلّما كانت الحمية عليهم أصعب، ومعاناتهم أشدّ. وفي عقيدتنا الأجر على قدر المشقّة، فالإنسان إذا كانت سيّئاته كثيرة فهذا يعني أن نيّته خبيثة وروحه منغمسة في نار جهنّم، لهذا تكون عودته أصعب.

الولاية والارتباط بالإمام المعصوم عمل يتطلّب جهدا، وهو أكثر الأعمال أثرا، نحن دائما نتصوّر أنّ عمل الجوارح له الأثر الأقوى، وهذا حيف على الولاية وقصور في فهم آثارها، الحقيقة أنّ الولاية أعمق وأشدّ تأثيرا من أعمالنا الجوارحيّة.

إنّ حال الموالي عميق الولاء قياسا إلى غيره كحال من يقدّم هديّة بسيطة عارفا  بشأن المهدى إليه، فتكتسب هديّته قيمة عالية بفضل تلك المعرفة. بينما الجاهل بالولاية مهما كثرت طاعاته فإنّ حاله كحال من يهدي الكنوز جاهلا بشأن المهدى إليه ومكانته.

كلّما عرفنا عظمة شأن أهل البيت أكثر بالدليل والحجّة وبالبرهان كلّما كان مستقبلنا زاهرا ومآلنا إلى السعادة.


  1. ومن أحب أن يلقى الله عز وجل وهو قرير العين فليتوال محمد بن علي الباقر، ومن أحب أن يلقى الله عز وجل ويعطيه كتابه بيمينه فليتوال جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ومن أحب أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتوال موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، ومن أحب أن يلقى الله عز وجل وهو ضاحك فليتوال علي بن موسى الرضا عليه السلام، ومن أحب أن يلقى الله عز وجل وقد رفعت درجاته وبدلت سيئاته حسنات فليتوال محمد بن علي الجواد… [مصباح المتهجد – الشيخ الطوسي – ص٨٠٥].
  2. بحار الأنوار – للمجلسي – ج27 – ص 108.
  3. نطلق عليه عملا على نحو التجوّز.

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 3.7 / 5. عدد التقييمات 9

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 3.7 / 5. عدد التقييمات 9

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬087 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...