تقدم القراءة:

القلب .. آنية الله ١

5 مايو، 2020

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

لا شك أنه من المسلمات في الدّين الإسلامي ومن الأمور التي تعتبر من الضروريات التي نصّ  عليها القرآن الكريم وتظافرت فيها الروايات الشريفة، والتاريخ، وسيرة المتدينين والمتشرعة؛ الإيمان بما يحدث من تغيرات وجودية في ليلة القدر؛ -ونحن نعلم ماذا يعني أنه عندما نعنون مسألة من المسائل بأنها من الضروريات(١)-، وكيف أنه من الممكن للإنسان أن يُحدث تغييرات وجودية وتكوينية في حاله وقلبه والنقطة المركزية الأساسية فيه والتي تقابل ليلة القدر.

وهناك آيات كثيرة تعيننا على فهم ذلك. 

وكمقدمة سنستفيد من الآيات في سورة المطففين والتي تحوي الكثير من المطالب والقواعد التي اعتمدها علماء الأخلاق والعرفاء وحتى الحكماء في استنباط كثير من المسائل الوجودية في الإنسان وعلاقته بالله ومنها قوله تعالى: ﴿كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ علَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا  إِنَّهُمْ عن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ المطففين: ١٤-١٥.

فمن خلال الردع في الآية الشريفة نعلم أن الأصل هو عدم وجود رين، فالأصل هو الصفاء والطهارة، والصيقلية في القلب، وأن يرى القلب ربّه جلّ وعلا؛ وأن هذه الرؤية لا يحجبها عن الإنسان إثم واحد أو عدد من الآثام، فما لم تتحول سيرة الإنسان إلى كسب دائم للآثام والذنوب -والعياذ بالله- فإن القلب لم يطبع عليه بعد، ولا يزال لديه القابلية كي لا يحجب عن الله سبحانه ويرى ربّه ﷻ، لذا تقول الآية الشريفة: ﴿كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ علَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، ما: الاسم الموصول يفيد التوكيد، ما كانوا: يعني هذا ديدنهم وهذه طريقتهم، يكسبون: فعل مضارع، إذن فيفهم من الآية الكريمة أن هناك أُناس يذنبون؛ لكن هذا ليس ديدنهم بشكل دائم وحالهم المستمر والمتواصل، وهؤلاء ما يزال الطريق لديهم مفتوح.

الأدلة على إثبات ضرورة تهيأة القلب للقاء الله جلّ  وعلا: 

  • أولًا : الدليل النقلي:

هناك أدلة على إثبات ضرورة أن يكون قلب الإنسان مهيأ للقاء الله سبحانه في كل وقت ودائمًا، منها:

١. بعض اللطائف القرآنية التي ترشدنا إلى مدى رحمة الله سبحانه، وكيفية تعامله مع الإنسان؛ كما الآيات التي تتكلم عن المنافقين الذين كانوا يسعون في الأرض فسادًا ويخلقون لرسول الله ﷺ العقبات السياسية، الاجتماعية، وغيرها، ويثيرون الفتن؛ فبعد أن تتحدث الآيات الشريفة عن كل هذا السوء الذي انغمسوا فيه تقول: ﴿أَوَلَا  يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ التوبة: ١٢٦

الآية رائعة في بيان المطلب؛ إذ تقرر أن الامتحان يجدد للإنسان المرة والمرتين وذلك لإعطاء الفرصة لأولئك الذين قد يكون في أعماقهم بقايا وأنقاض من الفطرة السليمة فيكون في هذا الامتحان باب للعودة لله سبحانه وتعالى، وهذه سنة الله جلّ  شأنه. 

٢. وهذا المعنى من فتح باب التوبة للإنسان وارد في مناجاة التائبين الواردة عن الإمام زين العابدين (ع): (اِلـهي اَنْتَ الَّذي فَتَحْتَ لِعبادِكَ باباً إلى عفْوِكَ سَمَّيْتَهُ التَّوْبَةَ، فَقُلْتَ: ﴿تُوبُوا اِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾، فَما عذْرُ مَنْ اَغْفَلَ دُخُولَ الْبابِ بَعدَ فَتْحِهِ).

وهناك أدلة كثيرة على ذلك؛ فلا يمكن أن يفتح الله سبحانه بابًا ولا يكون هناك محفزات لدخول هذا الباب، فالآيات تدعو من أدبر وتولى وأعرض ليفتح الباب، إذ لا بدّ وأن تكون هناك عّلة اقتضائية في هذا الإنسان، وفهم ذلك يعيننا على إدراك وفهم الدليل العقلي.

  • ثانيًا: الدليل العقلي:

بعد أن استفدنا من الآيات الشريفة السابقة؛ نقيم الدليل العقلي على ضرورة تيسير لقاء الإنسان بربه؛ سيما في هذه الليالي المباركة والتي فيها محفزات كثيرة، وسنستفيد من دليل الحكماء حيث أقاموا دليل متين على هذا المعنى بالاستفادة من (هذه القاعدة). 

أن كل حركة لها مبدأ؛ بمعنى علّة فاعلة ومحركة، وكذلك غاية؛ فليس هناك حركة لا يكون فيها غاية ونهاية تقف عندها، حتى اللعب كما يشير صاحب الميزان له غاية وهي الحصول على لذّة وهمية خيالية ذهنية، فلا يوجد حركة ليست لها غاية، وعندما خلق الله سبحانه لنا العقل فإنه جعله يتحرك ويبحث عن الحقائق، يبحث عن الوجود، فأول ما يتعقلّ الإنسان تكون هذه أهم الكليات التي يفكر فيها، وكلما كان أكثر تعقلًا  كلما شغلت ذهنه أكثر، وبمقتضى الحكمة الإلهية أعطي الإنسان العقل كي يكون مبدأ الحركة ومبدأ التأمل بالنسبة له العقل، ولكن هذا العقل يوصل الإنسان إلى النتائج المستبطنة والمخفية في المقدمات؛ بمعنى: العقل سوف يرى هذا الخلق وسيصل إلى وجود خالق، العقل سيرى النظم وسيصل لوجود ناظم، وهكذا فإن هذه النتائج نتائج عقلية لكنها ليست هي الغاية.

فإذا عرفنا أن هناك خالقًا، وإذا عرفنا هناك بارئ النسم وأن هناك مصورًا، وهناك ما يسمع ما في السموات والأرضين، ويسمع الأنين والشكوى ويسمع السرّ وأخفى، ويسمع وساوس الصدور ولا يصم سمعه صوت، هذه كلها حركة وليست غاية! فماهي الغاية؟

الغاية لا بدّ أن تكون ضمن هذه النتائج؛ هناك غاية تصبّ فيها وتقف عندها وخصوصًا إذا كان الفاعل والموجد حكيم؛ فالإنسان مثلًا  لنقص في علمه يحول دون تحديد الغاية لذا قد يختار غايات مؤقتة ومرحلية، ولكن إذا كان الأمر متعلق بالخالق الحكيم والذي أوجد العقل في الإنسان وجعله المبدأ لهذه الحركة يجب أن يُوجد في نفس الإنسان أيضًا موقعًا إلى ما بعد هذه الحركة؛ إلى أين تنتهي هذه الحركة؛ وهذه النتائج إلى أين يجب أن تصبّ، لا بدّ من أن نحدد النقطة المركزية التي تصبّ فيها هذه النتائج حتى يكون العمل ذو غاية، ويكون العمل حكيمًا. ولا شك أن المكان الذي تصبّ فيه كل النتائج التي نراها في حياتنا اليومية؛ سواء كانت نتائج عقلية، علاقات، روابط، أصدقاء؛ كلها تصبّ في آنية واحدة، وهذه الآنية كما تعرفون هي القلب؛ هي محل لقاء الله سبحانه وتعالى، محل لصبّ هذه النتائج التي تحرك العقل وتجعله يصل إليها.

والروايات ظاهرة جدًا في هذا المعنى وسهلة وسلسة:

١. ما ورد عن أمير المؤمنين (ع): “قلوب العباد الطاهرة موضع نظر الله سبحانه، فمن طهر قلبه نظر إليه”(٢)، وهذه النظرة الناتجة عن تطهير القلب؛ هي الثمرة المرجوّة في ليلة القدر، ومعناها تغيير في قضاء الإنسان وحتمه وقدره ومقداره.

٢. في رواية أخرى عن رسول الله ﷺ يقول: “إن لله تعالى في الأرض أواني، ألا وهي القلوب، فأحبها على الله أرقها، وأصفاها وأصلبها: أرقها للإخوان وأصفاها من الذنوب وأصلبها في ذات الله”(٣)، وهنا تلفتنا الرواية لأمور منها:

الآنية: 

هي الوعاء الذي يحفظ فيه الشيء عن التبدد وعن الضياع، ويجمع لكي لا يتبعثر وهذا هو الغاية من الإناء.

 فإن لله سبحانه في أرضه أوانٍ وهذه الأواني هي القلوب، وليس المراد بأن القلب آنية بمعنى إناء وتوضع فيه الرّقة، لا، وإنما هنا من قبيل اتحاد الظرف والمظروف مثلما نقول عن أهل البيت (ع) أنهم مخازن (خزنة لعلمه)؛ ليس مثل الخزانة الماديّة التي توضع فيها أموال وإمكانيات وثروات، وإنما القلوب كما في الأشياء المعنوية الصفة والموصوف شيء واحد؛ فالقلب هو نفسه الآنية.

النسبة الإشراقية “إن لله أواني”:

فهذه الأواني منسوبة لله جلّ وعلا، فكما ورد في قوله تعالى: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ الحج: ٢٦، و ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ الحجر: ٢٩، إذ يقال إن هذه النسبة -بحرف الياء- الموجودة في (بيتي) و (روحي) نسبة إشراقية؛ أي: يشرق الله تعالى فيها؛ فهذه الأواني إلهية وهذا الإشراق لله جلّ  شأنه لا يتبعثر ولا يتشتت.

علامات الإشراق، وكون القلب آنية لله ﷻ: 

  • الرّقة على الإخوان: 

فهذه الآنية -القلب- الموجودة في الأرض والتي يحبها الله وينظر إليها أول ما تتصف به هي الرّقة على الإخوان؛ فكلما وجدنا في أحد هذه الرّقة فاعلم أنه بات (آنية الله ﷻ)، ليس فقط محبة؛ فهناك فرق بين إنسان يحب وإنسان يرق؛ الرقة أمر حتمي حتى يصبح القلب صيقلي، يصبح مرآتي، يسطع فيه وتشرق عليه أنوار الله سبحانه، وما ينزل ليلة القدر، فكلما كان القلب أرق على الإخوان؛ كان هذا الوعاء حافظًا وجامعًا ومستعدًا للقاء الله جلّ شأنه، ومستعدًا كي تسطع عليه المراتب العالية من التوحيد في تلك الليلة.

  • الصلابة في ذات الله ﷻ: 

الصلابة: بمعنى قول الرجل الحق، لا يخاف فيه لومة لائم، وينبغي أن نلتفت لكون الرّقة مع المنافق مذمومة؛ فهناك معنى لطيف يشير له السيد القائد في تفسير قوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ التوبة: ٨٠ 

لماذا ينهي القرآن الكريم النبي ﷺ عن الاستغفار للمنافقين؟ 

لأن الاستغفار كسر الحاجز النفسي للعداء مع المنافقين؛ ومما يؤسف له فإن هناك أُناس سذّج يريدون أن تعيش كل الناس سواسية مثل بعض، وبذلك أصبحت لفظة القيم الإنسانية بديلًا  الغاية منه القضاء على القيم الإسلامية؛ لذا فمن يدعوا للتطبيع والذي يُعد -إن صحّ التعبير- السلاح الناعم الذي يوجهونه نحو الناس لحرفهم عن قول الحق، والصلابة في ذات الله سبحانه، وفي مواجهة أعداء الله جلّ وعلا، وهذا ما ينص عليه القرآن الكريم حيث ينهى النبي ﷺ عن الاستغفار لأعداء الله تعالى؛ ﴿لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلَا  تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ﴾ التوبة: ٨٤؛ وذلك لأن الله سبحانه يريد في نفس هذه الآنية (القلب) والذي يحوي الرّقة على الإخوان في قبال هذه الرّقة يجب أن يوجد حاجز من النفور الشديد جدًا نحو أولئك الذين لا أمل فيهم ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾، فهم يفتنون ولا يوجد أمل في عودتهم لله سبحانه: ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ التوبة: ١٢٦.

  • الصفاء من الذنوب:

هناك تعريف لطيف للفرق بين الذنب والإثم والسيئات؛ فالقرآن الكريم يستخدم السيئات في (الصغائر)، والذنوب في الأعمّ الأغلب تأتي في موارد (الكبائر)، فلا يتصور خلو القلوب تمامًا من السيئات؛ لكنها قد تخلو من الذنوب.

وهذا مما يلزم أن نجتهد وندعو الله سبحانه في هذه الليالي المباركة أن نبلغه، كما نسأله جلّ  وعلا التوفيق فتكون قلوبنا خير آنية لتلقي الفيض الإلهي.


١. أي المسائل التي لم يحصها كتاب علمي قديمًا أو حديثًا؛ لكنها تعرف من طبيعة المسألة واهتمام القرآن الكريم، والمتدينين بها واهتمام أهل البيت (ع) والمسلمين بشكل عام بها. ولربما تفوق الكثير من المسائل التي نوليها أهمية لطبيعة الآيات الكريمة والروايات الشريفة الواردة، وطبيعة تعامل أهل البيت (ع) معها، وكل هذا يضفي عليها عنوانًا وصلاحية كبرى؛ لأن تدرج تحت ضرورة من ضروريات الإسلام.

٢. ميزان الحكمة – ج: ٣ – ص: ٢٦٠٧

٣. ميزان الحكمة – ج: ٣ – ص: ٢٦٠١ 

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬162 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...