تقدم القراءة:

شطر المسجد الحرام ٤

9 أغسطس، 2019

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

محاضرات الحج لعام ١٤٤٠هـ

قافلة الهدى


(فول وجهك شطر المسجد الحرام): من معاجز الدين الإسلامي
!

لا زال الحديث عن الشعار ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وبالنظر للآيات السابقة – ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعمَلُونَ﴾ البقرة: ١٤٤ نجد أن الحديث مستمر حول الشطر المرتبط بالعالم الأرضي من عالم الوجود، فالآية الكريمة تقول: ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ ويبدو أن النبي الأكرم (ص) لم يكن يبحث عن قبلة أرضية فحسب؛ بل بما له اتصال بحقائق سماوية، وإلا فما معنى تقلّب الوجه في السماء!!

وسنتعرض خلال سير البحث إلى ماذا يعني تقليب الوجه الوارد في الروايات، والذي كان بنحو متكرر – كما يشير أستاذنا الجوادي – وليس لمرة واحدة، وقد يراد منه رفع البصر نحو السماء مع تقليب ظاهري للوجه، وقد يكون تقليب قلبي كحال أيّ امرء يقلب أمرًا ليرى وجهه، وقد يكون هذا الأمر سماويا أو ملكوتيا أو أخلاقيا…فليس من المتعين أن يراد منه النظر للسماء الظاهرية، إذ يمكن القول – مثلًا -: أن فلانا يقلب هذا الأمر في حين أن واقع الحال هو أنه يقلبه في قلبه. وقد يكون هذا التقلّب بمعنى الحال والدعاء والتوسل حتى يصل إلى هذه الكعبة أو هذه القبلة أو هذه الجهة التي يرتضيها رسول الله (ص) ويرتضيها الله له، ولذلك يستحب لمن أراد الخروج في طلب الحج أن يقرأ دعاء يتناسب مع هذه المعاني التي أشرنا إليها فيقولاللهُمَّ إلَيكَ وَجَّهتُ وَجهي وَعَلَيكَ خَلَّفتُ أهلي وَمالي وَما خَوَّلتَني وَقَد وَثِقتُ بِكَ فَلا تُخَيِّبني يا مَن لا يُخَيِّبُ مَن أرادَهُ وَلا يُضَيِّعُ مَن حَفِظَهُ، اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ففي هذا الدعاء نجد لسان حال من قد وصل إلى الوجهة التي ينبغي له أن يصل إليها بقراره واختياره وإرادته وماله وباستطاعته واقتداره ليصل ويبلغ غايته؛ – ولذا لا يمكن أن يستقر الحج أي يقع التكليف بالوجوب لمن فقد الاستطاعة -. وحين يصل الحاج لتلك الوجهة بكامل اقتداره واستطاعته ومكنته وكل إمكانياته المادية والاجتماعية بما لا ينقص من معاشه ومعاش عياله ولا ينقص من شأنه ومكانته فهو ينتخب هذه الوجهة؛ لذلك بدأ بالدعاء: “اللهُمَّ إلَيكَ وَجَّهتُ وَجهي وَعلَيكَ خَلَّفتُ أهلي وَمالي وَما خَوَّلتَني” فمن قصد الحج قصده وهو تارك لكل ماعداه خلفه متوجها نحو هذا الشطر الذي أراد وقصد.

وهذه الآية والشعار المنتخب ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ﴾ له أبعاد واسعة – كما يقول صاحب الميزان – بل هو من معاجز الدّين الإسلامي والنبي الأكرم (ص)، ففيه حديث عن المستقبل والواقع الذي كان يعيشه رسول الله (ص)، وحديث عن التاريخ – ما قبل رسول الله (ص) – من الأنبياء (؏) والأمم السابقين، كما فيه حديث عن واقع رسول الله (ص) وأمته، وحديث آخر عابر للتاريخ عن مستقبل هذه الأمة حتى ظهور الإمام (عج).

الأبعاد التاريخية والسياسية والعرفانية للشعار (فول وجهك شطر المسجد الحرام)

لابُدّ من استعراض لتلك الحقبة التاريخية والاطلاع على الوضع السياسي مضافًا للبُعد العرفاني الموجود في الآية، فالنّبي الأكرم (ص) بعث في مكة أولًا وبقي فيها قرابة 13 عامًا كما نقل لنا التاريخ، وكان خلال تواجده (ص) في مكة يصلي مستقبلًا  لبيت المقدس، في حين كان تصور مشركي قريش وأهل مكة – وبمقدار ارتباطهم وتعلقهم بالأمور المادية والحسية وما لديهم من عصبية جاهلية – أنه (ص) لابد أن يستقبل الكعبة المشرفة، فكيف له أن يستقبل قبلة اليهود والنصارى؟! وكان هذا من مآخذهم على رسول الله (ص) والرسالة.

وطبقًا لهذه العصبية وهذا المقدار من التزمت بالمسائل الظاهرية عادة ما تتكون كتل من الناس والذين يعبر عنهم في لغة القرآن بالسفهاء﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ  مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا علَيْهَا﴾ البقرة: 142، وسيأتي الحديث عن المجتمع السفيه، والإنسان السفيه، والأمة السفيهة، وكيف أنهم – ومن خلال إثارة الشائعات التي لا أصل لها، وبطرح المسائل التي لا تبنى على علم أو معرفة وإنما هي اتفاقات وعصبيات والتزامات وأعراف توافقوا فيما بينهم عليها، ولم يأمر بها الله ﷻ لا عن طريق النقل أو العقل – يمثلون حجر عثرة في وجه الكثير من الناس عن الدخول في الإسلام.

المشركون من أهل مكة وبعصبياتهم لم يقبلوا بقبلة رسول الله (ص) ولم يرضوا عنه، بل اعتبروها نقطة من نقاط الضعف التي يحاربون بها الرسالة والدعوة المحمدية.

وبعد انتقال الرسول (ص) من مكة إلى المدينة كان للمدينة تركيبة اجتماعية واقتصادية وسياسية بل أخلاقية مختلفة تمامًا عما كان في مكة، رغم عدم وجود فاصل جغرافي معتد به بينهما، وقد تحدث التاريخ بشكل مفصل عن هذا الأمر.

وبالعودة للسير التاريخي للأحداث نجد أن المدينة كانت بيد الأكثرية من حيث العدد والقدرة وممّن لديهم الإمكانيات المادية والاقتصادية كونهم أصحاب شريعة سماوية، ولم يكونوا أميين كأهل مكة، إذ كانوا يقرؤون ويكتبون، كذلك من حيث كونهم مجتمع متماسك يدين بدين واحد ولهم شريعة ربانية؛ والشريعة اليهودية تختلف عن المسيحية التي لا تخضع لأحكام فقهية والتزامات عبادية، فاليهودية تلتقي مع الإسلام من جهة كثرة التشريعات. وهنا ننوه أن المقصود باليهودية ليست الصهيوينة ولا العبرية، وإنما اليهودية بما هي شريعة ربانية ذات أحكام كثيرة مما يؤدي إلى كثرة وجود علماء حتى تعرف الناس الأحكام بالرجوع للعلماء وأهل الكتاب؛ بحيث يتعاون معهم المجتمع ليبقى متماسكًا، فكان مجتمع المدينة يتكون من الأغنياء والتجار وكان المسلمون في المدينة من قبيلتي الأوس والخزرج وقد كانت المدينة صغيرة المساحة بما يقارب 400 الى 600 بيت، وعندما تخرج لأُحُد فقد خرجت خارج المدينة بحيث عُدَّت قباء خارج المدينة، وقد كان لليهود مزارع كبيرة وإمكانيات مادية كثيرة ولهم الوجود الأساسي في المدينة، وعندما هاجر النبي (ص) إليها – وفي ظل الظروف والتركيبة الاجتماعية التي ذكرناها – كان يستقبل بيت المقدس، مما جعله – صلوات الله عليه وآله واقعا تحت ضغط اجتماعي من قِبَل اليهود وعصبيتهم التي تختلف عن عصبية المشركين والتي استطاع (ص) تجاوزها، ولكنه انتقل إلى عصبية أشدّ، فالقرآن الكريم عندما يتكلم عن اليهود نجد من صفاتهم الحدة في الذكاء والدهاء بنفس النسبة – ولا نريد بالذكاء الممدوح منه وإنما بمعنى قدرة الإنسان على أن يصل إلى ما يريد بأخلاقيات عصبية ومكابرة نادرة – فاليهود أصحاب قدرة على الإيذاء وعلى خلق التهم والوصول للأهداف الخبيثة والسيطرة على الإمكانيات، وقد كان أهل المدينة يعيشون مستضعفين وفقراء وبحاجة لأن يقترضوا من اليهود ويشتروا منهم، سيما وأن أكبر الأسواق والإمكانيات عندهم. وفي ظل كل ذلك كان النبي (ص) يستقبل بيت المقدس بحيث اعتبر اليهود ذلك تبعيّة لهم في البعد العبادي وأن النبي الأكرم لم يكتشف نفسه ولم يستطع أن يصل لنفسه ولأمته إلى قبلة معينة سوى قبلتهم.

ماذا لو بقي بيت المقدس قبلة للمسلمين؟!

نحن مضطرون لأن نقف على بعض قصص اليهود ومواقفهم مع الأنبياء عبر تاريخهم فيما سبق البعثة وبعد البعثة مع الرسول (ص) فهذه الخصائص موجودة ومستمرة إلى الآن.

وكمثال على ذلك ما جاء في سورة البقرة والحادثة التي بسببها سميت السورة بهذا الاسم؛ حيث تدور القصة حول شخص قتل آخر، وحتى يعرف القاتل الذي أنكر ذلك والذي كان من أسرة لها إمكانياتها ووجاهتها وبلغ الحال أن يلقي كل واحد من تلك الأسرة التهمة على الآخر، فلم يكن هناك إمكانية لحل المشكلة إلا عبر المعجزة، بحيث يتدخل الله سبحانه في القضاء وحل المشكلة! وفي حين جرت عادة الناس في حل المشاكل وفض المنازعات على اللجوء للنبي أو القاضي لكن اليهود لم يقبلوا بتدخل نبي الله موسى (ع) فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ثم يضربوا القتيل بذيل هذه البقرة، فيتبين من هو القاتل، على تفاصيل مذكورة في القصص القرآنية، ومع ذلك لم يلتزموا بذلك وظلوا يفاوضون نبي الله موسى (ع): ما لونها؟ ما شكلها؟ يا موسى اسأل ربك …؟ قال: إنها صفراء فاقع لونها تسر الناظرين … وغيرها من التفاصيل، مما يشير لحالة من العناد وعدم الانقياد وعدم الاحترام للنبوات وللمقدسات من قبل اليهود، فهم لا يألون جهدا في انتهاك المقدسات، وهذه إحدى قصصهم مع نبي الله موسى، ولو قرأنا قصصهم مع سائر الأنبياء فسوف نجد عجبا! وهذه الأخلاقيات تدل على أنهم شعب لا يمكن التفاوض معهم ولا التطبيع ولا إيجاد حلول أو إقامة عدل معهم.

وكشاهد على ذلك الكتاب الذي بيع في فرنسا وأثار ضجة حول الحرب العراقية الأخيرة وذريعة أسلحة الدمار الشامل في حين أن دوافع الحرب الحقيقية – كما يشير الكتاب – هي دوافع العصبية الدينية الناشئة عن اعتقادات اليهود في كونهم شعب الله المختار بما فيهم جورج بوش وإيمانه بالمغيبات الصهيونية وقصة يأجوج ومأجوج وهلاك اليهود وارتباط ذلك بالرئيس الفرنسي

ونلاحظ مما سبق: كيفية استغلال اليهود للبعد الديني الموجود في كل إنسان وتحريف ديانتهم واستغلالها في أغراض سياسية واقتصادية حتى تكون هي الأصل والبقية كلهم أتباع وما لهذا من بالغ الأثر على خلق وإحداث الفتن والمعضلات التي لا سبيل لحلها إلا أن يحول الله سبحانه قبلة رسول الله (فلنولينك قبلة ترضاها) أي الله هو الذي يوله وبهذا الشعار والرمز الديني تحفظ وحدة وكيان هذه الأمة وتماسكها ومبادئها ومعتقداتها.

ولكن لو افترضنا أن القبلة لم تتغير!! لبقينا على نفس تفكير جورج بوش الذي يبحث عن يأجوج ومأجوج ويحارب الناس من أجل ذلك، وليس مهم أن تدمر العراق بما فيها وأن يدمر المجتمع الإسلامي بما فيه؛ لأن المراد بقائه هو وشعبه وأمته أي اليهود، لأنهم شعب الله المختار والحديث عن ذلك يطول؛ فهو ممتد من قبل بعثة الرسول (ص) وإلى أن بعث (ص) وموجود إلى الآن؛ لذلك فإن القرآن يبقي للمسلمين شعارا، مكانا، محلا للاجتماع. في هذا المحل تكون الوحدة والانسجام والتسانخ والتواصل والاتصال والاستقلال والتحرر؛ بل لهم في الحقيقة أرض؛ هذه الأرض وهذه القبلة تختلف، هذا البيت الحرام وهذه الكعبة تختلف تماما عن كل مكان على وجه الأرض. لدينا رواية طويلة مفادها: أن الله سبحانه وتعالى عندما أنزل آدم إلى الأرض رأى هذه الأرض مع غبرتها وترابها وجبالها فرأى منطقة بارقة فيها ولامعة ومنفصلة عنها فسأل الله تعالى فقال الله له: هذا هو البيت الحرام، وعندما نزل فيه نبي الله آدم والذي هو أول من أسس لوجود النبوات كما نعتقد وهو الإنسان الأول، كانت له هذه الخصوصية. فهذه الأرض وهذه البقعة ليست تابعة لأحد، فكل مسجد عندما يريد أحد أن يبنيه يشتري أرضا ويوقفها لله تعالى إلا المسجد الحرام فلم يشترِه أحد ولم يملكه أحد فهو بيت عتيق وبيت حر، والإنسان الذي يتصل به حر لا يخضع لأناس وأقوام

اليهود لا يمكن أن يتبعوا قبلة رسول الله (ص) ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ البقرة: 145 فهؤلاء لايمكن ومن المحال أن يتبعوا رسول الله ولو أنزل عليهم الغيب وأراهم المعجزات، محال أن يتبعوا رسول الله؛ لأنهم دائما يريدون الآخرين تبعًا لهم.

إذن تغيير القبلة مسألة لها بعد حي وأساسي موجود فيما سبق ولا يزال موجودا وممتدا ولا زالت هناك محاولات لاختطاف هذا البعد القدسي الرباني الإلهي وهذا البعد الاستقلاليّ من المسلمين.

والحمد لله رب العالمين.

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬144 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...