تقدم القراءة:

أنت كما أحب فاجعلني كما تحب

الخميس 15 رمضان 1436هـ 2-7-2015م

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

5
(1)

ليلة القدر ليلة مناجاة وانقطاع إلى الله وهبات ومواهب، يقول تعالى: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ 

الحديث بعنوان (أنت كما أحب فاجعلني كما تحب) وهو مقطع من المناجاة المنسوبة إلى الأمير عليه السلام. وبغض النظر عن بحثه السندي إلا أن الدلالة توافق آيات القران الكريم.

دعاء راقٍ..

قد يدعو الإنسان لطلب الصحة والسلامة والرزق – وكلنا يطلب ذلك – وهي أدعية ممدوحة، لكن – وفي مرتبة أرقى – يطلب من الله التصرف في نفسه، ويسأله أن يتصرف في باطنه ليكون بنحو آخر واقعاً، لا أن يصبغه لوناً وقتياً يمكن أن يزول. يسأله أن يفيض عليها تحولاً روحياً ومعنوياً، كمن تُجرى له عملية تجميل باطنية بلا ألم. 

هذا الدعاء هو من الأدعية التي يرقى الإنسان فيها بطلباته ومسائله من الله سبحانه.

أنت كما أحب..

الشطر الأول من الدعاء يعد برهاناً من براهين معرفة الله، ولنبين ذلك نقول:

هناك براهين كثيرة على وجود الله كبرهان الحركة مثلا، ومفاد هذا البرهان أننا نرى الأشياء كلها تتغير، فالبذرة تنمو وتصبح نبتة، والنبتة تكبر وتصبح شجرة، وفي كل هذا العالم نرى  سريان هذا التغيير والتحرك فالصغير يكبر، والجاهل يتعلم… إلخ، ولو كان هذا التغير ذاتياً في الموجود فلماذا لم يكن كبيراً وعالماً من أصل تكونه ووجوده؟!!

هذا التساؤل الذي تجيب عنه طبيعة هذا العالم يجعلنا نعلم أن هناك مالكا ذاتيا لهذه الصفات وهو الذي يهبها للموجود، ويجعلنا نخرج بنتيجة مفادها أنه لا بد من وجود مُغير لا يتغير. 

هذه النتيجة تنتهي بها كثير من البراهين العقلية والفلسفية إلى وجود الله كبرهان الحدوث وبرهان النظم، فكلها تنتهي إلى وجود موجد منظِّم، و وجود أزلي محرك لا تجري عليه الحركة.

لكن ما ورد في الدعاء برهان يعد أكثر تماسّاً مع حاجة الإنسان، لأن الدال على هذا البرهان ليس العقل الفلسفي والتحليلي، بل اللسان الوحياني والإعجاز الرباني. وإذا كانت البراهين العقلية علاج من الشك والشرك والغفلة والريب والتردد فهذا البرهان شفاء لما في الصدور، وكم هو فرق بين الدواء والشفاء، فنحن نأخذ الدواء على أمل الشفاء، ولكنه قد لا يحصل، لكن الشفاء ينهي المرض تماماً.

البيانات الوحيانية شفاء لما في الصدور، وقول الأمير( ع)  (أنت كما أحب) تعريف بالله سبحانه، لكن لا بما أنه محرك وناظم وأزليّ؛ بل بما أنه محبوب لكل إنسان.

والقرآن يصوغ هذا المدعى بلسان بسيط يفهمه كل إنسان في حديث إبراهيم عليه السلام وهو يحاجّ قومه في شأن الربوبية وانحصارها في الله، حيث كان قومه طوائف وملل وشيع، يقول تعالى:

﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون ﴾ الأنعام

صفات الرب الضرورية..

هي أن يهب ويعطي و يعافي، وأن يكون – كما في دعاء الجوشن – سَيِّدَ السّاداتِ، مُجيبَ الدَّعَواتِ، رافِعَ الدَّرَجاتِ.. وَلِيَّ الْحَسَناتِ، غافِرَ الْخَطيئاتِ، مُعْطِيَ الْمَسْأَلاتِ، قابِلَ التَّوْباتِ، سامِعَ الاَْصْواتِ،عالِمَ الْخَفِيّاتِ، دافِعَ الْبَلِيّاتِ، خَيْرَ الْغافِرينَ، خَيْرَ الْفاتِحينَ، خَيْرَ النّاصِرينَ يا خَيْرَ الْحاكِمينَ، خَيْرَ الرّازِقينَ، خَيْرَ الْوارِثينَ، خَيْرَ الْحامِدينَ، خَيْرَ الذّاكِرينَ، خَيْرَ الْمُنْزِلينَ، خَيْرَ الُمحْسِنينَ، وهو الوفي الغني الوفي المليّ الزكي.. الوفيّ الحنون بطبعه، والحكيم الحليم مستنقذنا من البلوى. ولو أردنا أن نقف على كل صفة من هذه الصفات لاحتجنا عمراً أطول من عمرنا لبيانها.

إن آلاف الصفات من هذا القبيل تجعله ربّاً، ولكن إلى هنا لا يتمّ الدليل، فهو يجب أن لا يغيب ولا يأفل كما في حديث نبي الله إبراهيم، لابد أن يكون (يامن له نعوت لا تغير) لأنه مهما كانت صفات المحبوب كثيرة وعميقة ثم كان آفلاً فسينقلب التعلق به إلى عذاب، فأنت تتحمل فراق الناقص الذاتي، ولكن الوفي الحفيّ غافر الخطايا فراقه وبعده هو أشدّ العذاب.

وهذا يدركه الإنسان العادي، فما فائدة من عنده خزائن لا تنفد ولكنه قد يتركك وأنت محتاج إليه؟ هل يمكن أن يكون شفاء لك؟  

 الله سبحانه طبيب القلوب، وكونه كما تحب فهذا برهان كامل على وجوب عبادته، بل الفخر بعبادته. يقول الدعاء : (يامن ذكره شرف للذاكرين) ويقول الأمير عليه السلام: “كفى بي فخراً أن تكون لي ربا وكفى بي عزا أن أكون لك عبدا”

فاجعلني كما تحب..

تبين مما سبق ضرورة وجود محبوب لا ينقلب حبه إلى عذاب وفراق وأفول وهي ضرورة يدركها كل إنسان، ولكن بقي أن نعلم أن هذا المحبوب الذي يحمل هذه الصفات قادر أن يجعلك كما يحب أيضا، هو الذي يجعلك، لاحظ  قول الامام زين العابدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة: ” منْ أَيْنَ لِيَ الخَيْرُ يارَبِّ وَلا يُوجَدُ إلاّ مِنْ عِنْدِكَ ؟ وَمِنْ أَيْنَ لِيَ النَّجاةُ وَلا تُسْتَطاعُ إِلاّ بِكَ ؟ لا الَّذِي أَحَسَنَ اسْتَغْنى عَنْ عَوْنِكَ وَرَحْمَتِكَ وَلاَ الَّذي اَساءَ وَاجْتَرَأَ عَلَيْكَ وَلَمْ يُرْضِكَ خَرَجَ عَنْ قُدْرَتِكَ “ يعطي  الإمام هنا مبرراً لبقية الدعاء، ويبين كيف أننا محتاجون إلى الله في جعلنا كما يحب، اجعلني كما تحب تعني فيما تعني أنني يا رب جزء علة ضعيف جداً، لأن محبتك هي الخير.

ختاما..

لنعقد مقارنة سريعة بين إبراهيم الذي عرف الله محبوباً له، فأنجاه الله من النار، وبين ليلتنا هذه ليلة القدر.

حين عرف إبراهيم ربه وأحبه قال الله لناره ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ إبراهيم/ 69، هذا ونار إبراهيم محدودة في مكان معين، و قُصد بها شخص معين.

ونحن بعد أن عرفنا أنه كما نحب، نرجو مطمئنين في هذه الليلة أنه سبحانه يمكن أن يبدل كل الوجود برداً وسلاماً ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾.

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 135٬703 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاطميون بالانتماء لها ﴿؏﴾ 4.5 (2)

فالمقصود من أهل قم هم الحاملون لفكر وثقافة ومبادئ وأخلاق قم وربما لم يصلوا لها ولم يدخلوها أبدًا، وأما من سكن قم ولم يراعي حرمة السيدة المعصومة ﴿؏﴾ فكان يكذب ويسرق ويهين ويستهين بالمؤمنين، ولا يهتم بأمور المسلمين الكبرى؛ فهو ليس من أهل قم.

فزت ورب الكعبة ٢ 0 (0)

نلاحظ أن أمير المؤمنين ﴿؏﴾ قد أولى مسألة الاهتمام والانشغال بالمظاهر اهتمامًا كبيرًا، وعالج هذه الظاهرة علاجًا يقطع التكاثر تمامًا من النفس، لأن التكاثر يسلب اليقين القلبي العرفاني العملي، أي أن يعمل الإنسان بما يتيقن،