تقدم القراءة:

الصوم والصمت

3 يونيو، 2015

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

 بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين 

أبارك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ولكافة المسلمين حلول شهر رمضان والتوفيق لضيافة الله سبحانه وتعالى، وأسأل الله أن يجعلنا من المقبلين على هذا الشهر والعارفين بقدره والمؤدين حقه .

نحن مأمورون بالإقبال على الأعمال العبادية. المصلي مأمور بالإقبال على الصلاة، والحاجّ مأمور بالإقبال على أعمال الحج … وفي كل العبادات يعدّ إقبال الإنسان أمرا مهما . وكما تعلمون فإن عملية الإقبال وصرف الوجه لله سبحانه وتعالى تحتاج إلى جهد وجهاد نفسي وفكري وروحي وعصبي كبير جدًا. ولكن في شهر الله  تنعكس المعادلة، فقد ورد في الخطبة الشعبانية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( أيها الناس إنه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة ) فشهر رمضان غاية في اللطف والرحمة فهو المقبل علينا بالرأفة والرحمة والمغفرة ونحن المتلقون لكل تلك الفيوضات.

نستكمل شرح سورة يس التي بدأناها في الموسم الفائت. هذه السورة التي تفصّل آياتها على واقع الإنسان في كل زمان، ولكن الآيات الأخيرة منها تبدو مفصّلة على مقاس واقعنا، وسنلفت لها مع تتابع السير في السورة المباركة.

نحن نعرف أن وظيفة الرسول صلى الله عليه وآله والقرآن الكريم هي تعليم الناس: ﴿يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ(١) وجاء في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( أنا مدينة الحكمة وهي الجنة وعلي بابها)(٢) وفي خبر آخر: ( أنا مدينة العلم وعلي بابها )(٣) هذه الروايات تبين لنا أن الجنة هي ليست صرف بساتين وأنهار وغرف أو ثمار ولحم طير مما يشتهون وإنما هي مدينة الحكمة و العلم والمعرفة، ولا شك أن نعيم الإنسان الواقعي هو أن يعيش بعقله وإدراكه وانشراح صدره بالعلم والمعرفة.

كانت تلك لفتة سنستفيد منها فيما يستقبل من الحديث في السورة، أما حديثنا اليوم فسيكون مرتبطا بالصوم.

حديثنا في هذا اليوم يرتبط بالصوم وليس بشهر رمضان، وهذان أمران يجب أن نفكك بينهما. فالصوم عبادة لها خصوصية وشهر رمضان له خصوصية أخرى. نحن في الواقع نعيش كرامتين: الضيافة الإلهية، وشهر رمضان. والصوم ما هو إلا وظيفة في شهر رمضان.

حديثنا سيكون حول ارتباط الصوم بالحكمة: 

وردفي حديث المعراج: (قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا ربّ، ما أوّل العبادة؟ قال: أوّل العبادة الصمت والصوم. قال: يا ربّ وما ميراث الصوم؟ قال: الصوم يُورث الحكمة، والحكمة تُورث المعرفة، والمعرفة تورث اليقين، فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح: بعسر، أم بيُسر)(٤) هذا السؤال صدر من رسول الله صلى الله عليه وآله صاحب ذلك المقام الرفيع وفي موقعه العالي، لذا فهو ليس بديهياً كما نتصور بل يتناسب وموقعية ومقام رسول الله.  فإن العاقل الحكيم يعرف أن في هذا الكون نظاما دقيقاً مترابطا، هناك نظام علة ومعلولية ومؤثر ومتأثر ومتقدم ومتأخر وأول وثان وثالث وسلسلة من الأنظمة المترابطة التي لا تنفكّ عن بعضها.

سؤال رسول الله صلى الله عليه وآله عن أول العبادة يعكس حقيقة يعيها رسول الله وهي أن العبادة ليست حلقات متفككة كما يعتقد غير العالِم وغير الحكيم. الكثيرون يعتقدون أن العبادة هي أوامر متناثرة غير مترابطة، وليس بينها علّية ومعلولية أو أثر ومؤثر وسبب ونتيجة. إذن هذا السؤال من رسول الله صلى الله عليه وآله سؤال لا يصدر إلا من إنسان قد أحاط علما بالسلسلة المترابطة والعلل والمعلولات والنظام والتدبير الموجود في هذا الكون، سؤال ممن يعرف أنه ليس هناك عبث في هذا الكون و أن الله سبحانه ليس من اللاعبين ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (٥) والله بهذا الجواب يكشف لحبيبه نظام الترابط بين العبادات حتى ينكشف له الحكمة والتدبير الإلهي حتى في حركة جناح البعوضة(٦)

أول العبادة الصمت والصوم:

وجاء الجواب الإلهي لسؤال أكمل الموجودات متسقا مع عمقه وبُعد دلالاته ليقول (أوّل العبادة الصمت والصوم) الصمت والصوم منهما تنبثق الرحمة وتنفتح بقية أبواب العبادة للإنسان، ويحصل بها على بركات القربى من الله سبحانه ومعرفته ومناجاته. ولكن هنا يأتي سؤال :كيف يكون الصمت هو أول العبادة مع أنه فعل سلبي؟

والجواب: أننا إذا عرفنا قيمة ما يقابل الصمت وهو الكلام فسنعرف أن الصمت عبادة عقلية، عبادة فطنة، عبادة فهم و معرفة. ولنبين ذلك أكثر:

الكلام يقابل الصمت، وهناك كلام واجب وهناك مستحب -إضافة لوجود كلام آخر محرم ليس مورد حديثنا – فمن الواجب الكلام في الصلاة، و ردّ السلام، والكلام في المعاشرات و صلة الرحم، والكلام في نشر الحق ودحض الباطل، وفي التعليم، والهداية، والإرشاد. ومن مستحبات الكلام البدء بالسلام، ولطف العبارة مع المؤمنين وغيرها كثير وهي رفيعة جداً. وهناك ممن عاشرتُ من المؤمنين هم ممن يعدّ سلوكهم نموذجا في الدقة في تشخيص ما يقولون. زوجة الشهيد الصدر – مثلا- من الأشخاص الذين لا يخرج كلامهم عن الواجب والمستحب لدرجة أنها لا تكاد تنطق إلا ما فيه أجر وثواب. فكل كلامها رفع لمعنويات المؤمنين وكأنها تنفخ فيك روح الايمان.

 أضرب مثالا من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله لتتضح الصورة:

عندما دخل رسول الله (ص) المدينة وكان كل مسلم يتمنى نزول النبي في بيته، ويطلب منه أن يتشرف بضيافته وربما جرّ أحدهم الناقة ليوصلها لبيته حينها قال رسول الله صلى الله عليه وآله ( دعوها فإنها مأمورة)، هذا الكلام النبوي كم كان له من أثر في تطييب كل النفوس ورضاها بمن تختاره الناقة ( المأمورة ) والحال أن آمرها ليس سوى رسول الله صلى الله عليه وآله وفقا لما نفهمه من حدود الولاية التكوينية، لكن هذا الأمر لم يكن واضحاً عند قومه في ذلك الزمن. 

هذا النوع من الكلام فطنة، ويقابله الصمت. وكما أن على الإنسان أن يختار مواطن كلامه وينتقي ما يقول عليه أن يختار مواطن صمته ليكون صمتاً عن فطنة. فكثير من مشاكلنا التي وقعنا فيها سببها  الكلام في غير مورد الكلام أو الصمت في مورد الكلام. لقد استطاع عدونا أن يسيطر علينا بسبب أن كثيراً من الناس كان يجب أن يتكلموا ولم يتكلموا، وآخرون  كان يجب أن يصمتوا فلم يصمتوا فكان كلامهم ضرراً للطائفة و للمسلمين.

قيمة الصمت:

يكون للصمت قيمة حين تقوم بدورك في الكلام الواجب، فتحدد الكلمة الواجبة وتكون صاحب فطنة وفهم تستطيع بها أن تدفع المفسدة، فتتكلم لتقوّي الحق، وتعرف موقع الصمت ومتى يجب أن تصمت. فحقيقة الصمت هو أن يحيط الإنسان علماً بما يجب أن يقال ويؤدي رسالته كماً وكيفا.

في قراءة للحدث الأخير(٧) نلاحظ أن الذي رفع مستوى الدمام ورفع مستوى المؤمنين ورفع رؤوسنا هو أن امرأة تكلمت في موضع يجب الكلام فيه وقالت ما يجب قوله، هذا حكمة و عبادة لا مثيل لها.

ولابد من الإشارة إلى أن الصمت غير السكوت، فالصمت حركة فكرية عقلية، الصمت تحديد المسؤولية، وأما السكوت هو إسقاط أو تغافل عن المسؤولية وقد قيل الساكت عن الحق شيطان أخرس.

إذن : أول العبادة الصمت لأن الصمت فعل، الصمت يعتمد على عمق في الإدراك، ومعرفة الوظيفة ومعرفة الدور وقراءة الواقع ولهذا هو من أهم العبادات.

ولكي يكون للصمت هذه القيمة لابد من توفر أمرين:

١-  تشخيص ما يجب أن يقال .

٢-  تشخيص ما يجب أن يسكت عنه .

فإذا وصل الإنسان في معرفة دوره و موقفه الاجتماعي، وفي معرفة دور مجتمعه وأمته فيما يجب أن يقال وما لا يجب أن يقال فهذا عنده مفتاح أول العبادات.

وعلى ضوء هذا المعنى يمكننا فهم الروايات الواردة في مدح الصمت، وأن الصامت يؤتى الحكمة. فهي لا تعني الصامت بمعنى الساكت، بل الصامت هو الذي يحسن تقدير الأمور فيعرف موقع الكلام حين يكون دفعا للمفاسد أو ترويجا للدين، ويصمت حين يحقق الصمت نفس الأهداف. من يمتلك هذه المكنة فقد أحرز أول العبادة. هذه العبادة بينها وبين العبادات التي تليها ترابط وتسلسل و نظام علية ومعلولية.

ميراث الصوم:

تقول بقية الرواية التي بدأنا الحديث بها أن رسول الله صلى الله عليه وآله سأل أيضا:  ( يا ربّ وما ميراث الصوم؟ قال: الصوم يُورث الحكمة ) السؤال هنا عن النتيجة، فكل عاقل اذا أراد أن يقوم بعمل معين يجب أولاً أن يعرف ثمرته حتى يمكنه تقييم حركته ومدى قربه من الهدف.  والله سبحانه يجيب نبيه أن ثمرة الصمت هي الحكمة. فما هي الحكمة؟

الحكمة قدرة وملكة ومُكنة في وضع الأمور في مواضعها. يقول تعالى: ﴿ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ (٨) وفي الآية نكتة وهي تقديم المفعول الثاني على المفعول الأول الذي حقه التقديم في اللغة ولتوضيح ذلك نستعرض آيات أخرى تعاملت مع المفعولين بالنسق اللغوي الطبيعي مثل قوله تعالى :﴿يهبُ لمنْ يشَاءُ إناثاً ويهَبُ لمنْ يشاءُ الذّكور(٩)  وقوله ﴿قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا(١٠) فالفعلين (يهب) و (رزق) متعدّيان نصبا مفعولهما الأول ثم الثاني وفق النسق الطبيعي للغة ، والملاحظ أن الحديث هنا في الماديات، لكن حين تحدث عن الحكمة قدمها  وهذا يعكس أهميتها ورفعتها. فكل عاقل يتمناها ويرجوها، وهي بالنسبة له مقام رفيع يتمنى أن يناله ويصل إليه.

ماهي علاقة الحكمة بالصوم ؟

هناك بيانات عند العرفاء والأخلاقيين في أسرار الصيام وكيفية حصول الإنسان به على هذا المقام الرفيع أهمها هو أن الصيام يجعل الإنسان فارغاً من مطالبه المادية لصالح حياته المعنوية.

نحن أمام فضيلتين: فضيلة شهر رمضان وضيافة الله سبحانه وتعالى، وأمام فضيلة  أخرى وعطية ثانية وهي الحكمة. وما أحوجنا في مثل هذه الأحداث وفي مثل هذا الواقع الذي نعيشه وما سوف نقابله في المستقبل إلى الحكمة والمعرفة وإدراك الدور.

هذه في الحقيقة لا يتعلمها الإنسان إلا بهذه العبادات وهذه الطاعات، أسأل الله سبحانه وتعالى الذي من علينا بلطفه وجوده وكرمه ورحمته وجعلنا من ضمن ضيوفه في هذا العام أن يرزقنا في هذا الشهر العتق من النار والفوز بالجنة والآخرة.



١. آل عمران 146

٢. بحار الأنوار – العلامة المجلسي– ج 40 – الصفحة 201 .

٣. المصدر السابق .

٤. لقد خص رسول الله صلى الله عليه وآله بعروجه إلى أعلى مقامات القرب الإلهي، ولم ينقل ذلك عن نبي من الأنبياء.فموسى مثلا هو من ذهب إلى لقاء ربه {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف143]وإبراهيم كذلك {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات99]ولكن حركة رسول الله تختلف فقد أسري به {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء 1]والله هو الذي دعاه ولم يأت هو كما هو موسى وإبراهيم وسائر الأنبياء . ولعل التعبير بالتسبيح في بداية الحديث عن الإسراء والمعراج مفاده أنها صورة بديعة تستحق التسبيح . ولهذا كان كل ما ورد في حديث الإسراء والمعراج في هذا الجو المعنوي الخاص,منها خطابات الله لرسوله في المعراج.فلم يخاطبه الله سبحانه وتعالى  بـ محمد وإنما خاطبه بـ أحمد ،محمد يعني أنه محمود في الأرض لكن أحمد فيها مبالغة .أحمد يعني غاية الحمد ونهايته .

٥. الدخان 38

٦. يقول صدر المتألهين: “لا يتحرك جناح بعوضة إلا في ضمن نظام التكوين و في ضمن سلسلة تدبيرية لله سبحانه”

٧. إشارة إلى استشهاد ثلة من الشباب نتيجة دفعهم إرهابيا حاول تفجير مسجد الإمام الحسين بالدمام .

٨. البقرة269

٩. الشورى 49

١٠. هود88


كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬299 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فزت ورب الكعبة 0 (0)

﷽ السلام عليك يا رسول الله، السلام على أمير المؤمنين، وعلى الصديقة الطاهرة، وعلى الأئمة المعصومين.   السلام عليك يا أمير المؤمنين، ويعسوب الدين، وقائد الغر المحجلين، السلام عليك يا باب الله، السلام عليك يا عين الله الناظرة، ويده الباسطة وأذنه الواعية، وحكمته البالغة،...

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...