تقدم القراءة:

تفسير سورة الغاشية ٣

22 مايو، 2012

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

نستكمل ما وصلنا إليه من شرح الآيات ﴿ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) ﴾ قبلها سنجيب على هذا السؤال : 

 نحن نعرف أن القيامة سمّاها الله في موارد أخرى من القرآن بالواقعة والحاقّة وأسماء أخرى كثيرة، فلماذا سمّاها هنا بالغاشية؟ وما الارتباط بين الغاشية وبين قوله جلّ وعلا {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ. عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}؟ وأيضا ما الارتباط بين الغاشية وقوله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ. لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ. فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}؟

الجواب : نحن الآن محاطون بالزمن الذي نعيش فيه. ونحن خارجون عما سبقنا من الأزمنة وعما سوف يأتي بعدنا. هذه الأزمنة ليست محيطة بنا ولسنا محيطين بها. ولكن يوم القيامة ﴿يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ﴾ [هود103] في ذلك اليوم كلّ الناس يعيشون زمانا واحدا وظرفا واحدا، وحالا وأحداثا واحدة. كلّ الناس يغشاهم ذلك اليوم، إمّا بعذاب أليم أو بنعمة ورحمة.  فالغاشية غاشية بالنسبة للناس -كلّ الناس- بمعنى أنها تغطي وتشمل وتحيط كلّ الموجودات بلا تصرّم وتقطع في الزمن.

والغاشية غاشية بالنسبة للإنسان نفسه فهي اليوم الذي يرى فيه أعماله مجموعة في وقت واحد. وبيان هذا :  إن أعمالنا حسنة أو غير حسنة هي إما في زمان ماض، أو سوف نقوم بها في المستقبل، لكنها الآن غير محيطة بنا بل هي متفرقة في قطعات الزمان، لكن يوم القيامة ليس كذلك، بل ستكون كل الأعمال مجموعة في حال ووقت وزمان واحد. يقول تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ  [البقرة: 81]  أحاطت بهم سيّئاتهم أي هذه السيّئات التي كانت متفرّقة في الزمان ستحيط بالإنسان كلها في زمن واحد يوم القيامة .  

هذه الإحاطة تخلق بين الإنسان وبين الحقّ جلّ وعلا حاجزا وحجابا، وحين تجتمع تلك الأعمال التي صدرت من الإنسان على امتداد عمره تحيط به لتشكّل حوله جدارا سميكا فيصبح في (سجّين) وليس سجنا . والفرق بين السجن والسجين هو أن السجن يحيط الإنسان بأربعة جدران مغلقة المنافذ، فيصبح فاقدا للقدرة على الحركة والمشي والاختيار، لكن السجّين هو سجن وسجن وسجن حتى ييأس الإنسان من الخلاص.

الغاشية فيها هذا النحو من جمع الأعمال المتفرّقة في الزمن، مع الإلفات أنها لا تخص الأعمال السيئة، فالأعمال الحسنة تجتمع أيضا و تتراكم وتصبح غاشية تحيط بالإنسان ، لكن الأثر مختلف ، فالعمل الصالح نور على نور ويجعل الإنسان في حال من الترقّي. تلك الأعمال الصالحة التي صدرت من الإنسان في زمن ما ونسيها، ولا يشعر في نفسه بقيمتها، هذه الأعمال لها قيمة تاريخية، في الغاشية يحصل ارتباط وجوديّ بين أعمالك الصالحة الماضي منها والحاضر وما هو آت في المستقبل.  تصوّر أن يذكّر الله الإنسان بالأعمال الصالحة التي قام بها وهو طفل بنية حسنة وصفاء وطيب سريرة، ويوضع الإنسان في مناخها وأجوائها وتجمع كلّها مع بقيّة أعماله الصالحة وتعطى له دفعة واحدة، فماذا سيحدث لهذا الإنسان؟ سينعم بذلك ويكون حاله ما تحكيه الآية ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ.

ميزة العمل الصالح أنه يخلّص الإنسان من القيود ويفتح له الأبواب ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ  [ص50] بينما حال المسيئين في سجّين ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ  [الهمزة8-9] الملفت في الآية أن إقفال جهنم ليس بشكل عرضي كما في الأبواب عندنا والسبب لأنها سجن فوق سجن فوق سجن، سجن مطبق. لأن أهل الباطل كلّ واحد منهم سجن للآخر، هناك ترابط بينهم وبين أعمالهم (فَلَعَنَ الله اُمَّةً أَسَّسَتْ أَساسَ الظُّلْمِ وَالجَوْرِ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ) من يقوم بفعل سيّء ثم يأتي بعده من يقتنع بفعله ويرضى به ويسير عليه فهو محسوب عليه وشريك معه، وبالتالي سوف يغشاه فعله وفعل غيره. في المقابل الإنسان المعتقد بالحقّ والحقيقة يفتح لنفسه بابا وللجيل الذي بعده، والجيل الذي قبله يفتحون له الباب أيضا، فهؤلاء في حالة غاشية وهؤلاء أيضا عليهم غاشية، لكن أولئك الذين عليهم غاشية العذاب وجوههم يوم القيامة خاشعة.

﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً. تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ. لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ

 من الملاحظ أن القرآن عندما يذكر القرآن الأبرار أو الأشقياء يتكلّم أيضا عن أكلهم وشربهم والسبب: أن القرآن الكريم عنده قاعدة تؤيّدها الروايات والأدلة العقلية، وهي : أن الإنسان في كلّ شؤونه في هذه الحياة هو في حالة أكل وشرب  . الإنسان يتلقى عبر كل حواسه، إذا تكلّم فهو يأكل، عندما ينظر هو يأكل، يأكل عبر كلّ حواسه وتنمو شخصيته الحقيقية التي سوف تقف بين يدي الله سبحانه وتعالى .

 عندما يقوم الإنسان بأيّ فعل فهو في الحقيقة فاعل ومفعول في نفس الوقت،  هو علّة الفعل ومعلوله. وكلّ فعل يقوم به الإنسان  يغذي روحه وينمّيها ويصنع لنفسه شكلا  وملامح ولون بشرة لذلك العالم ، ولذلك هذه الآية من الآيات التي تدلّ على أن المعاد أيضا جسمانيّ، أي أن الناس سوف يبعثون بأرواحهم وأجسامهم، ولا نعني هذا الجسم طبعا ، بل الجسم الذي صنعوه من أفعالهم وأعمالهم .وأهل المحشر يعرفون بعضهم، حتّى ذلك الإنسان الذي بعث على صورة أجمل مما كانت في الدنيا يعرفون أنه فلان، لأن السنخية واحدة. 

في هذه النشأة الذي يعطي الإنسان خصائصه البدنية هي البيئة التي تخلّق فيها: الجينات الوراثية لآبائه، الطبيعة والمكان وغيرهمن العوامل . لكن في العالم الآخر الذي يصنع بدن الإنسان هو فعله  لذا ندعو بـ (اَللّـهُمَّ لا تُبَدِّلِ اسمي، وَلا تُغَيِّرْ جِسْمي) . أفعال الإنسان هي في الحقيقة بمثابة الغذاء الذي يصنع شخصية الإنسان،  يقول تعالى :﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا  [نوح 17] .

إذن فالشرب والأكل هو تعبير عم حفقيقة أفعال الإنسان ،الإنسان نبات تسقيه أعماله وتنمو بها شخصيته الأخروية ، والجزاء من سنخ العمل ، لذا فالمجرمون يسقون مما سقوا به شخصياتهم من قبائح في هذا العالم﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ ولم يحدد هنا من هو الفاعل للسقي، وما أشدّ العذاب عندما يكون المصدر مجهولا غير معروف! 

قد يقال : لماذا لا يمتنع المجرمون من الشرب في النار؟

الجواب : لا اختيار للإنسان في تلك الدار،فهو يشرب غير مختار، هذا من جهة . ومن جهة أخرى الإنسان مفطورعلى التكامل في كل عوالمه، وعنده عطش دائم للتقدم إما في الخير أو الشر، إما للقربى من الله سبحانه وتعالى أو نحو البعد عنه .هذه صفة لا تتغير في الإنسان ولا تزول لأن فطرة الإنسان قائمة على الطلب، وما دام هناك طلب فلا بدّ أن يكون هناك إجابة لهذا الطلب.  فإذا كان كلّ طلب الإنسان يدور حول مخالفة الحقّ فهو في النهاية سوف لا يشرب إلا ما يخالف الحقّ. والروايات تطبّق هذه الآيات على أعداء أمير المؤمنين فلأن مناصبة أهل الحقّ لا تنتهي، والذي ينصب العداء لأهل الحقّ يجب أن يبقى (عاملا) دائما، في الدنيا (عامل) بجوارحه، وفي الآخرة (عامل) بجوهر ذاته . من يبغض عليّا عليه السلام في الدنيا فهو لن يتوقّف عن بغضه في الآخرة بل سيزداد بغضا.

ينقل السيّد الإمام (قده) رواية في ميلاد النبي (ص) مفادها أنه في يوم القيامة وأهل جهنم يصطرخون.. في لحظة تهدأ النار، وتمرّ ريح طيّبة، وتفتح الأبواب، فيسأل أهل جهنّم ما السرّ؟ ما الذي حدث؟ فيقول مالك لأهل جهنّم إن هذا محمّد ابن عبد الله (ص) عبر على الصراط، فيصرخ أهل جهنّم بصوت واحد: اغلقوا الأبواب.. لا نريد أن نراه!! وذلك لأنبغضهم يزيد في ذلك العالم.  وليس ذلك باختيارهم، فقد خرجوا عن إطار الإرادة الوقتية، ورسخت فيها هذه الملكة في ذواتهم. لذلك هم دائما في حالة سقي من هذه النار.

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬103 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...