تقدم القراءة:

الوتر الموتور ٨

30 نوفمبر، 2013

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

5
(1)

شرحنا فيما سبق معنى الوتر بشيء من التفصيل، وسنوضح اليوم معنى الموتور.

ماذا تعني كلمة الموتور؟

الموتور تعني: المهجور، المقطوع، المفرد، الوحيد، الذي انقطعت عنه جميع الأسباب، في ظرف قد هجمت عليه كل المصائب والمصاعب والهموم، الحسين لم يوتر فقط بفقد أعز أبنائه، بل كان موتورا من كل جهة.

لكي نعرف معنى (موتور) فإن أقرب معنى لها هو (مهجور)، وسنبيّن كيف كان الإمام الحسين (ع) موتوراً من خلال قوله تعالى عن لسان رسول الله: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: 30] .

قد يتصوّر البعض من لحن الآية أن النبي في مقام الشكوى إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن بناء على المنهج التفسيري لأستاذنا الشيخ الجوادي حفظه الله فإن رسول الله في مقام المناجاة مع الله سبحانه وتعالى، ونقل الواقع الخارجي، وهو أن قومه اتخذوا القرآن مهجورا.

التعبير بالقوم إذا جاء بلا تمييز بين أصناف القوم فإنه يشير إلى كل الأمة، والتعبير بلفظة (قومي) باعتبار أن الإنسان عادة يعتمد على قومه، والقوم من (القيام)، لأن الإنسان إذا كان متميّزاً في قومه كأن يكون نبياًّ مثلاً في قومه فإنه يعتمد على قومه ويقوم بهم.

﴿إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا﴾ لفظة الاتّخاذ فيها معنى الأخذ الإرادي الاختياري الجاد، لأن للهجر نحوين: فقد يهجر الإنسان شخصا، أو يقطع ارتباطه بأحد ما على نحو سلبي، فنقول تركه وهجره. ولكن أحيانا لا يتركه بل (يأخذه متروكا)، وهذا معنى (اتّخذوه مهجورا) بمعنى أن هؤلاء القوم لم يتركوا القرآن فقط بل اتّخذوا هذا التّرك، أي كانوا مريدين مختارين لهجره!

فكيف يجتمع الاتّخاذ الاختياري مع الهجر؟

للجواب عن ذلك نقول:
هناك فرق بين ترك القرآن وعدم الاعتناء به مطلقاً وبين أن تطبع ـ مثلا ـ  نسخا للقرآن وتؤسّس دوراً لحفظ القرآن وترعى مسابقات دولية لحفاظ القرآن وأنت تريد بكل هذا العمل أن يُهجر القرآن! أنت بهذا تتّخذ القرآن مهجوراً. فترك القرآن وشأنه وإن كان ظلماً لكنّه ليس المظلوميّة الأرفع مستوى، المظلوميّة في أرفع مستوياتها هي أن تكرّس طاقتك لهجر القرآن. ترك القرآن (عمل سلبي)، أما (الأخذ) فهو فعل إيجابي. والتّظاهر بالاهتمام بالقرآن بغرض تركه هو اتّخاذه مهجوراً.

بعد فهم معنى اتّخاذ القرآن مهجوراً قارنوا ذلك مع كون الإمام الحسين (ع) موتوراً. هل أن هذه الأمّة بعد أن رفض الحسين البيعة تركت الحسين وشأنه وأفسحت له المجال ليذهب لأي مكان مع أهل بيته؟ أو أنها اتّخذته لتهجره وتقطعه وتفرده وتظلمه، هل لاحظتم الفارق؟!

لكي يتضح المعنى أكثر لنشرح معنى كلمة (مهجور).

الهجران يفترض فيه عادة ثلاثة أمور:

  1. أن يكون المهجور موجوداً مدركاً، ذو روح تدرك معنى الهجران وتتأثر به. القرآن  فيه روح، يقول تعالى عن الوحي: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: 52].
  2. أن يكون بين الهاجر والمهجور علاقة مسبقة، وحين تقطع تسمّى هجرانا، فبدون سابق علاقة لا يقع الهجران.
  3. أن يكون المهجور يتألم من هذا الهجران. وطبيعة الهجران أنه يسبّب العذاب للمهجور.

هؤلاء القوم اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً، أي هو باق عندهم ولكن يتعاملون معه على نحو القطيعة والهجران والتفتيت وعدم الاهتمام وسلب المعنى وفقد الآثار ومحو ما فيه وتقطيع معانيه. ولأن القرآن له حقيقة مدركة، وبينه وبين هؤلاء علاقة، ولا شك أنه يشعر بالأذى من ذلك الهجران، فإن معنى الهجران منطبق تماما على القرآن.

نفس هذا التّعاطي مع القرآن وقع في حقّ الإمام الحسين عليه السلام، وحين نطبّق على الإمام الحسين ما ذكرناه في شأن الهجران سندرك كيف كان سلام الله عليه موتوراً من هذه الأمة.

1. الأمر الأول: أنه مدرك وذو روح تشعر بالهجران.

ولكي يصبح البيان أسهل وأوضح سأضرب لكم دليل العرفاء لفهم هذا المعنى:

يقول العرفاء أنه بعد قتل أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه حدث في الكون فساد كبير، كان من المفترض أن ينزل على أثره العذاب على الأمة، وهم يستندون إلى قاعدة، وهي: أن كل إثم يقع لابدّ له من ردّة فعل في الكون، وصدى وضجيج، يتناسب وحجمه. ضجيج الكون وآلامه يشعر بها من يملك روحا قويّة وشعوراً قوياًّ.

فالأمير عليه السلام ليس بأهون على الله من ناقة صالح التي استحقّ عاقروها العذاب ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾ [الشمس : 14].

هذه الآثار لجريمة قتل الأمير (ع)  وقبله ظلم الزهراء (ع) من قِبل هذه الأمة، وبعد ذلك ظلم الإمام الحسن (ع). هذه الجرائم والآثام التي تضجّ منها الموجودات من ملائكة وأرضين وسماوات تنكشف للأنبياء، ويحس بها الإمام المعصوم، فكل آلام الكون كانت مكشوفة للإمام الحسين عليه السلام.

هذه الأمة استحقّت العذاب، ولكن كما يعبر الشهيد الصدر: بأن الأمام الحسين رأى أن العذاب سوف ينزل على هذه الأمة لذلك خرج لكي يتلقّى العذاب نيابة عنها، لكي ينقذ الأمة من هذا العذاب.

2. الأمر الثاني الذي يبيّن كيف وتر الإمام الحسين عليه السلام: أن علاقة هذه الأمة بالإمام الحسين علاقة مسبقة، علاقة أساسية في الفطرة، وحين فصلت الأمة هذا الرابط وهذه المحبّة فقد وترت الإمام الحسين (ع).

3. أن المهجور يتألّم من الهجران. وليس أشد إحساسا بالألم فى هذه الأمّة وشعوراً بحجم خطيئتها وأكثر معرفة بإثم هجرانها من الإمام الحسين (ع).. الأمام الحسين يعرف أنّ من يهجر أهل البيت يعذّبه الله عذاباً لا يعذّب به أحداً. كان يرى بأنّ الناس تسير باتجاه العذاب والنقمة، فرأى أنّه لابدّ أن يتحرّك ويرسم للأمّة طريق رجعة. فكان عليه أن يقوم بثلاثة أمور:

  1. أن يحرّك في هذه الأمّة الحسّ والشعور من جديد.
  2. أن يعيد علاقة هذا الأمّة بأهل البيت (ع).
  3. أن يبدّل هذا الهجران بالصلة، فترجع الأمة لتتعلّق بالإمام الحسين (ع).

وكان الطريق لذلك هو أن يتحمّل إثم هذه الأمّة وحده صلوات الله وسلامه عليه، ويخرج  -كما يعبر الشهيد الصدر-  ويتلقّى آثار هذه الخطايا هو وأهل بيته. كان هذا هو الكفيل بإعادة الأمّة إلى الجادّة وهو السبيل لرجوعها إلى الصّلة بعد الهجران، وإلى الارتباط والاتّصال بالإمام الحسين (ع) بعد وتره.
لا يوجد طريق يُرجع هذه الأمّة إلّا طريق خاص معيّن تكتشف به هذه الأمّة مدى تضحية الإمام الحسين، فعندما تهجره الأمّة وتراه بالمقابل يضحي لأجلها ويعطي ويبذل لأجلها.

كيف وترت الأمة الإمام الحسين (ع):

لقد خلق بنو أميّة وعلماء البلاط والذين حولهم جوّاً من التشويش الكامل حول شخصيّة الإمام الحسين (ع) وهو بتعبير اليوم (حرق الشخصيّة)، عبر اتّهامات وإساءة سمعة، فكثير ممن خرج لقتال الإمام الحسين (ع) كانوا قياديّين مع أبيه أمير المؤمنين في معركة صفّين. فمع أن ماضيهم جيّد إلّا أنّ الفتاوى التي قدّمت الإمام الحسين كصاحب فتنة وصوّرته كمتهوّر خارج على دين جدّه جعلتهم يقفون في وجه الإمام الحسين (ع).

تلك الحرب على الإمام الحسين سبّبت حالة من التّشكيك لدى الأمة، هذا التّشكيك نوع من الإفراد والوحدة. فأي حرب إعلاميّة تلك التي استطاع بها بنو أميّة أن يجمعوا على أقل التّقديرات ثلاثين ألفاً من الكوفة لحرب الإمام الحسين (ع) ؟!
أي دعايات وشائعات تلك التي تغيّر واقع النّاس خلال أسبوع؟!! قوم اتّخذوا أقوال رسول الله لضرب الحسين، وحكموا عليه بالقتل بسيف جدّه.

هذا المناخ أدى إلى أن تهجر هذه الأمة الإمام الحسين، أي تقطع رابطتها وعلاقتها الروحية به بشكل تدريجيّ. وبعض استشهاداته (ع) في اليوم العاشر تنطبق تماما على هذا المعنى وتؤدّي إليه، قال لهم (ع) (اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً. واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشّمس والقمر دونه واشتدّ غضبه على القوم الذين اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم) إن أكبر خطيئة هي أن تجعل لله شريكا ﴿‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا‏﴾‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48] لكن الإمام الحسين يجعل في معرض هذه الخطايا الثلاث خطيئة رابعة (واشتدّ غضبه على القوم الذين اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم) يريد أن يقول للقوم: لا يوجد فرق بين أن تنسبوا لله شريكا وبين أن تقتلوني، الخطيئتان بنفس المستوى.

الإمام الحسين (ع) ينجي الأمة:

لقد نجّانا الإمام الحسين من الخطيئة والشرك، ومن الوقوع في حبائل بني أميّة. وحوّل هذه الخارطة الوتريّة إلى صلة وارتباط وحب وعلاقة ودمعة وتفاعل واندفاع عاطفي. حتى أنّ واحدنا يأتي المجالس الحسينيّة مدفوعا بباعث باطني يجعله كأنما يسير إليها بلا اختيار!

لقد أرجع الإمام الحسين العلاقة والمحبّة والمودّة، وحوّل الناس من واترين وهاجرين إلى مرتبطين ومتّصلين وطالبين لحبّه وودّه وقربه. من منّا لا يعتقد أنّه سعيد الحظّ إذا عرف أنّ الإمام الحسين يحبّه؟ من لا يطلب في هذه الأيام الدمعة على الإمام الحسين وانكسار القلب عليه؟
نحن لم نصل إلى هذا المستوى من العلاقة والارتباط بالإمام الحسين (ع) من خلال الموعظة والإرشاد، ولا عبر كتابة الكتب والتبليغ، بل بتضحية لم يعرف لها العالم مثيلا، ويعبّر (ع): (وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه. كأنيّ بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء)

الحسين الوتر الموتور في السماوات!

نقرأ في الزيارة (السلام عليك أيها الوتر الموتور في السموات) وقد مرّ بنا معنى وتر وقطيعة الإمام في الأرض، فكيف يكون وتراً في السماوات؟

وجوابه: أنّه لا يمكن إعادة العلاقة الّتي وترت إلّا أن تنقطع عن الإمام الحسين كل أسباب النصرة من السماء. في معارك رسول الله (ص) كانت تنزل الملائكة لنصرة المسلمين، في معركة أحد نزلت الملائكة، في معركة بدر نزلت الملائكة…. إلّا مع أبي عبد الله الحسين
(ع), ولذلك كان يقول: (إلهي إن كنت حبست عنّا النّصر فاجعله لما هو خير منه، وانتقم لنا من الظالمين)

لماذا لم تأت الملائكة لنصرة الإمام الحسين؟

لأنّنا ما كنّا لنهتدي لو كان الفعل ملائكياًّ، ما كنّا لنعشق الحسين لو كان الفعل فعلاً سماوياًّ. حتى نبقى نعشق الحسين ونحبّه ونواليه ونبكي عليه وتنكسر قلوبنا من أجله.. قطع الله عنه نصر السموات.. لنبقى نصرخ يا حسين، فهو الحل لفكّ أغلالنا ولغفران ذنوبنا.

ألا لعنة الله على الظالمين.

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬126 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...