تقدم القراءة:

الوتر الموتور ٥

30 نوفمبر، 2013

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

قلنا في الدرس السابق أن معنى كون الإمام الحسين عليه السلام (أبو الأئمة) أنه أصل الأئمة الذي يمكن أن نترجم به سائر أدوار الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم, فإذا عرفنا الأصل تمكنا من ترجمة الفرع وقراءته وفهمه.

ولتوضيح ذلك شرحنا التطابق بين (أم الكتاب) وبين مقام (أبو الأئمة)، وقلنا أنّ الآيات القرآنية منها آيات محكمات وهي أم الكتاب، وبينّا معنى الإحكام و هو المنع من الفساد، فساد الفهم والموقف والمعرفة. وشرحنا دور الإمام الحسين بالنسبة لسائر المعصومين وفق هذا التطابق، فهو صاحب الدور المحكم مقابل المتشابه.

لماذا المتشابهات؟

قد يرد على ما تقدّم سؤال: إذا كانت الآيات المتشابهات تسبب الاشتباه والضلال للناس فلماذا أنزلها الله سبحانه وتعالى؟ ثم كيف يكون اتباع آية من القرآن الذي هو هدى للناس سببا في الوقوع في الشبهات وتأسيس الفتنة، حيث يقول الله سبحانه ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ﴾ [آل عمران: 7] فهل من الحكمة إنزال ما يؤدي إلى حصول الفهم الخاطئ والفتنة؟

للإجابة عن السؤال يجب أولاً أن نفهم قاعدة أولية وهي: أننا مأمورون باتباع كلّ آيات القرآن الكريم محكمة ومتشابهة ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 3] لكن وفق نظام وقانون معين.

أصل القرآن حقائق لا تشابه فيها:

ولبيان ذلك القانون علينا أن نفهم أن أصل القرآن حقائق موجودة عند الله سبحانه وتعالى، ثم تتنزل هذه الحقائق إلى عالمنا بصورة ألفاظ كاشفة عن تلك الحقائق الغيبيّة. والحقيقة الغيبية محكمة و لا يوجد فيها تشابه, التشابه إنما يأتي من القوالب اللفظية التي تنزلت لها هذه الحقائق لتتناسب وهذا العالم. ففي دار الدنيا لا يمكننا تعلّم أي حقيقة إلا عبر الألفاظ، فهي قوالب للمعاني. المعنى حقيقة وواقع له وجود عيني، واللفظ شيء لا نصيب له من الحقيقة، بل هو صورة للحقيقة، وحاك عنها لنوع من الاعتبار.

الألفاظ نشأت في عالم الطبيعة لحاجة الإنسان إلى التواصل وتأسيس حياة اجتماعية، فقد ألهم الله الإنسان وضع الألفاظ للحقائق، بالألفاظ تحضر صور الحقائق في الذهن. لكن الحقائق التي عند الله في الغيب أكبر مما تعكسه تلك الألفاظ، فهناك فاصلة كبيرة بين المعنى واللفظ، الألفاظ وضعت لتحكي الحقيقة بالمجاز والكناية فكلها اعتبار في اعتبار، وهذا ما يسبب التشابه في آيات القرآن الكريم.

بعد هذا الشرح للمحكم والمتشابه نأتي لتطبيق ذلك على سيرة الإمام الحسين (ع) وكيف أنّها هي السيرة المحكمة والأصل الذي ترجع له سيرة المعصومين عليهم السلام.

سيرة المعصومين محكمة والتشابه لمستويات الناس:

سيرة المعصومين عليهم السلام كلها محكمة كآيات القرآن، ولكن سبب التشابه في سيرتهم أنهم (ع) كانوا يتعاملون مع عقول وأذهان الناس وفق الظرف الذي يعيشون فيه، فكان الأئمة (ع) يترجمون ما لديهم من حقائق وفق مستوى الناس. وفي الناس مريض القلب والمتقي والفاسق وغيرهم، ولا بد للأئمة من إيصال رسالتهم التي هي أكبر من عقول الناس وأكبر من واقعهم، فكانوا مضطرّين لصبّ رسالتهم في سلوكيات وفق السير الطبيعي للواقع الاجتماعي، بحيث يفهمها الناس، وإذا لم يتصرفوا هكذا فلن يكون هناك لغة مشتركة بينهم وبين الناس.

ولأن كل من عاصر الأئمة نقل الأحداث حسب فهمه، لا حسب الحقيقة، لذلك كانت سيرتهم (ع) كالمتشابهات التي تحتاج ردّها إلى المحكمات، ومن غير السهل التعامل مع الروايات الواردة عنهم عليهم السلام بالقبول أو الرد. ففهم روايات الأئمة ومواقفهم يحتاج الى علوم كثيرة ومعارف حتى نفهم شيئا منها.

ولنضرب لذلك أمثلة:

١. عبادة السجاد معارضة أم انزواء؟!

ماذا نفهم من سيرة الإمام السجاد (ع) وكثرة عبادته وأدعيته؟ هل أن كثرة العبادة تعدّ أسلوب معارضة، أو أنها تعكس ابتعاد الإمام وانزوائه وتفرغه وانقطاعه لله سبحانه بعيدا عن مواجهة السلطات؟

ورد الكثير من التفسيرات لسلوك الإمام زين العابدين عليه السلام، ولكن أفضل تأويل في نظري هو ما ذكره السيد القائد حفظه الله. وأتصور أنه قد استفاد من تجربته لثلاثين سنة في العمل الجهادي والسياسي والاجتماعي والفقهي وممارسة المرجعية في استقاء هذا الفهم لسيرة الإمام السجاد.

مجمل ما يقوله السيد القائد في هذا الشأن: أن المسلمين الذين عايشوا الإمام زين العابدين كانوا حديثي عهد برسول الله صلى الله عليه وآله، والصورة التي انطبعت في أذهانهم للنبي أنه كما كان قائدا عسكريّا كان أيضا نبيا ينزل عليه الوحي، فكان المرجع العرفاني والروحي للناس، والمهتمّ بتعليمهم، يأتيه الفقير فيعلّمه دعاء فيستغني، ويأتيه المريض فيعطيه دعاء ليشفى، فالمسلمون لديهم صورة للحاكم الشرعي، لا يمكن فيها الفصل بين حكومته الإلهية الشرعية وبين قدرته على ربط الناس بالله. والحاكم الذي لا يعرف كيف يناجي الله، والذي لا يعلمك كيف تتوب إذا عصيت فهو لا يعكس تلك الصورة لرسول الله، وبالتالي لا يمكن أن يكون خليفة له صلى الله عليه وآله، لأن رسول الله كان يمارس كل هذه الوظائف الروحية في نفس الوقت الذي هو قائد وحاكم شرعي. وقد كان المسلمون يربطون بين كل هذه الوظائف ولا يفككون بينها. وممارسة الإمام السجاد عليه السلام لهذا الدور، وقدرته على ربط الناس بالله معناه أنه الأقدر والأحق بالحكومة، لأن هذا ما عرفت الأمة به نبيها، ولا تتصور أن يكون من يدعي خلافته ونيابته مفتقرا لهذة الميزة الروحية. بل لا تزال صورة النبي الذي يقيم الليل حتى تتورم قدماه مرتبطة بالموقع القيادي و الحاكمية و إدارة لشؤون الدولة.

فعندما يكشف الإمام زين العابدين للمسلمين وجود هذه القدرة عنده فهو بذلك يكشف أنه الأولى بالحكومة، لعدم تفكيك المسلمين بين الوظيفتين. وهذا ما جعل مغتصبي الخلافة يأتون بأحكام يحلون بها ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، لأنهم أخذوا موقع رسول الله، وعندما يرى الناس عجزهم عن التصدّي للمهمّة سيستنكرون خلافتهم، لذا فقد كانوا مضطرين لأن يصبغوا أنفسهم بهذه الصبغة. هذا التفكيك بين الوظيفة الروحية والقيادية جاء في عصور متأخرة، بعد أن توالت دول الظالمين، فاعتدنا هذه الصورة التفكيكية وقبلناها.

٢. الإمام الصادق عليه السلام يعيب السفينة!

يروى أنّ أحد أقرب أصحاب الإمام الصادق إليه كان في مجلس وفيه الإمام الصادق عليه السلام. وكان الإمام يعيبه أمام الجالسين وينتقده جدا، وبمجرد أن فرغ المجلس سأل الإمام الصادق (ع): سيدي كنت أخلو بك فلم تحدثني بكل هذه العيوب! أجابه الإمام ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾ [الإسراء: 79 ] يعني يقول: إني أعيبك حتى لا يأخذك بنو العباس وذلك، لوجود أحد عيون بني العباس في المجلس، فتصرف الإمام هذا التصرف تقيّة وحفاظا على صاحبه(١). مثل هذه المواقف تجعل في أذهان الناس شبهة حول فعل الإمام.

كذلك موقف المعصومين من الثورات التي قامت في عصورهم، حيث نجد في كثير من الأخبار أن المعصومين لم يكونوا يؤيدون تلك الثورات، وكانوا يصرحون بأنها لن تنتصر ولن تنجح، لكن يقول السيد الإمام (رض) ما مضمونه أنه لم تقم ثورة وحركة إلا ودعمها الأئمة عليهم السلام وإن كانوا يظهرون خلاف ذلك.

مواقف الأئمّة تترجم بالحسين الوتر:

من ذلك نفهم عمقا آخر من وترية الإمام الحسين عليه السلام وأبوته للمعصومين فنقول:

بما أن فضاء هذا العالم فضاء يخلق متشابهات، ولا يمكن فيه تحقيق المشروع، لا بد من دور محكم يرجع إليه. من هنا كان الإمام الحسين وتراً في موقفه، إذ تصرف بشكل محكم لا شبهة فيه، لم يحابِ ولم يجامل ولم يستخدم التقية، ليكون أصلا محكما نرجع له ما تشابه من سيرة المعصومين. فلا بد من أصل ترجع له الأمة لتعرف تفسير تصرفات الأئمة، وإلا ستضيع في المتشابهات وتضيع في تشخيص الموقف. وهذا ما عنيناه من وتريّة الإمام الحسين في أبوته للمعصومين، فهي تعني أن كل الأئمة يترجمون بالحسين عليه السلام.

ألا لعنة الله على الظالمين.


١. بحار الأنوار، ج 2، ص 246: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) اقْرَأْ مِنِّي عَلَى وَالِدِكَ السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ إِنِّي أَعِيبُكَ دِفَاعاً مِنِّي عَنْكَ فَإِنَّ النَّاسَ وَالْعَدُوَّ يُسَارِعُونَ إِلَى كُلِّ مَنْ قَرَّبْنَاهُ وَحَمِدْنَا مَكَانَهُ لِإِدْخَالِ الْأَذَى فِيمَنْ نُحِبُّهُ وَنُقَرِّبُهُ وَيَذُمُّونَهُ لِمَحَبَّتِنَا لَهُ وَقُرْبِهِ وَدُنُوِّهِ مِنَّا وَ يَرَوْنَ إِدْخَالَ الْأَذَى عَلَيْهِ وَقَتْلَهُ وَيَحْمَدُونَ كُلَّ مَنْ عَيَّبْنَاهُ نَحْنُ وَإِنْ يُحْمَدُ أَمْرُهُ فَإِنَّمَا أَعِيبُكَ لِأَنَّكَ رَجُلٌ اشْتَهَرْتَ بِنَا وَبِمَيْلِكَ إِلَيْنَا وَأَنْتَ فِي ذَلِكَ مَذْمُومٌ عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مَحْمُودِ الْأَثَرِ بِمَوَدَّتِكَ لَنَا وَلِمَيْلِكَ إِلَيْنَا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَعِيبَكَ لِيَحْمَدُوا أَمْرَكَ فِي الدِّينِ بِعَيْبِكَ وَنَقْصِكَ وَيَكُونَ بِذَلِكَ مِنَّا دَفْعُ شَرِّهِمْ عَنْكَ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً هَذَا التَّنْزِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ صَالِحَةٌ لَا وَاللَّهِ مَا عَابَهَا إِلَّا لِكَيْ تَسْلَمَ مِنَ الْمَلِكِ وَلَا تَعْطَبَ عَلَى يَدَيْهِ وَلَقَدْ كَانَتْ صَالِحَةً لَيْسَ لِلْعَيْبِ فِيهَا مَسَاغٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فَافْهَمِ الْمَثَلَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَإِنَّكَ وَاللَّهِ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ وَأَحَبُّ أَصْحَابِ أَبِي ع حَيّاً وَمَيِّتاً فَإِنَّكَ أَفْضَلُ سُفُنِ ذَلِكَ الْبَحْرِ الْقَمْقَامِ الزَّاخِرِ وَإِنَّ مِنْ وَرَائِكَ مَلِكاً ظَلُوماً غَصُوباً يَرْقُبُ عُبُورَ كُلِّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ تَرِدُ مِنْ بَحْرِ الْهُدَى لِيَأْخُذَهَا غَصْباً ثُمَّ يَغْصِبَهَا وَأَهْلَهَا وَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ حَيّاً وَرَحْمَتُهُ وَرِضْوَانُهُ عَلَيْكَ مَيِّتاً …

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

إحصائيات المدونة

  • 134٬138 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف الطريق إليه (عج)؟ 5 (1)

إن من الدقة أن نقول إن الطريق للإمام (عج) هو أن تربط نفسك بمشروعه، أما الذهاب لجمكران والسهلة والقيام بأعمال أربعينية فهذه مسائل ثانوية، وليست هي الأصل وإن كانت مهمة ومعينة وثمة حاجة لها للارتباط بالإمام (عج).

جهاد السيدة زينب ﴿؏﴾ وأخلاقيات الصراع بين الحق والباطل 0 (0)

﷽ توطئة  مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل ولد مع ولادة الإنسان؛ وذلك لاختلاف الناس في القوى والصفات والأفعال، وأن سلسلة هذا الصراع لم تبدأ بنزول آدم ﴿؏﴾ إلى الأرض  حاملًا في أصل جينات وجوده العداوة لإبليس، وكذا إبليس أيضًا؛ بل كانت في عالم الأصل منذ الخلقة...

مقام المنصورة في السماء 0 (0)

﷽ وأفضل الصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى ﷺ وعترة الطاهرة ﴿؏﴾ أبارك لرسول الله ﷺ ولآل بيته ﴿؏﴾، ولمراجعنا العظام والأمة الإسلامية، المولد الأطهر للصدّيقة الطاهرة ﴿؏﴾، ويوم المرأة العالمي، ولا يفوتنا هنا أن نبارك بالتبع ميلاد ابنها بالحقّ مفجر الثورة الإسلامية...