أهنئ البشرية كافة وشيعة أمير المؤمنين بوجه خاص ومراجعنا بشكل عام وأخص قائد الأمة الإسلامية بمناسبة حلول عيد الغدير الأغر.
لن أتعرض لحادثة الغدير لا من حيث البعد التاريخي، ولا من حيث الأسانيد، فوصول حديث الغدير بنحو متواتر وقطعي ولا شك فيه موجود في كتب العامة فضلاً عن كتب الخاصة. وسوف لا أتحدث عن التفاصيل وماحدث في يوم الغدير، ولكن سأشير الى ما يتناسب مع العنوان الذي أخترته.
ربما لم تتعرض حادثة للتعتيم والتضييع؛ بل وللضربات القاسية إلى حدّ الإنهاك والتضعيف كما تعرضت له حادثة الغدير. ومن جهة أخرى، لم تسلم حادثة من الضعف والتشويه والانهيار أو النسيان كما سلمت حادثة الغدير! وكأن الغدير في الواقع قد خرج من نظام كل الأحداث الدنيوية، إذ من طبيعة الأحداث الدنيوية أنها تقع مكتنفة بخصائص هذه الدار وتتأثر دائماً بواقعها الزماني، فكلما تقدم الزمان عليها نُسيت أكثر مهما كانت مهمة وكبيرة، لأن الزمان يساهم في إخفائها. كما أن الأحداث دائماً يتخطف بعضها بعضا، فمن الطبيعي أن تختطف أحداث الزمن الحالي وهج أحداث الماضي على الأقل من الذاكرة، ولكن حادثة الغدير قاومت كل هذه العاديات، فهي مشدودة للمستقبل وفي نفس الوقت تفرض نفسها في الحاضر، والسبب أن حادثة الغدير ليست حادثة دنيوية بل هي دنيوية وأخروية بنفس الدرجة. لذا بقدر ما أنت إنسان غديري هنا؛ فأنت أيضاً تبعث كذلك في الآخرة. وإذا ابتدأت حياتك بالإيمان بهذه الواقعة فسوف ترسم مستقبلك الدنيوي والأخروي معا، وتبقى هي القضية الأكثر حساسية والأهمية.
لماذا تعد حادثة الغدير دنيوية وأخروية؟
لأن حادثة الغدير هي الأكثر صلة بالإيمان والإنسان، والأعمق تأثيراً في حياة الإنسان المدرك وفي بنيته الشخصية من الداخل. وهي تعكس بظلالها على علاقة الإنسان بكل ما حوله وما يحيط به ويرتبط بواقعه، وهي في نفس الوقت مرتبطة بمستقبل الإنسان ومصيره كامل الارتباط. وهذا هو السر في احتفاظ واقعة الغدير بحيويتها ومدى تأثيرها على المشاعر والأحاسيس والعلم والإدراك على مر الدهور وتعاقب العصور، وسوف تبقى كذلك.
والشاهد على هذا المدعى أننا إذا رجعنا إلى النصوص القرآنية التي تتحدث عن الغدير فإننا سوف نلتفت إلى أن حادثة الغدير أعطيت كل خصائص الرسالة، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ المائدة/ 67. فكأنها جعلت كفتي الميزان هي الرسالة بما تقتضيه من الهداية والإرشاد والتعليم والنجاة والسعادة، وجعلت تبليغ يوم الغدير في كفة ثانية، فهما متساويان من حيث الخصوصيات والتأثير.
فالرسالة – كما نعلم – جاءت لإصلاح كلا العالميْن (عالم الدنيا والآخرة ) كما أنها جاءت عالمية لكافة البشر ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ ﴾ سبأ/ 28. وإذا كان الله يصف الرسالة بـ ﴿ إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ ﴾ المدثر/ 35 فالغدير كذلك، فهو عام لكل البشر، ليس لإنسان دون إنسان ولا لزمان دون زمان، وهو للناس كافة كما الرسالة، لذا فالمسألة الكبيرة الثانية التي إذا وزناها سوف نجد إنها بنفس ثقل الرسالة وحجمها هي واقعة الغدير.
ولهذا لاحظوا ما ورد عن النبي (ص) من الفريقين: “من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية”(1) فلم يقل رسول الله (ص) لو أن مسلماً أو مؤمناً مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية بل قال من مات بنحو الاطلاق، أي تشمل كل الناس، الكافر والمؤمن والمسيحي.
ما الذي يقابل الجاهلية عندنا في ثقافتنا الدينية؟
الإسلام. فالذي يعرف إمام زمانه، إذا مات سوف يموت ميتة الإسلام.
كيف يموت الإنسان؟
يموت على ما عاش عليه، وعلى المبدأ الذي التزم به. وإذا مات الإنسان على مبدأ قد التزم به في حياته لا شك أن آثاره ستنعكس عليه في آخرته. ولهذا نقول أن حادثة الغدير حادثة ممتدة من الماضي ومشدودة للمستقبل، وهي أشد وضوحاً وبياناً في العالم الآخر، فهي تشتد وتتأكد وتزداد فيصبح الإنسان في الآخرة غديراً أكثر.
ولذا كما يضمن سعادته واستقامته على الإيمان بهذه الواقعة في الحياة الدنيا؛ كذلك يضمنها في الآخرة. ومن هنا فنحن لا نقبل كلام من يقول أن المسألة مسألة خلافية وحدثت في زمان ومكان معين ويجب أن لا نثيرها حتى لا تؤثر على وحدة المسلمين.. نحن نقول القضية ليست قضية مقام دنيوي حتى يُنسى، بل هي في الحقيقة مقام روحي ومعنوي، دنيوي وأخروي أيضا.
وهذا.. فضلاً عن تأكيد الروايات؛ يؤكده إحساسنا وتعاطينا مع يوم الغدير. لاحظوا نحن نتعايش آناً آناً مع واقعة الغدير في علاقاتنا وروابطنا وزواجنا.. فكلما كان الإنسان أكثر ارتباطاً بالغدير أصبح منا أقرب والعكس صحيح، وهذا في الحقيقة شأن من شؤون الغدير وعجائبه.
… وعيد في الآخرة
هناك في ساحة الآخرة يكون الغدير عيداً لأنه عيد الله وليس عيد الناس ولا المسلمين. ورد في الروايات توثيق: أن ولاية علي تنفع الإنسان في المواقع الخمسة التي سوف يمر بها عند الموت وفي البرزخ وعند تطاير الكتب وفي الحساب وتنفعه في علو ورفع الدرجات. لأن هذه العطية والموهبة هي في الحقيقة عطية في الدنيا والآخرة وتفيد في العالمين.
ولذا ليس هناك بشرى هي أكبر من البشرى التي زفها رسول الله (ص) في مثل هذا اليوم للمسلمين عندما أعلن ولاية أمير المؤمنين (ع) ونصبه لمبايعته والاقتداء به ثم دعا له وقال: “اللهم انصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيثما دار” علي هو محور الحق، والحق يدور معه، ومن جهة أخرى اليوم الآخر هو يوم الحق ﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ﴾ النازعات/ 39 وكما كان الحق يدور مع علي في الدنيا، فسوف يدور مع علي في الآخرة، الحق بما فيه من حساب لذلك نقول في الزيارة الجامعة “وإياب الناس إليكم وحسابهم عليكم”(2) لذلك فإن هذه الحادثة غير قابلة للإخفاء، ومهما حاول المبغضون والمغرضون ذلك فإنها سوف تظهر أكثر، و تزداد تأثيراً.
الغدير اليوم أشد امتداد وحضوراً
لقد حثت الروايات على اتخاذ يوم الغدير عيداً، والقيام فيه بمراسم العيد كالتزين ولبس الجديد والعبادة وغيره. وورد الحث على الانفاق فيه، كما ورد الحث على الانفاق في سبيل الله. جاء في الرواية ما مضمونه أن الدرهم فيه بمائة ألف درهم، وفي رواية أخرى بألف ألف درهم.
وربما يكون هذا التقابل بين الإنفاق في سبيل الله والإنفاق في الغدير يوحي بنوع من الامتداد والاستمرار فلا تقتصر الدعوة للإنفاق في الغدير على يوم الغدير وليلته فقط، بل تشمل كل إنفاق في سبيل الغدير دائماً ومطلقاً. وهذا ما نفهمه من كلمة ( فيه ) فهي أعم من الظرفية الزمانية، تماماً كما أقول: أنفقت في حب فلان. لأن الغدير نفسه – كما قلنا – غير زماني وغير مكاني، فـ (فيه) هنا تفيد الشأنية كما نقول عن إنسان أنه أنفق ماله في الحج، أو أنفق ماله في التضحية.
والانفاق في الغدير يتفاوت، فأحياناً تنفق لأجل إقامة احتفال، أو لتعطي شخصاً إكراماً ليوم الغدير، وربما تنفق لطباعة كتاب، وهناك إنفاق ذو مرتبة أعلى، وهو أن تنفق لإحياء الغدير اجتماعياً في أذهان الناس، ولإبقاء هذه القضية، وإبقاء أحاسيس الناس ومشاعرها مشدودة للولاية، ومن ينفق في هذا السبيل فلن يكون له في مقابل الدرهم ألف درهم أو ألف ألف درهم؛بل سوف يكون له أكثر وزيادة، فالمنفق في إحياء مشروع الولاية لا ينفق فقط ماله؛ بل ربما يعرض حياته للخطر ليحفظ الغدير. وهذا بلا شك ثوابه أعظم وأجزل ويعادل الانفاق في سبيل الله.
ربما تقولون أن الغدير وسبيل الله هما شأن واحد. نعم، من حيث العنوان هما شأن واحد ولكنهما يختلفان من حيث الممارسة. فالغدير في الحقيقة هو لون من ألوان سبيل الله تعالى في أعلى مراتبه لأن أوضح اسم لحضور الله سبحانه وتعالى في حياة الانسان أن يكون الإنسان موالياً لله سبحانه وتعالى وموالياً لأولياء الله. ولذلك يجب أن يلتفت الإنسان الذي ينفق من إمكانياته هنا في دار الدنيا أنه سوف يعوضه الله سبحانه وتعالى ألف ألف درهم كما لو ينفقها في سبيل الله سبحانه وتعالى.. إذن هذا عيد أخروي. في العيد هنا نوزع العيديات، والله سبحانه يعلي شأنك ويعلي مراتبك في الآخرة، هذا يجعلنا نفهم بأنه لا يمكن التنازل عن واقعة الغدير وتسطيحها وتسذيجها وتحويلها إلى بقعة زمانية نثبتها بمقدار كونها تنصيباً لأمير المؤمنين (ع) كحاكم سياسي في وقته وزمانه، الأمر ليس كذلك، بل هو أعم، ولهذا من حق المؤمنين وحق من يؤمن بهذه الواقعة أن يتخذ هذا العيد أعظم الأعياد ويصبغه بكل مظاهر العيد من العبادة والطاعة واللبس والإنفاق والبذل، وأن تنعكس على يومياته وعلى واقعه بشكل أوضح. وهذا في الحقيقة ما نلمسه الآن وما نراه يشتد أكثر.
نعم لم يقبل الناس بيعة الغدير في زمانها، ولكن الله سبحانه وتعالى عصمها من الناس وعصم رسول الله (ص) بها من الناس ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ من الناس ﴾ المائدة/ 67 فالله سبحانه وتعالى يذب ويدافع في ذلك اليوم عن رسول الله (ص) وعن دين رسول الله (ص) وعن ولاية أمير المؤمنين (ع)، وها نحن اليوم نرى واقعة الغدير أشد حضوراً وتطبيقها في الخارج أشد، وانطباقها على حياتنا أكثر. هذا لا ينكره أي متابع مدرك واعٍ، وهذا التأثير الذي نراه في الدنيا سوف نراه في الآخرة أشد.
و كما أن الرسالة رحمة للعالمين فالغدير رحمة، ولهذا نحن نعيد اليوم بعيد في الدنيا ونعيد في الآخرة، ونحن نتعبد بعيدية هذا اليوم في الدنيا وبعيديته في الآخرة أيضاً.
نسأل الله سبحانه وتعالى الذي وفقنا وجعلنا من أهل ولايته وجاءتنا على طبق من ذهب ووصلت إلينا منقحة نظيفة طاهرة نزيهة عن الشك والشبهات والترديد… أن نبقى مستمرين على هذه الحالة، وكما رزقنا الله إياها حدوثاً نسأله أن يرزقنا إياها امتداداً و بقاءً.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
1- « إنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتةً جاهليّة ». المِلل والنِّحَل للشهرستاني الشافعي ـ ت 548 هـ ـ ج 1 ص 172 طبعة القاهرة، بذيل « الإسماعيليّة » وورد : « مَن مات ولم يعرف إمام زمانه، فَلْيَمُتْ إن شاء يهوديّاً، وإن شاء نصرانيّاً ». المسائل الخمسون لفخرالدين الرازي ـ ت 606 هـ ـ المسألة 47 ص 384ـ
2- عن جابر الجعفي المتقدّم عن الإمام الباقر (عليه السلام) : « فيدفع إلينا حساب الناس ، فنحن والله ندخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار الكافي : ج8 ص159 ح154
0 تعليق