في إطلالة سريعة على جملة مختصرة من فضائل وإنجازات الإمام الهادي عليه السلام، التي هي بحق إنجازات نوعية شكّلت أفقاً أساسياً في منهج الشيعة الاثني عشرية وتفكيرهم؛ يمكن أن نقول أن من أهم إنجازات الإمام الهادي مواجهة العرفان الكاذب، والطرق المعوجّة عن منهج الأئمة السليم. ليعطي في المقابل منهجاً روحياً موافقاً لكتاب الله وسنة نبيّه صلوات الله عليه وآله، حيث ابتليت الأمة في زمن الإمام الهادي عليه السلام بانتشار العرفان المزيّف والتصوّف الكاذب، والذي كانت من ورائه السلطات الحاكمة من بني العباس.
وهذا ديدن الطغاة في كل زمان ومكان. فالعصر الذي تظهر فيه موجة انتصار للقيم والأخلاق والعرفان الإلهي الحق، ويتمكن أولياء الله من أسر القلوب بالمعاني الإلهية التي تجذب الأمة وتربطهم بالولاية الحقّة؛ يعمل الطغاة على ترويج مناهج عرفانية كاذبة ودعمها، ثم صبغها بصبغة إسلامية لتبدو لقصيري النظر وكأنها من الدين، أو لتبدو ـ على الأقلّ ـ ممارسات لا يكتنفها الخطأ، وتروّج بذلك على أنها نوع من السلوك الأخلاقي المطلوب، كل ذلك ليصرفوا الأمة عن خط الولاية الحقة ومنهج أهل البيت عليهم السلام.
ويصعب في العادة مواجهة هذه الظاهرة، لأنها متلبّسة بلباس الروحانيات والأخلاقيات. ومثل هذه الأمور يخفى معرفة صحيحها من سقيمها إلا على أهل الاختصاص، بل على المتخصصين المميّزين، لأنها ليست من الأمور واضحة الانحراف، التي لا تلتبس على الناس، أو التي يتمكن البسيط والعامي من كشف زيفها بسهولة، كارتكاب المحرمات الشرعية أو ترك الواجبات العبادية، بل هي من الأمور التي لا تدخل ضمن الأحكام الفقهية بشكل مباشر. إنها تبدو من العلوم الإنسانية والأخلاقية والسلوكية، مما يجعل تشخيص الأصيل من المزيف فيها صعباً، وتضيع البوصلة فيها عند الكثيرين.
وهذا النوع من المناهج المزيفة هو ما يعمد إليه الطغاة حين يكشف الناس خواءهم الروحي في مقابل نورانية أهل البيت واستقامتهم، وذلك محاولة منهم لإيجاد طرف آخر في الساحة الإسلامية، يكون بديلا عن أهل الولاية الحقّة. من أجل أن يصرفوا أنظار الناس عن النقطة النورية الواقعية لأهل الحق. وهذه سنّة تتكرر بعد كل انتصار روحي وتربوي يظهره الله على أيدي أوليائه.
وكمثال على ذلك، لاحظوا أنه بعد انتصار الحركة الشيعية الموالية على يد العارف بالله الإمام الخميني رضوان الله عليه انفتح المسلمون – والشيعة منهم خاصة – على هذا المنهج الروحي والطرح المعنوي العميق. هذه الساحة لا يمكن للطغاة مواجهة الإمام فيها بأنفسهم، فانحرافهم أوضح من أن يلبسوا لباس القيم والمبادئ، فضلاً عن الروحانيات والمعنويات والسير والسلوك شعاراً ورداء، ليخوضوا ساحة حرب في هذا المجال، لأن واقعهم مكشوف للأمة. لذا سلكوا طريق أسلافهم، فتستروا بمناهج مزيفة، واستعانوا بأشخاص تؤدي عنهم هذا الدور.
من هنا دعونا نتساءل: لماذا انتشرت في مجتمعنا مناهج الطاقة وما شاكلها مما صبغ بصبغة العلوم بعد الحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج؟!! وبعد الانتصارات التي سجلتها الحوزة العلمية المحمدية الأصيلة؟ أين كان علم الطاقة والعلوم الأخلاقية والسلوكيات قبل هذا الوقت؟
ألا تشككون معي أن وراء هذه الأمور من يدعمها، وأنها حرب بالوكالة؟! وإن كان من ينفذها أناس طيبون وصادقو النوايا ومحبون لأهل البيت (ع)، ولكنهم مخدوعون لأنهم ليسوا من أهل الاختصاص والتمييز.
ألا تعجبون من أننا إذا أردنا أن نقيم دورة بعنوان العرفان عند الإمام الخميني فإننا نعرّض أنفسنا للخطر، بينما تقيم هذه الجماعات مختلف الدورات التي غلفوا فيها الزيف والخداع بتعاليم أهل البيت بكل سهولة ويسر؟ إلا يوحي ذلك بأن هناك حركة مدروسة لحماية هذا المنهج وتقديم التسهيلات له، بل ربما دفع الأثمان لترويجه؟!! ويا لسذاجة الناس الذين يدفعون لهذه الدورات أعلى الأثمان بسخاء وبلاهه وعدم وعي.. !!
إن نفس هذه الظاهرة التي نلحظها في أوساطنا كانت قد انتشرت وبشكل قوي في زمن الإمام الهادي عليه السلام. وكان وراء الأكمة ما ورائها. ففي زمن الإمام الهادي اختلط المجتمع الإسلامي بالأتراك والديالمة والمغاربة والروميين والأقباط، الذين جاؤوا بثقافاتهم وأنماط عيشهم، فكانت فرصة الطغاة لصناعة ثقافة روحية التقاطية، من خلال فتح الساحة لهم بكل حرية، للتستر بهم في حرب الإسلام الأصيل.
لقد واجه الإمام الهادي هذه الموجة بأسلوبين:
الأول/ كشف زيفهم:
روى الحسين بن أبي الخطاب، قال: كنت مع أبي الحسن الهادي في مسجد النبي (ص)، فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري، وكان بليغا وله منزلة مرموقة عند الإمام (ع). وبينما نحن وقوف إذ دخل جماعة من الصوفية المسجد، فجلسوا في جانب منه، وأخذوا بالتهليل. فالتفت الإمام إلى أصحابه وقال لهم: “لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخداعين، فإنهم حلفاء الشياطين، ومخربو قواعد الدين. يتزهدون لإراحة الأجسام، ويتهجدون لصيد الأنعام، يتجوعون عمرا حتى يديخوا للإيكاف حمرا، لا يهللون إلا لغرور الناس، ولا يقللون الغذاء إلا لملء العساس واختلاف قلب الدفناس، يكلّمون الناس بإملائهم في الحب، ويطرحونهم بإدلائهم في الجب، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنم والتغنية، فلا يتبعهم إلا السفهاء، ولا يعتقد بهم إلا الحمقى، فمن ذهب إلى زيارة أحدهم حيا أو ميتا، فكأنما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان، ومن أعان واحدا منهم فكأنما أعان معاوية ويزيد وأبا سفيان .فقال له رجل من أصحابه: وإن كان معترفا بحقوقكم؟ قال: فنظر إليه شبه المغضب وقال: دع ذا عنك، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا، أما تدري أنهم أخس طوائف الصوفية؟ والصوفية كلهم من مخالفينا، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا، وإن هم إلا نصارى ومجوس هذه الأمة، أولئك الذين يجتهدون في إطفاء نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون” (1)
لاحظوا أن هؤلاء المتصوفة دخلوا المسجد بالتهليل وفي حلقات يذكرون الله، ويؤدون رقصات تحكي نوعاً من الارتياض الروحي، ويتحدثون بأمور روحية يدغدغون بها المشاعر كما يعبّر الإمام عليه السلام (يكلمون الناس بإملائهم في الحب) الحب كلمة تلامس مشاعر الإنسان، تدغدغها وتحرك فيه المعاني الصادقة، ولكن هؤلاء يستخدمون الحب حبالاً يرمون بها الناس في جب الطغاة، هذه مصيدة؛ ولكنها مصيدة روحية. ثم يقول الإمام “ومن أعان واحدا منهم فكأنما أعان معاوية ويزيد وأبا سفيان” ليشير إلى أن خلف هذه المسألة حلفاً سياسياً.
فالإمام هنا يعرّي هؤلاء، ويكشف زيفهم ليحمي الأمة من الانجرار وراء باطلهم المطليّ بالحق، ويعطي الأمة حصانة من تبني هذا الكذب المغلف.
الثاني/ طرح البديل الروحي:
وهو ما يخافه الطغاة، فالموجة الروحية التي تدور مع القرآن ويدور معها القرآن هم الأئمة عليهم السلام. وقد طرح الإمام الهادي عليه السلام العرفان الصادق البديل، لذا فالزيارة الجامعة بكل مضامينها العرفانية صدرت عنه عليه السلام.
لاحظوا علوّ مضامينها، ومطابقتها للفطرة السليمة والعقل النير(السلام عليكم يا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي ومعدن الرحمة وخزان العلم ومنتهى الحلم وأصول الكرم وقادة الأمم وأولياء النعم وعناصر الأبرار ودعائم الأخيار وساسة العباد وأركان البلاد وأبواب الإيمان وأمناء الرحمن وسلالة النبيين وصفوة المرسلين وعترة خيرة رب العالمين). هذا من حيث منهجه العلمي.
أما في منهجه العملي فقد كان ومع قساوة العباسيين؛ يصر على التأكيد على زيارة أمير المؤمنين والحسين بن علي عليهما السلام، وكأنه أراد أن يقول: من أراد أن يشد الرحال طلبا للعرفان الحق فإليهم تشد الرحال، ومنهم ترهب الطغاة، وعندهم تملأ أوعية الحب الصادق. فقد جاء في سيرته عليه السلام أنه في السنة الأولى التي نزل فيها سامراء ذهب منها إلى مرقد جده الإمام علي (عليه السلام) وزاره بهذه الكلمات الرسالية والعقائدية التي تختزل كل معاني الحق والمظلومية والاضطهاد الذي تعرض له الإمام علي: “السلام عليك يا ولي الله، أشهد أنك أول مظلوم وأول من غصب حقه فصبرت واحتسبت … ” إلى آخر الزيارة.
كما أنه عليه السلام كان إذا ألم به المرض يعطي بعض أصحابه أموالا ويبعثه إلى كربلاء ليدعو له بالشفاء عند مرقد الحسين. وقد تعجب الأصحاب من طلب الإمام، فقال محمد بن حمزة: يوجهنا إلى الحائر وهو بمنزلة من في الحائر؟ فأجابه الإمام: “ إن لله مواضع يحب أن يعبد فيها وحائر الحسين (عليه السلام) من تلك المواضع، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل من البيت والحجر وكان يطوف بالبيت والحجر، وإن لله تعالى بقاعا يحب أن يدعى فيه فيستجيب لمن دعاه والحائر منها “.
إن عرفان الإمام يفوق كل عرفان، لأن منطقه مطابق للقرآن، وهذا النهج لا يروق للطغاة، لأن الانتصار في الساحة الروحية يعني الانتصار على جميع الأصعدة. لم يواجههم الإمام بالسلاح ولا بالمال، بل بطهارته الواقعية، وطرحه للرياضات الأخلاقية والسلوكيات التي أسرت قلوب الأمة. لذا لم يتحمل المعتمد العباسي أن يرى هذا الانتصار والتأثير الروحي للإمام عليه السلام، فحبسه في منطقة محاطة بالعساكر في سامراء، لكن الإقامة الجبرية لم تمنع الإمام الهادي (ع) من إيصال تأثيره الروحي للأمة.
وحين عجز المعتمد العباسي عن حرب الإمام مباشرة أو بالواسطة إذ كان الإمام ينتصر في كل تلك الحروب، ويظهر جهل العباسيين وقصورهم وتقصيرهم، عمد إلى دس السم لإمامنا صلوات الله وسلامه عليه، والقتل بالسم وسيلة الجبناء، فرحل إمامنا الهادي في مثل هذا اليوم، الثالث من رجب مسموما، فلعنة الله على الظالمين.
1- روضات الجنات، 3: 134 / سفينة البحار، 2: 58 يديخوا: يذلوا ويقهروا. والايكاف: الايقاع في الاثم، ويقال: وضع الوكاف على الحمار، والوكاف: البرذعة. والدفناس: أي الأغبياء و الحمقى.
مرتبط
0 تعليق