الحديث في تحليل ما نقل عن عقيلة الطالبين صلوات الله وسلامه عليها (اللهم تقبل منا هذا القربان)، هذا الدعاء الخالص المختصر الجزيل العميق في معانيه وفي مؤدّاه وفي دلالاته والصالح لقراءات كثيرة وتعريفات كثيرة. فإن كل الأنبياء والأولياء والصالحين إنما وصلوا إلى ما وصلوا إليه بسعيهم ﴿وأن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾ النجم/ 39، ولا أحسب أن سعيا بلغ إلى مقام كما بلغ السعي الذي قامت به عقيلة الطالبيين زينب بنت أمير المؤمنين (ع).
الإمام الحسين (ع) هو القربان الأعظم!
الوصول لعالي الدرجات هو بمقدار تقوى الإنسان وما يقدّمه من قرابين، فإن ذلك يكشف عن مدى حب الله سبحانه وتعالى والإخلاص له والدفاع عن شرعه ومنهجه. وبلا شك ليس هناك قربان أعظم من قربان يقدمه محمد بن عبد الله (ص)، ليس هناك قربان أعظم من قربان تقدمه الصديقة الزهراء (ع) ويقدمه علي (ع) ويقدّمه الإمام الحسين ابن علي (ع)، ولذلك قالت: اللهم تقبل (منا) ـ منهم جميعا ـ هذا القربان. ولذلك هو سيد الشهداء، سيد القرابين، وسيد الأضحيات في سبيل الله. منذ ولد صلوات الله وسلامه عليه كان مشروع رسول الله (ص) ومشروع الصديقة الطاهرة وأمير المؤمنين (ع). جبرائيل (ع) أخبر النبي (ص) بذلك والنبي أخبر الصديقة الزهراء (ع) بل أخبر الإمام الحسين (ع) نفسه بذلك. ولكن هذا القربان حتى تكتمل سماته كان لا بدّ من أن يمرّ بمراحل عبر التاريخ، أوضاع، أحداث، ملابسات، لا لنقص في الحسين صلوات الله وسلامه عليه، لأنه منذ نعومة أظفاره كان يبكيه رسول الله (ص) وكان يعامله رسول الله (ص) على أنه القربان الذي سوف يقدمه لله، ولكن الشرط الذي يجب أن يتحقّق ـ حتى يعطى هذا القربان ـ هو أن تبلغ الأمة إلى مستوى واستعداد ونضج تفهم وتقرأ رسالة هذا القربان. فما الفائدة في أن يقدّم رسول الله (ص) قربانًا سوف يذهب دمه هدرًا وسوف لا تقرأ الأمة هذا القربان الإلهي وما يتلوه من سائر القرابين؟!
القرآن يقول عن المشركين: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ۚ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ الأنعام/ 140 هم يقدمون قرابينهم أيضا لآلهتهم، ولكن صرف عقيدتهم بأن هذا يقرّبهم من الله زلفى وأن هذا من موارد المدح والثناء لا يجعلها واقعًا كذلك.
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ!
عندما جاء الإسلام وأكّد رسول الله (ص) على مسألة وحدانية الله سبحانه وتعالى وأن الفداء والقربان والعطاء والقرب يجب أن يكون من الله سبحانه وتعالى ماذا قال المشركون؟ ـ وهذا نفس الكلام الذي يردّده الكثيرون الآن لكن ببيان آخر وباحتجاجات ثانية ـ ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ ص/5. كيف نفترض أن الآلهة ـ الآلهة تعني ما يوله إليه وما يُحبّ ـ كيف يكون إلها واحدا في حال أن الأهواء والقناعات مختلفة؟!
إن الفوضى العقائديّة هي بسبب الفوضى في الأهواء والشهوات والرغبات والدوافع.
(أجعل الآلهة إلها واحدا)؟! يعني هل يجب أن نقتنع بقناعة حقيقيّة واحدة في الخارج فقط؟! هذا شئ عجاب! كيف تجمع كلّ هذه الأهواء وهذه القناعات على أمر واحد وعلى حقيقة واحدة؟!
تقديم القرابين لدفع البلاء
قد يكون للقرابين والتضحية والأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان دوافع أخرى غير صرف التقرب من الله سبحانه وتعالى، فإن دواعي تقديم القرابين كثيرة منها دفع البلاء. نحن الآن عندما نريد أن ندفع سوءا عن مريض ـ مثلا ـ نقدم قرابينا في سبيل ذلك، ندفع ذلك بالصدقة أو بالصلاة أو بالتوسل أو بالدعاء أو بزيارة مؤمن أو بزيارة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
إن الأعمال والسيئات التي يقع فيها الفرد لها صدى في هذا الكون ولها آثار سلبية سوف تقع على الإنسان، لذلك نقرب صدقات حتى ندفع البلاء ونقدم أعمالا وحقوقا ومواقف وآراء وقناعات كثيرة حتى ندفع البلاء الذي نتوقع أنه سوف يقع علينا. أضرب لكم مثالا:
كثير من الناس يشكو من الكآبة ومن الضيق مع أنّه يملك كل الإمكانيات. الأمراض، الكآبة، المشاكل الاجتماعية والأسريّة تنتشر أكثر، كلها من السيئات التي تقع على المظلومين في شرق العالم أو في غربه وهذه لها تردّدات وآثار كثيرة، من ذا ينكر ذلك؟ على الأقل من ذا يستطيع أن يقيم الدليل على إنكار ذلك؟!
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ الأنفال/ 25 مضار الظلم والابتعاد عن الله سبحانه وتعالى ومضار تعدّد الآلهة ربّما تقع حتى على الذين لم يظلموا.
السيئة الأعظم تدفع بالقربان الأعظم: محمّد وآله!
لقد حدثت أعظم سيئة منذ لحظات وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، امتحان كبير وقعت فيه الأمة، من قام بهذا الظلم ربما هم أناس معدودون على الأصابع، لكن سكوت الأمة ورضاها أدّى إلى انحراف وهوي سحيق جدا في وادي المعاصي، ثم تتالى هذا الهوي السريع والحادّ العنيف في أودية المعاصي وأودية المخاطر، هذا بلا شك إنتهى إلى نتيجة يكون فيها يزيد ممثّلا لخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! هل هناك سيئة أكبر من هذه السيئة! هل هناك خطيئة أكبر من هذه الخطيئة! كيف تدفع هذه الخطيئة؟ ومن الذي يستطيع أن يدفع هذه الخطيئة؟ من الذي يستطيع أن يدفع مضارّها على عقول ونفوس وقلوب هذه الأمة الإسلامية؟ لا بدّ أنهم محمد وآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وعلاوة على هذه المعاصي هناك ادعاء لخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا التقنع بقناع خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الذي ينزعه عن هذا القبح الذي قبله الناس وبايعه الناس؟ والناس قد رأوا أن هذا ما يقدرون عليه! هكذا الناس كانت تقرأ الواقع. بينما كان الإمام الحسين (ع) يرى ما يترتب على هذا الواقع من آثار تكوينيّة حقيقيّة. ليست المسألة فقط هي اختلال في النظام الاجتماعيّ أو النظام السياسيّ أو التربويّ أو الاقتصادي.
الجهل بالآثار التكوينيّة للقناعات السيئة لا يمحوها
هنا يجب أن نطرح مسألة أصبحت الآن تزرّق و تقرّر بطريقة عجيبة وغريبة، افترضوا أنّ الأمة التي يجري فيها مبايعة أمثال هؤلاء الطغاة ـ كيزيد بن معاوية ـ الذين يدّعون نسبتهم لله ولرسول الله ولدين الله… لو أن الأمة كانت جاهلة ولا تعرف ولا تدرك هذا الضرر، لا تعلم أصلا بأن هناك أحكاما إلهية، ولا تعرف نظرية الحكم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، افترضوا لو أن كل هذه الأمة كانت تجهل هذه الخطيئة والسيئة ـ كما ورد عندنا في الروايات أن السيئة هي ولاية غير علي صلوات الله وسلامه عليه وأولاده، والحسنة هي ولاية علي وأولاده في قوله جل وعلا: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ فصلت/ 34 يعني قدم الولاية لكي تدفع السيئة ـ افترضوا أن قناعات الأمة كانت بأن هذا الحدث وما جرى بعد وفاة رسول الله (ص) مثلا هي مجرد خلافات محدودة بين فردين مثلا. نعم، علي أعلم، علي أقضى، علي أفضل، علي باب علم رسول الله، كل هذه الأمور يعترفون بها ولكن أخذوها بتمييع، ميّعوا هذه الأمور، ثم التفتوا إلى ما يلزمهم به واقعهم الخارجيّ الاجتماعيّ وكانوا يجهلون آثار هذه القناعات السيئة، هل أنّهم سوف يبقون محفوظون عن الآثار التكوينية للخطأ الكبير الذي وقعوا فيه؟!!
هناك من بين من يعتبر نفسه من المحققين ومن المدققين وقع ـ مع الأسف ـ في اشتباه كبير وأراد أن يقيم الأدلة على أن المصلحة والمفسدة في الأحكام الشرعية والمقررات الإلهية لا واقع لها في الخارج، ليس لهذه الخطايا صدى في الخارج، سيّما إذا كان هؤلاء الذين بايعوا يجهلون بترتّب الآثار على هذه المفاسد! أصلا يقول بما نصه: هذه خرافة أن نعتقد بأن وراء هذه الأحكام وهذه التوجيهات والأوامر الإلهية حقيقة واقعيّة متقرّرة في الخارج!
والحال أن هذا الكلام هو في نفسه خرافة وهراء وفي نفسه لا حقيقة له. لأنّه أولا ليس هناك تعارض بين أن يقع الثواب والأجر على ما يعتقده الإنسان وما يقتنع به وفي نفس الوقت تكون هناك ملاكات واقعية للأحكام الشرعية، ما المانع؟ افترض أن قناعة الإنسان مقبولة عند الله سبحانه وتعالى ومرضي عنها، من يقول أنها لا بد أن تكون مفرغة من الفائدة ومن المصلحة الواقعية؟!
معنى أن ترى كلّ شيء جميلا!
المستشكل ينقل عن العرفاء في كلام، وفي كلام آخر ينقل عن علماء الأخلاق، ممّن الأصل لديه هو الانقياد والاستسلام لله وطاعة الله سبحانه وتعالى، وأن ترى كل شيء جميلا في هذا الكون. ـ سوف أوضح هذا المعنى في الجلسة القادمة ـ.
نعم في كلمات بعض العرفاء ما يشي بهذا المعنى، ولكن سوف نرى كيف أنّ كلمات العرفاء دقيقة جدًا، وتشير إلى حقائق أصلا لا يفهمها من يدّعي أنه لا يوجد وراء هذه الأحكام الشرعية ملاكات واقعيّة. العرفاء يرون كل شيء جميلا من عند الله سبحانه، ولا يرون إلا وجه الجمال ـ وسوف نستدل على ذلك إن شاء الله في الجلسات القادمة ـ ، ولكن ليس معنى ذلك أن ما يرونه جميلا في وجوده التكويني يرونه جميلا في التشريع كذلك، والإنسان يمدح ويذم على تصرفاته الاختيارية وليس على جمال وجهه أو أبعاده التكوينية.
هذا المدعي يقول: أن كل فعل يصدر عن قناعة من الإنسان فهذا الفعل مقبول ومرضي عنه، فالمهم هو أن يستسلم لما يقرّه و يقبله عقله ـ مثلا ـ أو ضميره حسب تعبيره. أصبحوا يستخدمون عبارات لاندري ما الذي يقصدونه منها، تارة يقولون الإنسانية معيار، وتارة يقولون الضمير معيار، وتارة يقولون الفطرة معيار… في حين أنّ هذه ليست معايير مستقلة، هذه مقتضيات لا بد أن يدعمها الشرع والدين والغيب.
البعض منهم يقول: إذا رفضنا كلام ودعاوي الطرف الآخر فقد أقصينا نصف الإنسانية عن الاستقامة والعدالة!!
من الذي يقول لكم: أنه من المفروض أن نقبل بأن كل هذه البشرية تسير بشكل سليم؟!! ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ يوسف/ 103 ، ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ يوسف/ 106، ليس هناك ما يلزمنا بأن نقبل جميع العقائد بدعوى أنّ هذا يؤدّي إلى أن نعيش حالة من الإرتقاء والأمن والسلام!! من الذي قال بأن هذا مطلوب؟! نحن نطلب الأمن والسلام لكن ليس بناءً على محو العقائد والمبادئ والأصول، والاتفاق على أنّنا قماشة واحدة وكلنا نمثل لوناً واحداً.
القرآن رسم خريطة دقيقة جداً للحياة الآمنة، لكن بناءً على أن نؤمن بأن هذا حق وهذا باطل.
هكذا قد سمعت كثيراً ممّن يقولون: نحن المتديّنون نعتقد بالصلاة التي تكون بهذه الكيفية وذاك يعتقد أن الصلاة بتلك الكيفية مثلاً، والله سبحانه وتعالى يقبل من كلٍّ صلاته!
هذا المعنى غير صحيح، نحن ندّعي بأن هذه الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وليس عندنا دليل بأنّ تلك الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، هذه الصلاة لم تهدنا إليها فطرتنا ووجداننا فقط، لا، بل إن الله قال: هكذا تتقرّبون إليّ، القربان يكون بهذه الكيفية، هذه الأخلاقيات والسلوكيات لا تكون قربانا إلّا بهذه الكيفية.
إذن هناك واقع حقيقي للسيئات التي تحدث، وله ارتدادات ضروريّة عقلاً، ضرورية لأن الله ليس عابثا ولأن الله حكيم.
عندما نوحّد الله سبحانه وتعالى فالذي يتفرع عن هذا التوحيد هو الاعتقاد بحكمة الله وأنّ الله سبحانه وتعالى ليس لاعبا ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ الأنبياء/ 17. فلو أراد أن يلهو ـ وجلّ عن ذلك ـ فلن يكون بخلق شيء يلهو به لغناه في ذاته.
لأضرب مثالا على هذا المدعى الذي يقول بأن الأحكام الشرعية ليس وراءها ملاكات حقيقية، وأن المعاصي والسيئات ليست قبيحة إلا إذا علم الإنسان بقبحها وهي حسنة إذا لم يعلم الإنسان بقبحها، ـ هذا المطلب مبحوث في الأصول ولكن أضرب مثالا عرفيّا، عفواً لهذا المثال ـ : الإنسان الذي لا يعتقد بأنّ الخمر حرام ويعتقد بأن الخمر بروتوكول وأن شربه ليس فيه مفسدة ولا يؤذي الإنسان، هو لا يرى فيه قبحا، هذا الإنسان إذا شرب الخمر ألا يؤثّرعلى عقله؟!
متى تكون القناعة بالأسباب شركا؟!
إنّ أصحاب الرياضات الروحية تنشأ منهم قدرات نفسية خارقة، يهبهم الله سبحانه ويعطيهم إياها، فهذا العالم عالم المدّ والعطاء “إلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ، وَلا تَمْكُرْ بي في حيلَتِكَ”(١) هذه الدار دار الغرور. فعندما تقضى له حاجة عن طريق غير مشروع حين يتوسل بطريق غير مشروع فهل يعني أنّه طابق المصلحة الواقعيّة؟ أو معنى هذا أنّ الله سبحانه أمدّه؟! الله سبحانه يمدّ لهؤلاء: ﴿كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ الإسراء/ 20 ولذلك القرآن يتكلّم عن مواقف حساسة يوم القيامة، من يتقرب ويتوسل بوسيلة غير مرضيّة لله وبكيفيّة غير مرضيّة لله سبحانه فقد أشرك شركا أكبر، لاحظوا القرآن ماذا يقول: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ البقرة/165-166 في دار الدنيا الأسباب لنزول الفيض كثيرة، هؤلاء المتّبِعون يتوسّلون بأولئك والله سبحانه يرزقهم، الذي يعطيهم هو الله، لا معطي ولا دافع غيره، هو الذي يمدّ هؤلاء وهؤلاء، لا أحد ينصر ويفيض غير الله سبحانه. لكن هؤلاء من ضعفهم وجهلهم وظلمهم يرون أن هؤلاء الجبابرة والطغاة هم السبب في قضاء حوائجهم، وهذا الذي جعل بني أمية يقلبون الناس من شيعة علي إلى شيعة آل أبي سفيان! متى ستنكشف هذه المعادلة؟! ليس بالضرورة أن تنكشف في عالم الدنيا. يقول الله سبحانه ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ أليس التابع يرى أن المتبوع سبب لكي يحصل على المال أو قضاء حاجة له؟! يوم القيامة لن يرى من كان يحسبه سببًا {تقطعت بهم الأسباب}، ماذا سوف يرى؟ سيرى المسبّب الحقيقي، سوف يرى أن الذي يهدي ويرزق ويوفّق ويجعل الحياة صحيحة وسليمة وأمن وأمان واستقرار وسلام هو الله سبحانه، وعندما تزال الوسائط سيتبيّن بأن الفيض هو من الله سبحانه. يوم القيامة سيشعر المشركون بحسرة عندما يرون الطغاة الذين كانوا يتزلّفون إليهم ويخافون منهم أكثر من الله سبحانه، والذين يقدّمون لهم القرابين أكثر من الله سبحانه، يقولون: ﴿تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الشعراء/ 97-98، هذا ليس كلام المشركين فقط، بل يقع آنًا آنًا في كلّ مجتمع يقع فيه ظلم، حيث تصبح مشاعر الإنسان وأحاسيسه ترفع هؤلاء إلى مستوى رب العالمين، ويتصوّر أنّ هؤلاء يقدّمون خدمات ويمنعون خدمات. هذه قناعاته وعمله، إذا قلنا بأنّ الملاك في عمل الإنسان هو قناعاته فهذه القناعات تؤدّي إلى الشرك. معنى الآية دقيق (إذ نسويكم) لم يقولوا (بالله) بل (إذ نسويكم برب العالمين) لأن معنى الربوبية هو أن تقدّم للإنسانيّة والوجود إدارة وتدبيرًا وحكمة وهداية ورزقا، هذا دور ووظيفة ربّ العالمين. عندما تتصور بأنّ أحدهم هو سبب رزقك فأنت بالتدريج ترفعه إلى مستوى رب العالمين، هذا ليس ضلالًا عاديّا، هذا ضلال مبين! هذه أليست قناعة؟! هذه قناعات وقد تحوّلت إلى سلوكيّات.
ولأن رحمة الله سبحانه وسعت كلّ شيء “اللهم أني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء”(٢) فهذا الشرك في التوحيد يحتاج إلى دفع وعلاج، إذ ليس هناك أكبر من هذه السيئة!
نحن لا يجب أن نعتقد بأن الإنسان عندما يؤمن بالله فقد وصل إلى مقام ولن يتراجع. كم من الأمم قد تراجعت؟! أليست هذه الأمة التي نحن فيها قد تراجعت عن إيمانها والقرآن ينصّ على ذلك؟! يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ﴾ محمد/25 من هو الشيطان؟ هو الذي يسوّل للناس ويملي لهم ويتدخّل في قناعاتهم وشيئاً فشيئًا تؤمن به وتنشغل بقناعاته. الشرك مكانه العقل والروح. ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ التوبة/ 28 هل يعني أن بدنهم نجس؟! لا، عقلهم وقناعاتهم وأخلاقهم نجسة، لذلك يصبحون نجسًا وليس نجسين، أي هم عين النجاسة، ذاتهم نجسة. هذا المقدار من الارتداد سوف ينقلب على الأمّة، سيّئة كبيرة جدّا تحتاج إلى دفع. مثلما نحن ندفع البلاء الصغير عن مريض وعن محتاج بالصدقة مثلا، فهذه أكبر سيئة يجب أن يدفع في سبيلها أعظم قربان. ليس أيّ شيء يدفع هذه السيئة، بل لابدّ من دفعها بالذي هو أحسن. لأنّ هذه السيئة لها أثرها التكوينيّ الواسع في البحار والبراري وفي كل مكان. فإذن الأحكام الشرعية لها حقيقة ولها واقع ولها صدى ولها أثار في هذا الكون. وكذلك الشرك والانحراف والضلال. ولقد كرّرت كلمة شرك لأنّ الأمة فعلا وصلت لحالة شرك.
إذا كانت السيئة التي سوف تقع فيها الأمة هي بغض أهل البيت (ع) فيجب أن تدفع بحسنة تفجر المشاعر الدفاقة لمحبة أهل البيت عليهم السلام فقد ورد عن ابن الجارود عن أبي عبد الله الجدلي عن أمير المؤمنين(ع) قال: ” ألا أخبركم بالحسنة التي من جاء بها أمن من الفزع الأكبر يوم القيامة، والسيئة التي من جاء بها كبّ على وجهه في نار جهنم؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين. قال: الحسنة حبنا أهل البيت والسيئة بغضنا أهل البيت…
١. دعاء أبو حمزة الثمالي
0 تعليق