في مثل هذه الليلة يعيش البيت الفاطمي فقد الركن الذي بناه ونمّاه وغذّاه رسول الله وأمير المؤمنين والصديقة الطاهرة (
ع). لا شك أن لسبط رسول الله الأكبر مكانة خاصة، جاء في الصحيح من كتب التحقيق في سيرة الإمام الحسن (
ع) أن رسول الله (ص) قال:
(وأمّا الحسن فإنّه ابني، وولدي، ومنّي، وقرّة عيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وحجّة الله على الأمّة، أمره أمري، وقوله قولي، من تبعه فإنّه منّي، ومن عصاه فليس منّي، وإنّي لمّا نظرت إليه تذكّرت ما يجري عليه من الذلّ بعدي، فلا يزال الأمر به حتى يقتل بالسمّ ظلماً وعدواناً، فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد لموته، ويبكيه كلّ شيء حتى الطير في جوّ السماء، والحيتان في جوف الماء، فمن بكاه لم تعمَ عينه يوم تعمى العيون، ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب، ومن زاره في بقيعه ثبتت قدمه على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام، ثم أجهش رسول الله (ص) بالبكاء وبكى الحاضرون معه) (1)
هذه أحوال رسول الله (ص) والحسن بعدُ معافى صحيحاً في كنفه (ص) وكنف أمير المؤمنين وكنف الزهراء (
ع)، في هذا الحال كان رسول الله (ص) يبكيه؛ فكيف لو أن رسول الله (ص) عاين أحوال الإمام الحسن في مثل هذا اليوم، وعاين شماتة بني أمية، فقد تزين معاوية ولبس أحسن ثيابه حين وصل إليه أن الإمام الحسن قد أثر فيه السم.
نستكمل حديثنا حول قول رسول الله (ص) “الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا“.
قلنا أننا لا يمكن أن نفهم خصائص الإمام الحسن (
ع) إلا بفهم خصائص الدين، لأن الإمام الحسن ترجمان الدين والدين ترجمان الإمام الحسن، فنحن نخاطب الأئمة المعصومين (
ع):
“وَتَراجِمَةً لِوَحْيِهِ” (2) ، ولا نريد من الترجمة الترجمة اللفظية التي هي نقل الألفاظ إلى لغة ثانية، بل نريد الترجمة الوجودية، وفرق بين الترجمة اللفظية والترجمة الوجودية. في الترجمة اللفظية قد يخطئ المترجم ويأتي بلفظ لا يطابق مراد المتحدث، أما في الترجمة الوجودية فهناك تطابق كامل بين المترجم والمراد ترجمته. فإذا أردنا أن نتعرف على خصائص الإمام الحسن يجب أن نضع هذه المقولة التأسيسية، وإلّا فلرسول الله (ص) أقوال كثيرة في حق الإمام الحسن (
ع) ولكن هذه المقولة أسيء الاستفادة منها، ووجهت بتوجيهات أضرت بفهمنا لمقام الإمام الحسن (
ع).
ذكرنا أن الرواية تتكلم عن المقام وليس عن الوظيفة، وهي لا تقسّم الأدوار بين الحسنين(
ع) بل تتكلم عن الإمامة؛ عن شأنها وخصائصها. والقران لا يفترق عن شأن الإمامة أبداً، كما
قال رسول الله (ص): (تركتُ فيكم ما إنْ تمسَّكتم بهما فلن تضلُّوا بعدي أبداً:كتابَ الله، وعترتي أهلَ بيتي). أي تمسكتم بهما معرفياً، ولذلك الله يقول:
﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ﴾ الأعراف: 170، وهو لا يريد الذين يمسكون الكتاب بأيديهم بل من يمسكون بمعاني الكتاب وحقائقه.
(3)
تحدثنا بالأمس عن خصوصيتين من خصوصيات الدين التي تنطبق على الإمامة ، وهما الربانية والاحتواء، وسنتحدث اليوم حول الخصوصية الثالثة وهي :
3-عدم الإكراه :
يقول الله تعالى
: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ البقرة: 256. إذا فهمنا معنى عدم الإكراه في الدين سنرى أن نفس هذه الحقيقة العقلية التي يبيّنها القرآن قد أظهرها الأئمة (
ع) جميعا وهي بارزة في الإمام الحسن بالذات. فكما لا إكراه في الدين لا إكراه في الولاية .
ما معنى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)؟
البعض يستغلّ هذه الآية كذريعة للفرار من كثير من التكاليف الدينية التي لا يريد تحملها، ولكن في الحقيقة هذه الآية لها مبانٍ أساسية.
الدين له وجود تكويني فوق الوجود التشريعي، فالدين بما هو خطاب إلهي ورابطة بين الله والإنسان؛ لا إكراه فيه، لأن الله سبحانه خلق الإنسان حرّا، فمن المحال إجبار الإنسان على شيء لا لأن الجبر هنا قبيح بل لأنه محال تكويناً. يقول الفلاسفة: محال أن يصدر من الإنسان فعل على نحو الإجبار والإكراه، فكل أعمال الإنسان لها محرك من إرادته. نعم، يمكن أن يقوم الإنسان بعمل مضطرا لا مجبرا. مثلا قد يدفع الإنسان الأفسد بالفاسد، كأن يبيع داره وهو محتاج لها من أجل علاج ابنه المريض، هذا البيع ليس بيعا بالإكراه بل للاضطرار. وكثيرا ما يحدث هذا التزاحم بين الأمور، لكن الإنسان يختار أحب الأشياء لديه، فلا يفعل إلا ما يحب، فالإنسان مختار وحرّ دائما، هذه قاعدة لا يمكن تقييدها عقلا.
وكما لا إكراه في الدين كذلك لا أكراه في الولاية، فشأن الإمامة والعصمة أن تحبّب الدين للناس، فلا يتأتى منها أن تقوم بعمل ينفّر الناس ويبعدهم عن الدين. أي يمكن للإمام أن يستخدم صلاحياته بالشكل الذي يؤدي إلى تنفير الناس. ومثال ذلك ما حدث في معركة صفين، إذ وصل الأمير إلى حد النصر، ولم يكن بينه وبين أن يقضي على معاوية سوى سويعات، ولكن جيش الأمير (
ع) قرروا إيقاف الحرب والصلح مع معاوية بعد إن انطلت عليهم حيلة رفع المصاحف، ورفضوا أن يمهلوا الأمير (
ع) ساعة واحدة، فاضطر لذلك. كان بإمكان الأمير(
ع) أن يستعمل صلاحياته كقائد عسكري ويحملهم على التزام القانون، لكنه (
ع) وبعد أن بين لهم كل الظروف واستمروا بالرفض اضطر لقبول التحكيم، وأرسل إلى مالك الأشتر يأمره بالرجوع، فرجع مالك ينفض يديه ويبكي.
لقد اتخذ أمير المؤمنين هذا الموقف من واقع دوره كإمام لا يُكره أحدا على فعل شيء، لأن دخول الجنة شرطه حبّ الإمام، فحتى لو أقام الإمام أحسن دولة، وأكثر الدول عقلائية ومنطقية، لكن أسسها رغما عن الناس، فلا نفع في ذلك، لأن الله تعالى إنما يجازي الناس بأحوالهم القلبية، ماذا يريد الإمام بقلوب غير مسلّمة ولا منقادة للحق؟!
إذا لم تكن الأمة مستعدة لتحمل المسؤولية يجد الإمام نفسه مضطرا للانقياد إلى الناس، ومماشاتهم على جهلهم وضعفهم وضيق أفقهم، ولابد له من الصبر عليهم حتى تتفتح بصيرتهم وتتسع آفاقهم بمحبته (
ع) وكلما اقتربوا من الإمام أحبوه أكثر. هذا المعنى نجده في الشعر المنقول عن الإمام الحسين وهو يودع الإمام الحسن (
ع) :
أَو اَسْتَمْتِ
عُ الدُّنْيَا لِشَيْءٍ أُحِبُّهُ أَلَا كُلُ مَا أَدْنَا إِلَيْكَ حَبِيبٌ.
أي أن كلّ شيء يقرّب إليك محبوب.
وكل عمل صالح تقوم به باقتناع يقربك أكثر من الدين، أما العمل الذي تقوم به مكرها فهذا لا ينمو عند الله سبحانه وتعالى، ﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾ نوح: 17 لا بالماء والهواء بل بالحب بالمعرفة والقرب. ولا يمكن أن يستلذ الإنسان بما أكره عليه حتى لو أعطي أعلى الجنان ووهب من القصور والحور بلا أي طلب ورغبة منه فلا يمكن أن يكون عنده ذلك المكان جنة ، بل جهنم !
ما نريد تأكيده هو أن الإمامة كالدين لا إكراه فيها ، الإمام لا يكره الناس، لأن الحقائق المعنوية تأتي من القلب، فإذا وجد في القلب رغبة أمكن قبول الإمامة، لذا فلابد أن يمتلك الإمام الحلم والصبر والحكمة والاستيعاب وتحمل المسؤولية وأن لا ينفض يده وييأس من الناس، لأن رعايته للناس وهدايتهم هي من أهم مسؤولياته ، بل أصل من أصول علاقته بالله وهي مظهر من مظاهر عبادته. ومن هنا نجد أن القرآن الكريم أوصى رسول الله (ص) باتباع نهج الأنبياء وأن يهتدي بهداهم إلا نبي الله يونس (
ع)
(4). نبي الله يونس هو النبي الوحيد الذي عابه القرآن
﴿وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ القلم: 48 وعبّر عنه بالآبق
﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ ص: 140 والحال أنه لم يفرّ من عبادة الله ولا من تسبيحه ، ولكن القرآن يسميه آبق لأن العلاقة بالناس بالنسبة للأنبياء هي وظيفة، وهي مظهر من مظاهر العبادة كما أسلفنا، وما فعله نبي الله يونس هو أنه سعى في هذه المهمة حتى وصل إلى حالة اليأس، ونفض يده من الناس وتركهم، يقول تعالى:
﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ الأنبياء: 87 ومع أنه كان مغاضبا من أمة طاغية مستبدة جائرة يظلم بعضها بعضا، وكان غضبه نابعا من خوفه عليهم، لكن ما كان ينبغي أن ينفض يديه، كان ينبغي أن يدفعه غضبه إلى الحلم أكثر، وإلى الصبر والمحبة والأبوة.
﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ الصافات: 142 لأن الذي يهرب من مسؤوليته الكبيرة تلجئه الطبيعة إلى ما هو أضيق وأشد. هرب نبي الله يونس من الضيق ومن تعنت الناس، فوقع في بطن حوت حيث يضيق لاالمكان ببدنه بل بنفَسه، حتى أصيب بالمرض وكاد يفقد حياته
﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ﴾الصافات: 145. والقرآن يريد أن يرينا أن الطبيعة تسير نحو هداية الإنسان، فالحوت هنا يؤدي وظيفة ورسالة مفادها أن الذي يهرب من ضيق المسؤولية يقع فيما هو أضيق وأشدّ.
هذا صاحب الحوت الذي لم يأبق عن طاعة الله ولا عن عبوديته لكنه لم يتوفّر على مقدار كاف من الحلم الذي يليق بالأنبياء، ووالذي يقيه من ترك الأولى، الحلم يحبب الإنسان في الله و في الدين، لأن الناس لا يأتون بالقوة بل باختيارهم وإرادتهم ورغبتهم ووعيهم… هذا النبي هو من قال الله لنبيه أن لا يكون مثله .
النبوة والإمامة من شؤونها هداية الناس وتحبيبهم في الدين ليأتوا إليه محبين راغبين، فالإمام في البداية يستخدم البراهين والأدلة، ليس بقصد إغراء أحد، بل لجذب الناس، وليقبلوا عليه باختيارهم، فإذا لم تنفع هذه الوسيلة استخدم آخر سلاح وهو الكرامة. حتى يزيل الحجاب عن ذلك الإنسان ليصدق بوجود الغيب، وما لم يقم النبي والإمام بهذا الدور المنوط به يكون آبقا.
سيد النبيين هو أحلم الخلق، وبهذه الصفة ساد على سائر الأنبياء، والحِلم رأس الفضائل، حتى قيل: كاد الحليم أن يكون نبيا. هذه الصفة النبوية أورثها النبي لسبطه الحسن المجتبى (
ع) فقد ورد عن رسول الله (ص) ما مفاده
” أورثت الحسن حِلمي وسؤددي”، فحِلم الإمام الحسن ليس حِلم إمامة بل حِلم نبوّة، ودوره ورسالته كانا يقتضيان نوعا من الحلم من شأنه أن يصلح شأن الناس ويرفعهم على مرّ التاريخ .
لقد كان النبي حريصا على هداية هذه الأمة ودخولها الجنة، ويعرف أن من شرط دخول الجنة محبة الإمام الحسن (
ع) لذا عمد في أحاديثه الشريفة إلى إعطاء رصيد كبير لمن يحب الإمام الحسن: (
فمن بكاه لم تعمَ عينه يوم تعمى العيون، ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب، ومن زاره في بقيعه ثبتت قدمه على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام)
في مثل هذه الليلة يخبر الإمام الحسن أخاه الحسن (
ع) برحيله فيقول ما مفاده: يا أخي لقد جرعت السم مرات ومرات ولكنني في هذه الأخيرة قذفت كبدي في الطشت. ما الذي يعنيه هذا الإخبار ؟! إنه يعني التيهيئة للمصيبة! ثم يوصيه أن لايريق فيه محجمة من دم، لكي لا يطالب في كربلاء بشيئ …لأن كربلاء لابد أن تبقى ناصعة لا يشوبها دم ولا ثأر .
1- المجلسي بحار الأنوار: ج 44ص 148].
2- [الزيارة الجامعة]
3- التمسك بالثقلين له مراحل، أولهما معرفة المعنى الصحيح، حتى لا نقلل من شأن الإمامة عن شأن القرآن. وقوله لن يفترقا هذا الضامن الذي فرّطت فيه المدرسة الثانية، حين قالت حسبنا كتاب الله. أمّا نحن فلا نقول حسبنا كتاب الله، ولا نقول حسبنا الولاية والإمامة، وإنما نتمسّك بالثقلين معا، لئلا نضلّ بعد رسول الله (ص) في شأن من الشؤون.
4- لا يختلف الرسل في مؤدى الرسالة وإنما في المراتب، ذواتهم وخصائصهم تتفاوت، الرسل ليسوا بمرتبة واحدة{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ{ [البقرة:253].
مرتبط
0 تعليق