بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد وآله الطيبين الطاهرين.
هذه أيام شهر رمضان المبارك قد تصرمت وانتهت، ونحن نودعه، ونسأل الله ﷻ أن يكون وداعنا وداع محبوبٍ ومرغوب فيه، لا ملل فيه ولا سأم، وأن يعيده على المجتمع والأمة بالنصر والظفر والفتح ، مكللًا بظهور الإمام –عجل الله فرجه– وطلعته البهية.
شهر رمضان المبارك وتصحيح المسيرة
في آخر شهر رمضان المبارك والذي يقترن وقراءة القرآن الكريم، نعتمد قراءةً لتصحيح المفاهيم الحياتية على جميع المستويات والأصعدة، فنحن نقرأ القرآن الكريم لنطبب به أنفسنا ونعالج به نقصنا، ومرضنا، حيث أنه –القرآن الكريم– يعلّم الإنسان طريقه؛ منذ مبدئه إلى بلوغه عالم الخلود، والإنسان العاقل وحده هو من يجعل من القرآن الكريم أداة لتخدمه في تنظيم جميع أهدافه التي وضعها أمامه، ووفق الغاية الضرورية التي يريد أن يصل إليها، فهو ينظّم أموره وحياته وأوقاته وعلاقاته وكل شيء حوله وفق ما جاء به الكتاب الكريم.
لا شك أن الحياة ملأى بالتحديات الكثيرة والملهيات وعلى جميع المستويات، والتي تتربص بالإنسان وتريد أن تحرفه عن أهدافه الحقيقية وغايته الكبرى، وتميل به إلى عالم الوهم؛ وهذا الانحراف ليس من المحالات؛ بل كان ولم يزل موضع ابتلاء وهو مقتضى الجزاء؛ فكثير ما يخرج النّاس وينحرفون عن الطريق المستقيم إلى السبل المتفرقة، فيبتلى بما قد يخرجه عن الفطرة والخلقة السويّه لله ﷻ؛ فتميل بأهدافه وآدابه وسلوكياته، وتفكيره، ومراسمه، وعلاقاته، وفهمه لنحو صلاته وصيامه وكل عباداته وكل شؤونه وغاياته؛ ولأنها –في الغالب– تكون الأسهل والأقرب للنفس، والأكثر مرونة وفق منظور الإنسان السطحي.
ولذا نجد أن هناك تأكيد من أهل بيت العصمة والطهارة ﴿؏﴾ على كون هذا الشهر المبارك خير معين على تصحيح المسيرة، والعودة إلى النقطة الصحيحة والأساس.
فلو نلحظ دعاء الإمام زين العابدين ﴿؏﴾ في استقبال شهر رمضان: “أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَإنْ مِلْنَا فِيهِ فَعَدِّلْنا، وَإنْ زِغْنَا فِيهِ فَقَوِّمْنَا، وَإنِ اشْتَمَلَ عَلَيْنَا عَدُوُّكَ الشَّيْطَانُ فَاسْتَنْقِذْنَا مِنْهُ“(١)؛ فالميل من الإنسان، والتعديل من الله ﷻ.
الميل الصادر من الإنسان يكون على ثلاث مستويات:
ميل على مستوى الفرد، وميل على مستوى المجتمع، والميل الأكبر والأشد سوءً، إذا كان على مستوى الأمة.
١– الميل والانحراف الفردي
القرآن الكريم يؤكد بأن الإنسان في أصل خلقته ملهم بحقيقة الاستقامة والاعتدال، يقول اللهﷻ في شأن النفس الإنسانية ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ الشمس : ٨ وكذلك يقول ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ الإنفطار: ٦
وقد يقال هنا بما أن الله ﷻ قد ألهم سائر المخلوقات لما تحتاجه، وهداها هداية تكوينية كي تصل إلى غاياتها، ولكن ما هو متعلق الهداية في نحو الهدايتين؟
بين إلهام الإنسان وغيره:
إن متعلق الهداية الإنسان هو قلبه؛ فالله ﷻ هدى قلب، ونفس، وفكر، وعقل الإنسان، أما الحيوان فالهداية تكون في بدنه وعمله.
وهنا نضرب مثالًا مما ذكره وعبّر عنه القرآن الكريم بخصوص هداية النحل حيث قال ﷻ:﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ﴾ النحل:٦٨؛ فقد ألهمها الله ﷻ في مجال العمل؛ ماذا تأكل؟ وكيف تتحرك، وتأخذ الرحيق؟ وأين تضع العسل؟ ألهمها كل تفاصيل الحفاظ على بدنها وسبل عيشها وبقاءها، وليس في مجال الصفات والشاكلة.
أما الإنسان؛ فالإلهام ليس في بدنه أو عمله فحسب، أو في تحديد منطلق حركته؛ بل الإلهام متعلق بأغزر وأعمق نقطة فيه وهي باطنه وحركته الجوهرية، وعلى ذلك فإن إلهام النحل كان لتنظم به شكلها، وأما بالنسبة للإنسان فقد ألهمه الله ﷻ ما ينظم به شاكلته، وإذا لم يكن الإنسان ملهمًا في باطنه؛ فإن أعماله السيئة سوف تغير من واقعه وحقيقته كونه نفحة ربّانية؛ لذلك نجد أن القرآن الكريم يعبر عن الذنب بأنه حالة فجور وانفجار ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا﴾ وكأن روح الإنسان عليها غطاء شفاف، وإذا جاء الذنب فجر هذا الغطاء وأزاله، وبعثر النفس، وأما مشروع العمل الإلهي ﴿وَتَقْوَاهَا﴾ فإنه يربي قلب وعقل ونفس الإنسان وليس بدنه فحسب؛ لأن النفس دائمًا في حالة فاعلية لا تتوقف، والإنسان مملوء بالطاقة.
يقول الشهيد المطهري: لأن الله ﷻ قال: “ألهمها فجورها، نعرف أن الإنسان فيه طاقة قابلة على التفجير، إما أن تتفجر في طريق التقوى، وإما أن تتفجر في طريق الفجور، وبطريق المعصية“
وهذا التعبير ليس مجازًا؛ فكل إنسان لديه طاقة، ومن الممكن أن تتفجر، والإنسان صاحب المقامات العالية والهمة الرفيعة يلهمه الله ﷻ معرفة باطنه ومكنونه، والمقوّم لماهيته، وشخصيته وشاكلته الأساس.
ولا شك في وجود ارتباط بين الشكل والشاكلة؛ فشكل الأعمال يعتمد على الشاكلة؛ فإذا ما استقامت الشاكلة، فالشكل والحركة والفعل والفاعلية حتمًا ستتغير؛ فالتقوى هي التي تحدد الهوية والشاكلة، فإذا أصبحت شاكلة الإنسان مستقيمة ومستوية؛ ستغدو أعماله كلها على هذا النحو من الاستقامة، فالعمل الحسن تكون له فاعلية حسنة، فيفوز الإنسان بالجنة، ويبلغ بحسن الشاكلة إلى رفيع الدرجات العلى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۞ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ الإنفطار:٦–٧
فما أعظم وأدق هذه الآية وهذه الحجة ﴿بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾؛ فمقتضى الكرم أن لا يدفع الإنسان باتجاه الاغترار والأنانية، وبمقتضى كرمه خلق الإنسان ووهبه الحياة، ثم ﴿فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾؛ فالتسوية والاستواء استقامة، فهذا التعديل وهذه الاستقامة، هي إفاضة وزيادة وجودية في الإنسان، وهذا يعني أن هناك ثلاث مراحل في وجود الإنسان؛ وهي الخلق، والتسوية والتعديل.
يقول ﷻ: ﴿ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ ۞ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ الأعلى: ٢-٣، فقوله ﴿خَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾، فالله ﷻ سوى باطن الإنسان، أيّ أنه رفع عن الإنسان كل أسباب الانحراف، وأعطاه كل ما يحتاجه، ووضع كل شيء في موضعه؛ جوارحه، جوانحه، قلبه، ومشاعره وأحاسيسه، تفكيره، وصوره الذهنية، كلها قد وضعها بنحو من التعادل والتوازن، بحيث يكون وصول الإنسان للهدف سهلًا ويسيرًا﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى﴾ الأعلى:٨
بين إلهام الفجور وإلهام التقوى
يضرب العرفاء مثالًا على الفارق بين إلهام الإنسان الفجور وإلهامه التقوى، بين استقامة واعتدال الإنسان وعدم ميله وانحرافه، وبين هداية الموجودات الأخرى، فيقولون: إن الإنسان مثله مثل المرايا الموجودة في الخارج على اختلاف أنواعها؛ فهناك المرايا المحدبة، أوالمقعرة، وهناك المرايا المستقيمة أو المستوية، وجميعا تعكس الصور بما يتناسب وصفاتها، فهي مصنوعة بطريقة أن ما يعرض فيها يأخذ ذات شاكلتها، لذا فهي تجعل شكل الصورة على شاكلتها؛ فالخلل ليس في الأشكال، إنما الخلل من الشاكلة، وهذه هي فاعليتها، وحدّها الوجودي، ولا يوجد شيء زائد قد أضيف إليها.
فالمرايا المقعرة وفق تكوينها الداخلي وصناعتها، فهي تبعّد الصور، وتعكس الأشياء بنحوغير سويّ.
والمرايا المحدّبة، كذلك فهي تقرّب الصورة بنحو تبدو فيه الأشياء والصور وكأنها معوجة، والصحيح أن المرآة ذاتها صنعت لهذا الغرض، لذا تظهر الصورة معوجة على شاكلتها.
أما المرآة الصافية والسوّية والمستقيمة؛ فهي تعكس الأشياء بنحو صحيح وصاف.
فالله ﷻ خلق الإنسان كالمرآة الصافية والسويّة والتي ليس فيها عوج، فألهمه ذاته في حقيقتها وهويتها، وألهم تلك الذات الاستقامة؛ لذا فإن الأمور لديها سوية وصافية.
وإذا ما أدركنا ذلك؛ تبين لنا علّة تركيز المنهج العرفاني على تعديل صفات وجوهر الإنسان، واستقامته؛ كي لا يصدر منه إلا ما هو سويّ وصافٍ وواضح وبيّن؛ ولذا نجد أن من أهم الشروط للوصول إلى التقوى لدى العرفاء، وعلماء الأخلاق؛ هو الحفاظ على صفاء تلك الصورة الباطنية، فعلى الإنسان أن يتجنب كل ما يشعره أو يؤدي به إلى الاعوجاج؛ فكثير من النّاس –وفق اختياراتهم– أصبحوا كالمرايا المقعرة أو المحدبة بين –إفراط أو تفريط– فأصبح داخلهم أعوج؛ لذلك لا ينعكس منهم إلا ما هو على تلك الشاكلة، الصورة، والكلام، والآراء، وحتى قراءة الواقع.
ميل الباطن والعودة للمركز
وهذا تحدٍّ الإنسان الأساس؛ أن يحافظ على نفسه، بأن لا تميل وتنحرف، فالأصل فيه الاستواء، وهناك أسباب تجعله ينحرف. فإذا ما زاغ الإنسان في باطنه فسيصدر منه صورًا تتناسب مع ذاته ووضعه المنحرف، لذا نجد أن الإنسان الصادق مع الله ﷻ يحاول تصفية باطنه دومًا، ومع أول خطأ أو تقصير أو اشتباه يصدر منه يعود ويؤوب فيستغفر الله ﷻ ويتوب إليه ﷻ؛ لذا فنحن في شهر رمضان المبارك –كونه شهر المغفرة والتوبة والإنابة– نحن نطلب منه ﷻ أن يعدل مرايانا وذواتنا؛ ولذا جاء في الدعاء: “وَإنْ مِلْنَا فِيهِ فَعَدِّلْنا، وَإنْ زِغْنَا فِيهِ فَقَوِّمْنَا؛” كونه يشعر في داخله أن الصور التي يصدرها منحرفة، ويجب أن يعود إلى المركز، إلى الله ﷻ كي لا تصله إلا الصور الصحيحة والمستقيمة والصافية.
الإنسان عمومًا لا يصدر إلا الصور التي تتناسب مع شاكلته، فالإنسان الأناني الغضوب مثلًا –وإن تحدث بصوت منخفض– فإن شاكلته سبعية، وخارجة عن حدود الإنسانية.
ولهذا نجد أن أسماء الأنبياء ﴿؏﴾ دائمًا تحكي ما بدواخلهم، يقول الله ﷻ في كتابه العزيز متحدثًا عن نبيه داوود ﴿؏﴾: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ ص:١٧؛ ف ﴿دَاوُودَ﴾ في الحقيقة يحكي عن شاكلته، وشاكلته أنه صاحب العطايا، فلنبي الله داوود ﴿؏﴾ مقام الداوودية، أيّ أن له أعمال صالحة كثيرة، وكثير الرجوع لله ﷻ ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾، وهو في حالة شكر مستمرة ودائمة ﴿لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ﴾ النمل: ٤٠، وضع كل شيء في موضعه ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ الإسراء:٣، والشكور المبالغة في الشكر، فليس فعله الشكر فحسب؛ بل بلغ حقيقه الشكر، لأن لكل شيء من هذه الموجودات مصير إلى الله ﷻ ﴿أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ﴾ الشورى:٥٣
فالشكر في الحقيقة دليل على استقامة صاحبه، فلا يصدر عنه شيء أو وضعٍ مادي، أو معنوي، أو إجتماعي إلا في مكانه لاستقامته الكاملة؛ والشكر من كامل الاستقامة، أيضًا فيها دلالة على استقامة ماهياتهم، ومراياهم الداخلية، حتى وصلوا إلى تام الاستقامة في كل الأسماء والصفات.
كذلك عندما يتكلم الله ﷻ عن نبيه نوح ﴿؏﴾ يقول: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ الإسراء:3.
كذلك هو رسول الله المصطفى محمد ﷺ حيث أن كل شاكلته، لا تعكس إلا الصور التامة والكاملة والناصعة والجلية؛ في أدبه، ومشيته، واقتصاده، وعلاقاته، كلها صور للعدالة التامة والكاملة.
٢- الميل والانحراف على مستوى المجتمع:
فإذا انحرف الإنسان؛ فجزء منه قد يعدل بالدعاء، والجزء الآخر قد يعدله المجتمع؛ حيث أن المجتمع المعتدل بذاته والمستوي والذي ماهيته سليمة وصحيحة، وليست فاسدة، هو الذي سيصنع حصانة للفرد، فيبقيه معتدلًا.
وإذا ما ما غدا المجتمع غير سويّ؛ فقد الفرد حصانته، كونه –المجتمع– هو أقوى من الفرد وهو من يؤثر فيه، فهو الضاغط والذي سيخرج حينها –الفرد– عن حدّ العدالة والاعتدال. (٢)
وهو حال المجتمع الذي يرى الجبان عزيزًا وحكيمًا ويستطيع أن يدبر أموره، ويرى الشجاعة تهورًا وصاحبها عجولًا، ويرى أن الذكي هو من يستطيع اقتناص فرص النجاح في الأسواق، سواء كانت حلالًا أم حرامًا، طالما الغاية أن يصبح ثريًّا؛ فهذا مجتمع منحرف وغير سويّ، وكاشف عن كبر حجم الميل.
فإذا بات المجتمع يجفو الفقير ويعطي الغني، فهو مجتمع لا تصدر عنه إلا أشكال مائلة، سيوالي أبناءه السفهاء وستديره عقول الأطفال.
ولذا نرى ضرورة إعادة النظر في الأمور التربوية؛ حيث أصبحت حقوق الطفل هي الأصل والأساس والذي يدار عليه ويسير به وضع الأسرة كلها؛ لذلك يغدو هذا المجتمع لا يوقر الكبير، فيميل تمام الميل؛ كون شاكلته مائلة.
يقول أحد العلماء: (الطفل قطعة شهوات، وقطعة من الانحرافات)، فقول الله ﷻ: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا﴾ الشمس8 فالطفل قطعة من الفجور، يريد أيّ شيء، وبلا حدود ولا نهاية، طالما هوصغير فهو ملهم بالفجور، وهذه هي شاكلته، كمثل مرآة محدبة، لا يصدر عنها إلا المحدب، ولذلك فقد أخر ﷻ ﴿وَتَقْوَاهَا﴾ أيّ حتى إذا بلغ مبلغه من الوعي والفهم والإدراك، ووصل إلى مستوى من العقل والتفكير والتدبير، وعرف حدود الأشياء، ونمى لديه الاستعداد لأخذ طاقة وإمكانية التقوى، عند ذلك يكون ملهمًا بالتقوى.
٣- انحراف الأمة
الانحراف على المستوى الثالث والذي هو الأقبح، والأكثر خطرًا وضررًا، هو انحراف الأمة عن حدّ الاعتدال والوسطية، يقول الله ﷻ ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ البقرة ١٤٣؛ أيّ معتدلة، واسطة بين الرسائل السماوية والنبوية وبين الله ﷻ، وبين النّاس.
يقول ﷻ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ﴾ آل عمران: ١١٠؛ فلأنكم أمة وسط لديكم هذا الاقتدار، تأمرون بالمعررف، وتنهون عن المنكر، ولكن حين تميلون عن منطقة الوسط ستغدو الأمة لا تستطيع أن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، والذي هو مقتضى الوسطية؛ فهذه الأمة حينما تترك منطقة الوسط والاعتدال، وتخرج عن الحنفية، وعن موقعيتها ومقامها الذي جعله الله ﷻ ولهذا المنصب وهذا المقام، تصبح أمة تتخطفها الأمم.
فبعد أن كانت الأمة تستورد من الصين وجاراتها المصنوعات والأمور المادية، باتت اليوم تستورد العبادات، والثقافة والفنون الروحية والمعنوية، بل وتستورد العرفان، وكل تلك الطرائق التي لا يعرف لها مبدأ ولا منتهى؛ واأسفاه على مثل هذه الأمة التي عندها كتاب الله ﷻ وسنة رسوله الأكرم ﷺ.
إذ من الطبيعي أن تكون هناك مشتركات بين الأديان، فقد سمي الدين دينًا؛ كونه يهتم بالأمور العرفانية والروحانية والأخلاقية، ومن حيث الظاهر فإن ما يدعونه هو ذلك؛ أما من حيث المضمون فيحتاج إلى تحقيق وتدقيق.
كما أن الإسلام هو المهيمن على كل الديانات، ويحتوي على كل العلوم والمعارف اللازمة لبناء حياة الإنسان وسلامة آخرته، كما ويحتوي على العرفان والأخلاق الكاملة، فليس هناك من داعٍ لأن نستعين بأقوال من لا نعرفه أو ندرك مضمونه وغايته، وما يراد منه، ولسنا بحاجة لعلوم لاتخبر شيء عن آخرة الإنسان، وإن أقل ما نعرفه عن تلك العلوم أنها مبتورة، ومجرد رياضات وسلوكيات، لم ينزل بها القرآن الكريم.
كما إن هذا خلاف مفهوم وحقيقة الأمة الوسط؛ فالأمة الوسط لا تلهث وراء سائر الأمم، لتبحث عن الشعارات الموهومة والمضللة تلتقطها من هنا وهناك، –والتي لا تنتهِ لنتيجة حتى أنها مجرد محاولات لم يُعطَ فيها رأي صحيح وتام– كشعار وحدة الأديان، فتسعى لتسترضي أصحاب تلك الأفكار والشعارات من اليهود والمسيحيين بل وحتى من غير الموحدين كأمثال البوذيين.
فحين تمسي الأمة تستورد دينها وفكرها وثقافتها وعرفانها، وتنادي بشعار الوحدة مع أمثال هؤلاء وتبحث عن المشتركات التي تجمعها معهم؛ فمع كل تلك الامكانات التي قد منحها الله ﷻ، والموقع، والظرف الخاص، والفكر والثقافة، والمبادئ والفلسفة والإلهيات، ثم تترك كل ذلك وتذهب خاضعة ذليلة إلى أعدائها، لتتعلم منهم كيف تدير تلك الأموال والإمكانات، بل كيف ترتب بيتها الداخلي؛ سيكون مصيرها الذّل والهوان وهي أمة فاقدة للهوية في واقعها؛ لأن شاكلتها كأمة شاكلة منحرفة، وشاكلة الفرد فيها والذي يقبل بها منحرف، وكذلك شاكلة المجتمع الذي لم يعمل حصانة للفرد فهو مجتمع منحرف.
رغم تأكيد القرآن الكريم على أن أشدّ أعداء المؤمنين هم اليهود، يقول ﷻ ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ المائدة : ٨٢؛ فهذه الأمة من حيث لا نشعر قد انحرفت انحرافًا تامًا عن الوسيطة وحدّ الاعتدال، ولهذا فنحن بحاجة إلى الإنسان السوي الذي يأخذ استواءه من القرآن الكريم “وَإنْ مِلْنَا فِيهِ فَعَدِّلْنا؛ فإذا مال الإنسان قليلًا، تغيرت فطرته؛ وكي لا يميل فهو بحاجةٍ إلى مرجعية فكرية ودينية وقرآنية، ليبقى كالمرآة الصافية.
نسأل الله ﷻ أن يحفظ قوام هذه الأمة عزيزًا وكريمًا ورفيعًا، ويرزق هذه الأمة، العدالة والاعتدال والاستقامة والوسطية والخيرية، ويهبها القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لتكون خيرًا لكل النّاس .
والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
- الصحيفة السجادية – الإمام زين العابدين – ص ٢١٣
-
وهذه القاعدة المعوجة باتت موجودة في مجتمعنا حتى الإيمانية منها وللأسف؛ فأحيانًا نرى الوالدين يتعاملون مع أبنائهم من منطلق أن الصغير يجب أن يرحم فحسب –دون ما مقابله من توقير الكبير–، بل وأصبح بدل أن لا يولّى – إذ لا ولاية للصغير– أو لا يناقش أو لايؤخذ برأيه، بات اليوم الأطفال والسفهاء لهم ولاية، فأيّ مجتمع سليم هذا؟! كذلك الحال مع المجتمع الذي يصبح فيه الغني أو المشهور مدار الاهتمام؛ ليتم متابعته وأحواله وشؤونه الخاصة وهو يستعرض مقتنياته الفارهة، من سيارات، وملابس، وساعات؛ بل حتى إذا مرض يغدو مرضه استثنائيًّا، وليس كبقية النّاس؛ فلا شك إن هذا المجتمع مريض وغير سويّ.
0 تعليق