بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل ومحمد
تقبل الله صيامكم وقيامكم وتضرعكم، وأسأل الله ﷻ أن لا يجعل هذا الشهر الشريف خاتمة شهر رمضان الذي يمر علينا، كما ونسأل الله ﷻ العود ثم العود ثم العود وأن يطيل أعمارنا لطاعته والتقرب إليه سبحانه.
كما لا يفوتني أن أشكر رياحين الولاية على دعوتهم لإحياء الجمعة الأخيرة لشهر رمضان المبارك، وهذه عادة طيبة وأهمية إحياء مثل هذه الليلة تدل عليها سيرة عقلائية مهمة، والحديث سيكون بعنوان “مشتركات بين القرآن الكريم والصيام في شهر رمضان المبارك”.
بين القرآن الكريم والصيام مشتركات
لا شك أن بين القرآن الكريم والصيام مشتركات عدة؛ في الغايات والأهداف والمبادئ، وإلا لما كان شهر رمضان المبارك هو وعاء القرآن الكريم وظرفه. كما أن العلاقة بينهما حقيقية وواقعية؛ فكما هو معلوم أن قراءة القرآن الكريم هي أفضل الذكر؛ ولذا نرى أن أفضل الأعمال على الإطلاق في شهر رمضان هو قراءة القرآن الكريم، بل شهر وموسم وربيع القرآن، فالحرف واللفظ الإلهي له قيمة.
لكن هناك مسألة واضحة وبديهية وظاهرة وقد لا تحتاج إلى تأمل ويهمنا أن نطرحها وهي: أن بين القرآن الكريم والصيام في شهر رمضان المبارك غاية ونهاية مشتركة؛ فالقرآن الكريم شفاء لما في الصدور(١)، وشهر رمضان كذلك فيه شفاء فكما جاء عند كلا الفريقين “صوموا تصحوا(٢)“، وجاء عن أمير المؤمنين﴿؏﴾ ما يفيد هذا المعنى: “الصيام أحد الصحتين(٣)“، واُستظهر من هذه الرواية أن الصيام باعتباره أحد الصحتين؛ إذ لا نعرف سببًا للصحة والاستقامة والشفاء كالقرآن الكريم، فلربما تكون الصحة بالنسبة للإنسان مركبة من عنصرين: القرآن الكريم والصيام في شهر رمضان، وقد لا يتحقق ذلك الشفاء إلا بالجمع بينهما؛ فهناك أمم قد تصوم ولكن وعائها فارغ حيث لم يتعبأ بالقرآن الكريم، لذا فالنتيجة لا تتحقق (الصحة والشفاء).
القرآن الكريم شفاء للأفراد وشفاء للمجتمعات
لا شك أن القرآن الكريم يؤدي إلى الاستقامة الكاملة والتامة لقوله ﷻ: ﴿إِنّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ الإسراء: ٩، وقد عبرت الآية بلفظ ﴿أَقْوَمُ﴾ على وزن أفعل، أيّ: أنه قد توجد سبل أخرى للهداية غير القرآن الكريم، لكن يبقى القرآن الكريم الوسيلة المثلى التي تحقق الهداية الظاهرية والباطنية، كما أن إطلاقه يدل على الشمول والعموم؛ أيّ: فعلًا وقولًا ظاهرًا وباطنًا.
والقرآن الكريم كما هو شفاء للفرد هو شفاء للأمم والمجتمعات، فكما أن هناك أمراض تصيب الفرد، هناك أمراض تصيب المجتمعات جاء على ذكرها القرآن الكريم؛ تصيب فهم المجتمعات، ثقافتها ووعيها، كما تصيب عملها وتفاعلها مع الرسالة، إفراطها أو تفريطها، ونشاطها الروحي، خمولها وجمودها، وحتى موتها، واستعدادها للقاء الله ﷻ، متى ما تنهار هذه الأمم والمجتمعات، وتصل لحال الانبهار والانسياق للكافرين.
العلاج يتوقف على تشخيص مرض القلب
ولمعرفة العلاج نحن أولاً بحاجة لمعرفة ما هو مرض القلب، القرآن الكريم ذكر أن موت القلب هي حالة متقلبة بين الإيمان والكفر والنفاق والاستقامة، وكما تصيب الفرد كذلك تصيب الأمة؛ فالقلب المريض هو الذي له شيء من الحياة ولكنه محكوم بتجاذبات بين الإيمان والكفر، وقد يصل القلب إلى حالة الموت والكفر الكامل، فلا يبقى له أي نبض للحياة لا من حيث الأقوال ولا الأفعال ولا الأحاسيس ولا المشاعر ولا المدركات فضلًا عن أن يكون متحولًا من حال إلى حال، وهذا ما يستفاد من معنى موت القلب؛ لذا فعندما نقرأ ونكثر من قراءة القرآن الكريم فإن ذلك قد يكون بغرض العلاج، كما وردت روايات كثيرة في ذلك، ومنها ما ورد عن أمير المؤمنين ﴿؏﴾ في صفات المتقين: “أنهم يستثيرون به دواء داءهم”(٤)، وهذا الغرض مما يجعل للقرآن هذه القيمة العالية جدًا.
الخروج عن ولاية الله ﷻ إلى ولاية الكافرين أول الأمراض
أول الأمراض التي تصيب المجتمعات والأمم هي الخروج عن ولاية الله ﷻ وولاية رسوله ﷺ وأولياءه ﴿؏﴾، أيّ الخروج من دائرة الولاية الإلهية إلى ولاية الشياطين وولاية الكفار وولاية أهل الكتاب من اليهود والنصارى كما نص على ذلك القرآن الكريم.
يخاطب الله ﷻ المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۞ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ المائدة : ٥١- ٥٢، فالآيات تشير على اتخاذ اليهود والنصارى أولياء بمعنى الاقتراب منهم في مقابل ولاية الله ﷻ، أيّ أن هناك دائرتين؛ دائرة الإتصال بمن نصبه الله ﷻ قولًا وفعلًا، ودائرة الله ورسوله؛ والاقتراب من الله ﷻ يكون بطبيعة الحال من خلال الاتصال بأوليائه ﷻ الذين عيّنهم بطريق النص الشرعي أو بطريق عام ومطلق، أما الابتعاد عن هؤلاء الأولياء والاقتراب من أعداء الله ﷻ وأعداء أوليائه، واتخاذ اليهود والنصارى أولياء، وليس معنى اتخاذ الولاية هنا مجرد أن يكتب الشخص اسمه معهم ويتواصل معهم بنحو مباشر، فكما هو معلوم أن اليهود والنصارى لديهم برامج مدروسة ومتقنة ودقيقة يسعون من خلالها لتحويل الناس كافة إلى منقادين وأذيال وأتباع.
ولهذا نلاحظ أن الخطاب القرآني جاء بهذا النداء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فالحديث هنا ليس عن مرضى القلوب، وإنما عن المؤمنين الذين في قلوبهم إيمان، وإلا لما جاء الخطاب لهم حيث قال: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ﴾ فالخروج من ولاية الله ﷻ ومشروع الله ﷻ وإدارة وتدبير الله ﷻ وأوليائه ﴿؏﴾ يكون باتخاذ اليهود والنصارى أولياء، ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾؛ حيث أنهم يخططون ويتخاذلون.
وهناك عدة مؤشرات وعلامات تدل على وجود مرض في القلب سنذكر ثلاثة منها.
المؤشر والعلامة الأولى على مرض القلوب
وفي نفس الآيه الشريفة يلفتنا قول الله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ المائدة: ٤١.
فلماذا تخاطب الآيات الرسول بـ ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾؟
فكما يجدر ويفترض أن رسول الله ﷺ لا يريد ولا يتأذى إلا لأجل المؤمنين بحق، فلماذا يتأذى النبي ﷺ ويحزن لمسارعة هؤلاء من الذين في قلوبهم مرض باتجاه اليهود والنصارى بنص الآية الشريفة؟!
كون هؤلاء ليسوا أُناس عاديين لا أثر لهم، وإنما أُناس لهم موقعهم ودورهم المؤثر في الأمة، فعندما يسارعون لولاية الكفر -اليهود والنصارى- فهؤلاء سيرجعون بما يريده هؤلاء من مشاريع ومخططات، ودخول هذه المخططات داخل المجتمع الإسلامي ستفتك به؛ حاله كمن يصاب بالوباء -سلمكم الله وعافى جميع المرضى- كوباء كورونا مثلًا، فهذا المريض بإمكانه أن يعدي الآلاف، كذلك هو الحال في الأمور الروحية، والفكرية والعلمية، والرؤية لله ﷻ، وللكون، وللحياة الدينا، وللآخرة، وحالات خمول الروح والقلب، وضعف الإرادة بل هذه أسوأ الأوبئة التي تفتك بالبدن؛ فبإمكان الشخص الواحد بهذه الأمراض والأوبئة الروحية أن يميت أمة كاملة.
إذن فهذه دلالة ومؤشر على أن هؤلاء في قلوبهم مرض وليسوا منافقين ﴿فَترَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰمَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ المائدة: ٥٢، وعلة المسارعة هو الخوف والجبن؛ فهؤلاء لا يمتلكون الشجاعة لذا فهم يقولون ﴿نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ إذ لا يدركون الغيب، والله ﷻ يخاطبهم: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ﴾، والفتح أمر من عند الله ﷻ، وحينها ستكون النتيجة لهؤلاء المرضى ﴿فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾.
فكما أن هذا مؤشر على مرض القلب، فإن القرآن الكريم الذي هو شفاء بصدد معالجة تلك الأمراض.
وكما أن القرآن الكريم يشفي كل هذه الأمراض فالصوم وشهر رمضان أيضًا كذلك.
اللهم أجعل بالقرآن شفاء لضعفنا، وشفاء لخمولنا، وشفاء لخوفنا.
المؤشر الثاني على مرض القلوب
أما العلامة الثانية والدليل والمؤشر الثاني على وجود مرض -والعياذ بالله- في القلب هو عدم التثبت، وسرعة تصديق الأكاذيب؛ ولبيان ذلك وعلى نحو المقدمة نقول: لا زالت مظلومية اليهود على يد الفراعنة وما حصل لبني إسرائيل حينها تلازمهم وتعيش معهم، فدأب اليهود العيش على ادعاء المظلومية ولو كذبًا؛ فهم دائمًا يتهمون الآخرين ويدّعون بأن هناك من حفر لهم الخنادق والأفران وأحرقهم فيها، وهذا هو ديدنهم.
لكنهم أنفسهم عندما أصبحت في يدهم السلطة والإمكانيات تسلطوا على الناس وظلموا الآخرين.
وما حدث في معركة بني قريظة كشاهد على ذلك؛ فالدعوى التي ادعاها وأشاعها اليهود أن النبي ﷺ وآله قد قتل منهم سبعمائة أو ما يربو على ذلك بعد حرب الأحزاب والتي استعان فيها اليهود بالمشركين وخططوا للحرب بالرغم من كتابتهم للعهود والمواثيق مع رسول الله ﷺ، ولكن اليهود لا عهد لهم ولا أمانة، بل هم شعب يقتات على الفتن(٥).
وهذه القصة يرد عليها أستاذنا الشيخ حسن الجواهري وغيرهم من المحققين ويعللون ذلك بالقول: هذه الروايات دخلت في تاريخنا بسبب مجاورة اليهود، لا لأن اليهود هم من صنع تراثنا الإسلامي، لكنهم كانوا في المدينة مجاورين للمسلمين وهم أهل كتاب؛ لذا فإن البعض كان ينقل من رواياتهم متأثرًا بهم دائمًا؛ وقد اعتاد اليهود على المواجهة دائمًا من خلال الحروب الناعمة؛ لذلك عندما خانوا العهد مع النبي ﷺ واستطاع النبي ﷺ أن يهزم الأحزاب، ادّعى اليهود ما ادعوا وبدأوا بحياكة القصص والأقاويل الباطلة.
ولو أردنا الوقوف على تلك الروايات:
١- أولًا سنجد أن أسانيدها ضعيفة والقرآن الكريم يقول: ﴿فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ الأحزاب: ٢٦.
٢- فهم يدّعون أنه قد جيئ بهم وهم مقيدون في بيت امرأة، حيث كان عددهم ٩٠٠ شخص وقتلوا جميعًا، ولو تساءلنا هنا: ما ذلك البيت الذي يسع ٩٠٠ شخص؟
٣- وعلى رواية أخرى يدّعون بأن المسلمين حفروا لهم خندقًا في سوق المدينة وألقوهم فيه وقتلوهم، ولو تأملنا في تفاصيل تلك الرواية لوجدنا كذب مدعاهم؛ فهل يعقل أن تستوعب سوق المدينة كل ذلك العدد وهي لا تعدو كونها بضع دكاكين قليلة.
الرواية الحقيقة(٦):
في حين أن الرواية الحقيقية تشير بأن المسلمين قتلوا خمسة من اليهود، وهم أولئك الذين صنعوا الفتنة وأجلو البقية عن المدينة، إذ من غير الممكن مجاورة اليهود خصوصًا مع كونهم صنّاع الفتن(٧).
وكونهم -اليهود- أصحاب كتاب يرون أنفسهم المصدر الوحيد للمعارف والإلهيات؛ وهذا السبب بعينه ما دعى بهم للتحرك ضد رسول الله ﷺ، حيث كانوا يتوقعون أنه في حال بعث رسول الله ﷺ وآله، وجاء بدين جديد بإمكانهم أن يهادنوا هذا النبي متوهمين بأن النبي ﷺ وآله سوف يجاملهم؛ بحيث يتفقوا معه على التحريفات والتزييفات ووضع الأباطيل، علاوة على أنهم يفتخرون ويتباهون على الناس بأنهم شعب الله المختار. ولكن وخلافًا لما أرادوا؛ حيث جاء القرآن الكريم -وهو لا يستحي من كلمة الحق- ينتقدهم ويفند مزاعمهم وأكاذيبهم، فكان ذلك بمثابة الزلزلة لكيانهم.
لكن اليهود وعلى المدى الطويل جبناء يخافون من الموت والله ﷻ يقول لهم: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين﴾ الجمعة: ٦، وكما يخافون من الموت يخشون المواجهة ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ الحشر: ١٤، فخوف اليهود يحول دون مواجهتهم لأحد والخوض في قتال معه بشكل مباشر، لذا فقد لجأوا إلى مشركي قريش وأرسلوا إلى أبي سفيان وواعدوه بالنصر، ولأن الأخير يبحث عن هذه الفرصة طلب منهم أن يعلنوا تكذيب النبي ﷺ، وطلب أن يأتي مجموعة من وجهائهم ويشهدوا عند المشركين ويعملوا على إثارة الشائعات، فأشاعوا بأن المشركين أهدى من الذين آمنوا سبيلًا ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ النساء: ٥١، وبالرغم من كون المشركين لم يسمحوا بدخول اليهود لمكة سابقًا، ولكنهم أذنوا لهم في ذلك الظرف ففتحوا لهم المناطق بدعوى إقامة المشاريع، لذا نراهم باتوا ينظمون شؤون كفار مكة وينظمون دواخلهم، ويعدون لإثارة النعرات القومية والشائعات فقد امتاز اليهود بالذكاء والدهاء. وهكذا كانت ولا زالت عادة اليهود في التخطيط للفتن وإثارة المشكلات. فباتوا يدّعون ويبكون ويذهبون وبأننا قُتلنا، وظلمنا، وأخذت أموالنا، وأخرجنا من ديارنا.
ومن المسلمين من الذين في قلوبهم مرض يصدقون تظلمهم وأكاذيبهم، وفيكم سمّاعون لهم ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ التوبة: ٤٧، حيث تتجلى مشكلة عدم التثبت من تلك الأكاذيب لا أنهم يسمعون فحسب، بل ويأخذون بكلامهم؛ وهذه النماذج موجودة دائمًا وعلى مدى التاريخ؛ إذ هناك من يتظلم ويدعي المظلومية، وهناك من يسمع ويصدق دون تثبت؛ فيصدق كل ما يشاع عبر وسائل الإعلام، والتي تأتي في كثير من الأحيان لا على لسان المنافق ولا اليهود؛ بل عبر الوسائط؛ ومن الواضح أن هذه المشكلة تكمن في عدم البحث عن الحق وقد جاء القرآن بالحق ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ الإسراء: ١٠٥ ليعالج ذلك الداء الذي يبتلى به من في قلبه مرض.
المؤشر والعلامة الثالثة لمرض القلوب
العلامة الثالثة لمرضى القلوب والتي ذكرها القرآن الكريم هي عدم الثقة بوعود الله ﷻ، ورسوله ﷺ في حرب الأحزاب وهو يحفر الخندق بالمنجل وبالمسحاة ضرب صخرة وبذل جهدًا عظيمًا في تلك الواقعة وهو يحفر صلوات الله وسلامه عليه؛ حينها برقت له بارقة فقال ما مفاده: “هكذا أرى أنكم تفتحون عروش كسرى وقيصر والروم والفرس، وقد أخبر المؤمنين بأن الله ﷻ سوف يفتح على أيديهم”(٨).
فالله ﷻ يتحدث عن هؤلاء الذين قد سمعوا رسول الله ﷺ، وهو ﷺ يذكرهم بنعم الله ﷻ عليهم، وأن الله ﷻ سيجعل الفتح على أيديهم؛ لكنهم عندما رأوا الأحزاب مقبلين وقد جاءت جموع مشركي مكة واليهود وقد حاصروا المدينة 10,000 فارس، فإن أولئك الذين لم يثقوا بوعود الله ﷻ ووعود رسوله ﷺ؛ بدأت آثار ذلك المرض الذي في قلوبهم تخرج على ألسنتهم؛ يقول الله ﷻ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً ۞ إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ الأحزاب: ٩-١٠ وفي الآيات في سورة الأحزاب (٩) نلاحظ عدة نكات :
- ﴿إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ الأحزاب:١٠
الآيات تشير عندما اشتدت الأزمات والابتلاءات أخذ أولئك يتسائلون: هل الله ﷻ موجود، وهل رسول اللهﷺ صادق، وهل هذا هو رسول الله ﷺ، ولماذا نحن المهاجرون أخرجنا من ديارنا؟ ولماذا خرجنا مع رسول الله ﷺ وهاجرنا إلى المدينة؟ والأنصار أيضًا كذلك؛ وهؤلاء تجدهم موجودون دائمًا ممن يظنون بالله ﷻ الظنون.
- ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ الأحزاب:١٢/١١
وعندما عطف في الآية الشريفة وقال ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ علمنا أن هناك تغاير -حيث أن الواو تفيد المغايرة- بين المنافقين والذين في قلوبهم مرض.
- وفي الساعات والأوقات التي يجدر فيها أن يتثبت الإنسان وأن لا يتزلزل ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾، فعندما يقع البلاء على الجميع يحدث الفرز؛ ففرز الذين في قلوبهم مرض حيث قالوا: ﴿مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾.
- ﴿وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً﴾ الأحزاب:١٣
ولو نلاحظ النداء هنا ﴿يا أهل يثرب﴾، فلماذا لم يكن يا أهل المدينة؟! حيث أن يثرب هو اسم المدينة المنورة أيام الجاهلية .
فهذا يفيد إرادة أولئك المرضى في العودة للجاهلية؛ فيجدوا لهم مقبولية ورضىً من اليهود والنصارى ومن المشركين أعداء الدين بتغيير الاسم لما كان عليه.
- يقول ﷻ: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا﴾ الأحزاب:١٤
ولو أنهم استطاعوا إدخال اليهود والمشركين للمدينة لأدخلوهم، فهؤلاء لن يمكثوا في المدينة وسيرجعون إلى مكة مرة أخرى، وينقلبون على رسول الله ﷺ ويعودوا لما كانوا عليه من الشرك، ﴿وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا﴾؛ لذلك لا يستغرب انقلابهم بعد وفاة رسول لله ﷺ وفي قلوبهم هذا المرض.
- يقول ﷻ: ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ الأحزاب:٢١
ولو أننا أعتدنا تكرار هذه الآية كثيرًا؛ قد نستغرب مجيئها ضمن هذا السياق فالحديث هنا ليس مداره الأخلاق لتأتي هذه الآية الشريفة في الحث على التأسي برسول الله ﷺ، لكن فمن اللطيف واللافت أن هذه الآية الشريفة وبالرغم من كونها جاءت مطلقة ويمكن استخدامها في كل مورد؛ إلا أنها جاءت في مورد الجهاد والمواجهة؛ حيث كان يخوض رسول الله ﷺ حربًا مع اليهود والمشركين وكان يبذل الجهد، حتى ورد عندنا في الروايات والتي يرويها كلا الفريقان: أنه ﷺ لشدة جده واجتهاده في حفر الخندق كان يضرب بالمسحاة و يضرب بكل شيء في يده حتى أن الغبار والتراب غطى بدنه ﷺ، وكان ينام من شدة التعب على التراب وعلى الغبار صلوات الله وسلامه عليه؛ ففي ذلك إشارة إلى أن هذا الجهد الذي يبذله رسول الله ﷺ من أجل الرسالة ومن أجل الخلاص من فتن اليهود والمشركين حيث لكم فيه وفي عمله ﴿أُسْوَةٌ حسنة﴾، وهنا ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ﴾؛ أي فعل رسول الله ﷺ والجهد الذي يبذله ﷺ للخلاص من اليهود والمشركين لحماية موقع الرسالة لكم به ﴿أُسْوَةٌ حسنة﴾ ولذلك لمن ﴿كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾.
أحوال المتعافين وسليمي القلوب:
نلاحظ أن الآيات الشريفة هنا تحدد من هم المتعافين وسليمي القلوب ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً﴾ الأحزاب: ٢.
ففي مقابل قول المشركين المنافقين ومرضى القلوب الذين قالوا: ﴿مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾، قال المؤمنون: ﴿هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ﴾.
شهر رمضان والقرآن الكريم مشتركات علاجية
وخلاصة القول أن القرآن الكريم وشهر رمضان يشتركان في هذه القدرة القوية على معالجة الضعف والوهن والأمراض، ولذلك نجد أن شهر رمضان هو شهر القرآن والذي يعالج هذه الأمراض الأساسية، والعميقة وهذه الابتلاءات التي كما أصيب بها هؤلاء المسلمون الذين عاشوا مع رسول الله ﷺ وقريبي عهد من رسول الله ﷺ ممن رأى رسول الله ﷺ، وسمع منطقه واقتداره؛ فأولئك الذين رأوه أولى أن يتأثروا برسول الله ﷺ فكيف بنا نحن ممن آمن برسول الله ﷺ ونحن لم نتشرف برؤيته ﷺ رؤى العين.
أسأل الله ﷻ أن يعيننا على أنفسنا، وأن يعين هذه الأمة على نفسها وعلى عدوها، وآخر دعوانا “اللهُمَّ إنَّا نَشكو إلَيكَ فَقدَ نبينّا صَلَواتُكَ عَلَيهِ وَآلِهِ وَغَيبَةَ وَليِّنا وَكَثرَةَ عَدوِّنا وَقِلَّةَ عَدَدِنا وَشِدَّةَ الفِتَنِ بِنا وَتَظاهُرَ الزَّمانِ عَلَينا”، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
- إشارة لقوله ﷻ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ يونس: ٥٧
- ميزان الحكمة – ج٢ – ص١٦٨٦.
- ميزان الحكمة – ج٢ – ص١٦٨٦.
- أَمَّا اَللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ اَلْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَ تَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَ ظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ… [شرح نهج البلاغة خطبة الإمام في وصف المتقين الخطبة ١٨٦]
- حيث ذهب اليهود للمشركين وقالوا لهم نحن نأتي محمد ﷺ من الداخل وأنتم تأتونه من الخارج، فنقضي بذلك على الإسلام وعلى رسول الله ﷺ، ولكن النبي الأكرم ﷺ الملهم من الله ﷻ، والذي كل شؤونه تحكي الوحي قد استعد لذلك ولم يمهلهم لتحقيق أمانيهم بالهجوم على المدينة، فحفر هو ومن معه من المؤمنين خندقًا حول المدينة فكانت حرب الأحزاب، وهزم فيها اليهود والمشركين بشجاعة وإرادة وقوة وبصيرة أمير المؤمنين ﴿؏﴾، وبعد انتهاء الحرب بدأت المعركة بين يهود بني قريظة والذين كانوا يسكنون خيبر؛ فادعوا أنهم بعد هذه المواجهة مع رسول الله ﷺ أمّر فيهم سعد بن معاذ، لأنه كان منهم وأسلم ولكن اليهود رضوا به، وأمر أن لا يصلي أحد من المسلمين في المدينة إلا أن يصلي في أرض بني قريظة؛ وحسب رواياتهم أمر سعد بقتل الغلمان والمقاتلين منهم، ثم سبى نسائهم، وبذلك استدلوا على أن الإسلام إنما انتشر بإعمال السيف لا بإقناع الناس بالدين.
- ولو أردنا الوقوف على تلك الروايات للاستزادة، مراجعة كتاب “الصحيح من سيرة النبي الأعظم ﷺ وآله” للسيد جعفر مرتضى العاملي – ج ٨
- لقد جاء بنو قريظة من فلسطين فرارًا من الاضطهاد الذي أحاط وغدوا حكام يثرب، ثم جاء الأوس والخزرج من اليمن وتغلبوا على اليهود وحكموا -حسبما كان المنطق الاجتماعي الساري في تلك الشعوب بحيث يكون الحكم لمن ظفر بالغلبة- فبعد أن تغلب الأوس والخزرج حاصروا اليهود في فدك كونهم أصحاب كتاب. ولو أردنا الوقوف على تلك الروايات للاستزادة، مراجعة كتاب “الصحيح من سيرة النبي الأعظم ﷺ وآله” للسيد جعفر مرتضى العاملي – ج ٨
- لهذا ينبغي علينا في كل عمل وكل طاعة نريد القيام بها أن نثق بوعود الله ﷻ ونحسن الظن كما هو وارد عندنا في الدعاء ظن أن حاجتك بالباب، وهذا لا يكون للدعاء فحسب، بل كل عمل وطاعة يقوم به الإنسان يجب عليه أن يثق بما أعد الله ﷻ للمؤمنين في الدنيا والآخرة؛ ما أعده لهم من عطايا أن الحسنة بعشر أمثالها أن الله ﷻ لا يضيع إيمانكم ، إن الله ﷻ يجازينا على ما نقوم به من نية حسنة ومن عمل حسن وعقيدة حسنة، وعندما نفقد الثقة بوعود الله ﷻ سوف نخسر كل المعارك (المعركة مع أنفسنا والمعركة في الخارج.
- نلاحظ أن الآيات القرآنية هنا تتحدث عن أولئك الذين كانوا مع رسول الله ﷺ وكانوا من صحابته وتنقل قصتهم.
0 تعليق