بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
توطئة
ورد عن العلماء الأجلاء أن أفضل الأعمال في ليلة القدر هو طلب العلم، وأول من نقل هذا المعنى الشيخ الصدوق(١) في كتابه الأمالي، والذي عاش في القرن الرابع الهجري إذ يعدّ قريب عهد لعصر الإمام المهدي (عج). وتبعه سائر العلماء على ذلك، فهذه المقولة وإن كانت لم تصلنا عن معصوم وليس بيدنا نص الرواية؛ لكنها مستفادة من كثير من الآيات القرآنية والروايات الشريفة؛ ولا بدّ أنهم قد اعتمدوا على النصوص الدينية والتي تظافرت على هذا المعنى كون أفضل الأعمال هو طلب العلم وهو مما يؤكده الدليل العقلي وسوف نشير لكلا الدليلين العقلي والنقلي لبيان ذلك.
أولا الدليل النقلي (الآيات والروايات في فضيلة طلب العلم):
-
الآيات القرآنية:
قول الله ﷻ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ الزمر: ٩
وقول الله ﷻ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ الزمر: 28، و﴿إِنَّمَا﴾: دليل الحصر في أفضلية طلب للعلم، وبالتالي في فضل العلماء على غيرهم من الناس.
-
الروايات الشريفة:
استفاد الشيخ الصدوق من الروايات المتظافرة كما أشرنا وهي كثيرة حول أهمية وفضيلة طلب العلم في الإسلام.
وأكثر هذه الروايات صادرة عن رسول الله ﷺ، ومضمون هذه الروايات متطابق مع الأدلة العقلية بشكل كامل وهي على نحوين:
روايات تجلُّ طلب العلم وطالبه:
- في الرواية عن النبي ﷺ: “أن طلب العلم أفضل عند الله ﷻ من الصلاة والصيام والحج والجهاد في سبيل الله“(٢) مع اعتبار أن تلك الأعمال يأتي بها الإنسان – من الصلاة والصيام..- تكون خالصة لله ﷻ وفي سبيله مع حسن النية وكمال العمل وصلاحه، وبرغم ذلك يبقى طلب العلم هو الأفضل، والإطلاق في الرواية يفيد أن طلبه غير مقيد بزمان ومكان وهو أفضل الأعمال من بين سائر القُربات التي يتقرب بها الإنسان لله ﷻ.
- عن رسول الله ﷺ: “طلب العلم ساعة خير من قيام ليلة، وطلب العلم يومًا خير من صيام ثلاثة أشهر“(٣)، وعند الجمع بين هذه الرواية والآية الشريفة ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ القدر: ٣، ننتهي إلى نتيجة أن يصبح طلب العلم في هذه الليلة وكأنه طلب العلم في العمر كله؛ باعتبار أن ليلة القدر يطوى فيها عمل الإنسان ويصبح قيمته خير من عمل ألف شهر أي ما يعادل حوالي عمل ٨٠ سنة من عمر الإنسان(٤).
روايات تقرن بين العلم والأعمال الصالحة:
هذا النوع من الروايات في طلب العلم لله ﷻ والعمل به أيضًا هي كثيرة.
- روي عنه ﷺ: “من تعلم بابًا من العلم عمل به أو لم يعمل به كان أفضل من يصلي ألف ركعة تطوعًا ”(٥).
- وروي عنه ﷺ قال لأبي ذر: “يا أبا ذر لا تغدو إلا عالمًا أو متعلمًا، لإن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولإن تغدو فتعلم بابًا من العلم عمل به أولم يعمل خير من أن تصلي ألف ركعة”(٦).
وهنا لا بدّ أن نتعرف على ما هية العلم الذي لا يضرّ معه أن تعمل به أو لم تعمل، أو أن من عمل به كان ذلك أفضل من أن يصلي ألف ركعة تطوعًا، بالتالي سوف يقودنا ذلك للانتقال للكلام عن النقطة الثانية حول الدليل العقلي.
ثانيًا الدليل العقلي:
لو تسائلنا ما الدليل العقلي على أن طلب العلم هو أفضل الأعمال وقبل أن نشخص ما هية العلم الذي من المفترض أن نطلبه في مثل هذه الليالي المباركة، نستعرض بعضًا من النقاط، سنسلط الضوء فيها على:
- الفرق بين العلم والعمل وعلاقتهما بكمالات الإنسان الذاتية والعرضية.
- قيمة العلم والسرّ الذي يجعل طلبه أفضل الأعمال.
- العلم يصلح ذات الإنسان.
- وما هو العلم الذي يطلبه الإنسان فيكون قد حصل على أفضل ما يمكن أن يحصل عليه في ليلة القدر؟
الفرق بين العلم والعمل وعلاقتهما بكمالات الإنسان الذاتية والعرضية
وذلك أن الإنسان له كمالات عرضية وكمالات ذاتية:
-
كمالاته العرضية:
هي كماله في خلقه وعمله؛ فالعمل في الحقيقة كالصلاة، الصيام ومختلف الطاعات والعبادات والقُربات والأدعية كلها في الحقيقة أثر من آثار الإنسان أيّ فعل الإنسان؛ فالفاعل والصادر والمؤسس لهذا الفعل هو الإنسان، فإذا قلنا إن الصلاة والطاعات والعبادات في الحقيقة لا تعدو إلا أن تكون أعمالًا وآثارًا وتجليات بالنسبة للإنسان، فعندما يصبح عمل الإنسان صالحًا فإن الله ﷻ في ليلة القدر بالخصوص يغفر له -بما أتى به من عمل صالح كالصلاة والصيام والطاعات -سيئاته؛ وذلك لأن الحسنات يذهبن السيئات كما ورد في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ هود: ١١٤ وليس ذلك على الله ﷻ بعزيز، فهذا الآثر الذي ترتب على ذلك العمل السيء يمحوه الله ﷻ في حال قيام الإنسان بعمل صالح؛ كالدعاء والتوسل بأهل البيت ﴿؏﴾.
بل لو كانت هذه الأعمال الصالحة وتلك العبادات منبعثة من أعمق نقطة من شعور الإنسان وإحساسه بالتقصير وعبوديته الخالصة لله ﷻ؛ كمن أستغفر عن سوء عمله وما اقترف من ذنب وقبل الله ﷻ توبته؛ فإن الله ﷻ لا يقوم بمحو سيئاته فحسب، بل سيبدلها فتنقلب إلى حسنات، يقول ﷻ: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ الفرقان:٧٠.
وإذا ما وقفنا على هذا التغيير؛ فإن تغير سيئات الإنسان إلى حسنات هو تغيير في العوارض؛ فعمل الإنسان هو ليس الإنسان نفسه، عمله هو أثر من آثاره، فهو ليس إلا رشحات نور أو ظلمات تصدر عن ذات الإنسان. فإذا كان العمل صالحًا صدر عنه النور، وإذا كان العمل غير صالح صدر عنه الظلمة.
إشكال وارد:
والسؤال الذي قد يتبادر للذهن؛ ماذا لو كان لدينا شخصان أحدهما لديه رصيد جيد من الحسنات، والآخر رصيده يفوق رصيد قرينه ولكنها بخلافه كلها سيئات.
فلو عاد ذاك المذنب وتاب لله ﷻ وأناب؛ فوفق تلك المعادلة السابقة ستتبدل كل تلك السيئات وتنقلب كل سيئة منها إلى حسنة! وعليه سيصبح رصيده من الحسنات بمقدار ما كان نصيبه سابقًا من السيئات؛ وعلى هذا النحو سيتفوق على قرينه ممن كان لديه رصيد جيد من الحسنات!
وبهذا سيكون من عمل مائة سيئة عندما يتوب ستنقلب وستصبح له مائة حسنة، ومن عمل ألف سيئة سيصبح له مقابلها ألف حسنة أيضًا لا ينقص منها شيئًا. فكلما كانت سيئات الإنسان أكثر، كثرت حسناته بعد التوبة والإنابة والمغفرة وهذا إشكال وارد.
الرد على الإشكال:
١- يقولون في الرد على هذا الإشكال: وفيه نكتة دقيقة؛ بإن الإنسان كلما أنغمس في المعاصي وتراكمت عليه السيئات وأصبحت أكثر؛ كلما كانت عودته أصعب وأشدّ، أولاً: كونه أصبح آيسًا من روح الله ﷻ، ولذا فيلزمه مجاهدة أكبر حتى يرجع ويعود وينيب ويبني صحيفة أعماله من الصفر.
٢- ثانيًا: يأسه من إصلاح نفسه بالعودة والإنابة، فنفس الإنسان وما بداخله قد تحطم ويلزمه الرجوع لبنائها من جديد وهذه مسألة أخرى، فقد يستطيع إصلاح ما اقترفه من سيئة في حق عشرة؛ عشرين، وقد يصلح ما فسد من علاقته معهم؛ فهل سيستطيع أن يرجع حقوق ألف، أو ألفين من الناس فضلًا عن حقوق الله ﷻ؟ وهذا ما يجعل توبته أصعب؛ فحاله تمنعه وتحول دونه؛ وتقول له ماذا بعد أن سودت وجهك وصحيفة أعمالك؟! كيف ستجعله يقْبل نفسيًا ليدرك معنى وحقيقة كرم الله ﷻ؟!
ولذا هم يقولون: كلما كان دافع الإنسان نحو التوبة -بسبب كثرة معاصيه- أشدّ وأقوى؛ كان هذا الانبعاث بذاته أشدّ قوة واحتاج إلى عزم روحيّ وإرادة متناسبة كي تمحى كل تلك السيئات، فبمقدار تلك الطاقة الروحية التي يصرفها، والإرادة القوية والعزم الشديد الذي يبذله والمجاهدات التي يقوم بها، وبهذا المقدار من القوّة الذي يتحرك وينبعث به؛ يحسب له الله ﷻ هذه القدرة والجهد الروحي؛ فتتبدل كل سيئة من سيئاته إلى حسنات. فالإنسان العائد التائب يقفز قفزات روحية صعبة وعالية جدًا.
والله تبارك وتعالى ينظر إلى تلك الحالة -والتي تعدّ حالة استثنائية- على نحو العلاج، ولذلك فحين يرجع العبد الآبق من الصفر إلى الله ﷻ، فإن هذه القفزة الروحية العالية هي التي تجعله مؤهلاً لهذا الكرم الإلهي.
فلو أن الإنسان أدرك معنى وحقيقة كرم الله ﷻ، وأدرك أن الله جلّ شأنه كبير، بل أكبر من كل ذنوبه وخطاياه و سيئاته، وأكبر من طمعه ورجائه، أكبر من كل شيء، فإن إدراك هذا المعنى كفيل بأن يجعل كل سيئاته تنقلب إلى حسنات ولو بلغت ما بلغت.
وهذا بحث يطول في إرادة الله ﷻ في حل مشاكل الإنسان مهما كانت ومهما بلغت، مشاكلنا في العمل، أو مشاكلنا في تقصيرنا في معرفة الله ﷻ، والقرآن الكريم طرح عدة أساليب لحل تلك المسائل وعلاجها، بل كل الأنبياء ﴿؏﴾ جاءوا لحل مشاكل الإنسان مع الله ﷻ، بل أرسلهم الله ﷻ من أجل ذلك؛ كي نفهم وندرك معنى ربوبية الله الحقة.
وهو ﷻ من يبتدأنا لحل مشاكلنا، فعندما نقرأ في هذه الليالي المبارك دعاء الجوشن والذي يفيض بأسماء الله ﷻ وصفاته ثم نقول: “سُبحانَكَ يا لا إلهَ إلاّ أنتَ، الغَوثَ الغَوثَ، صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ خَلِّصنا مِنَ النّارِ يا رَبِّ، يا ذا الجَلالِ وَالإكرامِ، يا أرحَمَ الرَّاحِمينَ”، نقرأه وينكشف لنا ألف صورة وصورة عن الله ﷻ، نقرأ كلماته ونعرف، ونتعلم، كي نصل إلى النقطة التي نستطيع عندها أن نزيل كل العقبات التي بيننا وبين الله ﷻ. والأدلة القرآنية في ذلك جلية؛ فعندما تتكلم عن العصاة تقول ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ أي تنقلب إلى حسنات.
في مقابل ذلك وبخلاف الإنسان الذي يعيش في بيئة متدينة يتجنب فيها بالعموم من ارتكاب السيئات؛ فهذا ليس لديه حوائل شديدة أو موانع تصده عن العودة إلى الله ﷻبالتوبة؛ لذا فهو لا يبذل كل تلك الطاقة والجهد الروحي لمحدودية حجم الأخطاء التي يرتكبها.
-
كمالات الإنسان الذاتية:
الصادر هو العمل، والمصدر هي ذات الإنسان؛ وحقيقة العلم يتحد فيه المعلوم مع العالم فيصبح العلم والإنسان -ذاته- شيء واحد، لذا امتياز العلم عن العمل أنه لا يغير الصادر فقط، فالعلم لا يغير آثار الإنسان؛ بل يغير ذات الإنسان ويجوهر حقيقته.
والمؤثر أشرف من الأثر، فالعمل والسيئات هما أثر، والأشرف منهما هو الفاعل المؤثر، وكما ورد في الرواية “فاعل الخير خير منه”(٧)، وهذا الامتياز للعلم -والذي لا يوجد في الصلاة أو الدعاء- ففرق كبير بين إصلاح الذات وإصلاح العمل؛ فكل الآيات والروايات الشريفة عندما تتحدث عن التوبة مثلاً أو تتحدث عن الصلاة هي تتحدث عن الحسنات مقابل الآثام والسيئات، بينما عندما يكون الحديث عن العلم؛ فهو حديث عن العالم والذوات والحقيقة والمؤثر، لذا نلاحظ أن الآيات الكريمة والتي تتحدث عن العفو تتحدث عن الذوات، والذي لا يحدث إلا بانقلاب هذه الذوات من جاهلة إلى عالمة.
في الفلسفة يتسائلون ما الارتباط بين العالِم والمعلومة التي يحصل عليها؟
هناك وحدة حقيقية بين العالِم والمعلوم، ولنحدد أولاً ما هو المعلوم، ويضربون لذلك مثالًا: ولنفترض أنك علمت أن هذا الذي أمامك أو بين يديك قلمًا، فالقلم الذي أمامك ليس هو ما انطبع في نفسك، فالذي انطبع في نفسك وتلون به ذهنك يسمونه المعلوم الأول، أما الذي انطبع في ذهنك وأصبح جزء منك فهو شيء آخر.
فعندما نعلم بوجود حقيقة ما في الخارج؛ فما هو في الخارج لا يتحد معنا، ولن يأتي إلى أذهاننا، الذي يأتي للذهن هي مجرد الصور والتي بعد أن تقطعها تحدث نوعًا من الهيجان، فالعلم يحدث ثورة في الداخل وكما ينقل في الأثر”الميدان قلبك وعقلك والثائر هو مشاعرك وأحاسيسك”، أي إدراكاتك.
فالإنسان هو فكره، وليس فكره مجرد جعبة يضع فيها صور وقيم ومفاهيم محددة، وكما جاء في الأثر: “فكر الإنسان أمه و أبوه”(٨).
فما هي قيمة العلم مقابل العمل؟
يقول الفلاسفة: عندما يعلم الإنسان بحقيقة ما؛ فالعلم بهذه الحقيقة هو حضور نور الحقيقة، وحقيقة الإدراك هو حضور.
قيمة العلم الحقيقية كونه يغير الذات ويرفعها؛ بينما قيمة العمل مجرد إضافةٍ وزيادة في رصيد الإنسان من الحسنات وأعمال البر، فنور هذه الأعمال أضعف من ذات الإنسان، بل نورها في الحقيقة تجلٍ وتابع من نور الإنسان في ليلة القدر.
السرّ الذي يجعل طلب العلم من أفضل الأعمال
أولاً: طلب العلم يصلح حال الإنسان
إن طلب العلم في الحقيقة يجعل بين الإنسان العالم، الإنسان المتعلم والمعلوم شيء واحد وهي ما تسمى بنظرية اتحاد العالم والمعلوم فيصبح بينهما وحدة؛ وعندما تكون هناك وحدة يترقى الإنسان بحيث لا يمكن حينها أن يتساوى مع الجاهل يقول ﷻ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ الزمر: ٩، وليس المقصود إنهما لا يتساويان في الحسنات؛ بل لا يتساوون في النوع؛ وكأن الإنسان نوع، وفيه أنواع كما يقول ابن سينا، فنحن عندما نرى بعضنا فمن حيث الظاهر؛ الطول والعرض؛ قد نتشابه وقد نختلف، ولكننا مختلفون بمقدار اختلاف علومنا ومعارفنا وإدراكاتنا، فنحن مختلفون من حيث الصورة ولا نتوافق وكذلك بالنسبة لبواطننا، والبشر كلهم كذلك هم مختلفون.
لأن المعلوم بالحقيقة وبالذات هو ما انطبع في النفس.
وهذا قد نلاحظه في أنفسنا أحيانًا فقد نسمع معلومة كشجار بين إثنين، أو خبر سيء أو فكرة خبيثة فننفعل بسبب ما سمعناه، رغم أن الفعل لم يكن أمامنا ولم نشاهده، مجرد معلومة قد وردت لمسامعنا ونقلت إلينا لكنها تزعجنا. وفي المقابل قد تستمع لحديث يولد لديك طاقة جبارة ويحثك على العمل، فالذي حدث هو تلك المعلومة بما لها من حضور شديد في النفس، بل حتى البدن فقد تجعله يستطيع أن يتمالك أو يتماسك أو ينفعل بشدة وبنحو ما.
إذا أردنا أن نختار أفضل ما يمكن أن يبلغه ويصل إليه الإنسان؛ أن تتغير أعماله أو تتغير ذاته؟ لا يوجد شك إذا تغيرت ذات الإنسان فأعماله حتمًا ستتغير، ولكن إذا تغيرت أعماله لا يوجد دليل على أن ذاته ستتغير حينها؛ إذ لا يمكن أن يجبر الإنسان نفسه ليكون زاهدًا في حين يكون الزهد بالنسبة له معاناة، ولا بدّ من أن يراقب الإنسان نفسه وقد يجبر نفسه على نافلة ما فيلتزم بها، لكن طلب العلم يحدث في الإنسان كمال حقيقي وواقعي وهي تعدّ أصولًا وجذورًا لهذه الاعمال الحسنة، ولذلك نلاحظ أن القرآن الكريم يقول: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، ومما لا شك فيه أن لا يستوي عمل الذين يعملون الصالحات والذين يعملون السيئات، ولكن المسألة هنا ليست في الحديث عن الأثر والأمور التبعية بل الحديث عن الأصول؛ فالعلم يحدث في الإنسان تغييرًا في ذات الإنسان، ولأنه يغير الإنسان نفسه فحتمًا لن يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون بالعقل كذلك هم لا يستوون وجودًا وذاتًا.
فائدة أخرى في أفضلية طلب العلم
قد يصبح العلم سلاحًا فتاكًا بيد الجهال والظالمين، لذا نرى أن الدول التي تريد إدارة شعوبها لمصالحها تعمد لتشغيل الماكينة الإعلامية مقابل العلم؛ فكل حاكم ظالم يأتي ليزيد الجهل عند الناس والتعتيم، ويجعل علمهم منصبًا في الأمور الآلية التي تخدم منافعهم ومصالحهم الذاتية فحسب، وهذه هي النقطة الأخرى المهمة في فضيلة طلب العلم إذ إنها تري الإنسان والبشرية قيمة الدّين الحق وعظمة الإسلام القويم، فالعلم هو أحداث وحقائق واقعية في النفس، وهو أفضل طريق يكشف للإنسان هذه الحقيقة سيّما في خضم هذه الفوضى المعرفية التي تحدث ونراها اليوم.
فالإنسان كلما تعلم أكثر؛ توسعت مداركه وأدرك أكثر حاله، وعرف قدره وسيدرك عظمة القرآن الكريم، وسيدرك طيفًا من المعاني والمعارف الواردة الآيات الروايات الشريفة، كما سيتجلى له عظمة وجهد أهل البيت ﴿؏﴾ في تبليغ رسالة السماء.
عندما دخل أمير المؤمنين ﴿؏﴾ الكوفة في حديث له ما مفاده: “لكم علي حق ولي عليكم حقوق، لكم على أن أعلمكم حتى لا تجهلوا”(٩)، حيث أن الأمير ﴿؏﴾ لا يخشى العلم، بل تجده ﴿؏﴾ يجود به حتى في لحظاته الأخيرة يقول بصوت خافت: “سلوني قبل أن تفقدوني…”(١٠)، فبقدر ما كان الأمير صادقًا كان مظلومًا ﴿؏﴾ إذ لم يُعطى منبرًا بعد وفاة رسول الله ﷺ ولا فرصة، بل كان يؤتى به لحاجتهم فحسب، تعامل أمير المؤمنين ﴿؏﴾ مع العلم والتعليم بنحو مختلف كليًا، حتى مع أعداءه كعبد الرحمن ابن ملجم ومعاوية، ورسائله مع الأخير مليئة بالعلم وشاهدة على ذلك(١١).
أفضل الأعمال في ليلة القدر
لو تسائلنا: ما هو العلم الذي يطلبه الإنسان فيكون قد حصل على أفضل ما يمكن أن يحصل عليه في ليلة القدر؟
هل يوجد علم واحد عندما نطالعه ونقرأ فيه يكون هو أفضل الأعمال في ليلة القدر؟!
قد نوفق ونصلي مائة ركعة، ونقرأ دعاء الجوشن بل كلنا تقريبًا نؤدي ذات الأعمال الواردة استحبابًا في هذه الليالي المباركة؛ ولكن عند الله ﷻ هناك تفاوت في الحضور والاستجابة. فالعلم الذي يعدّ أفضل أعمال هذه الليلة هو العلم الذي ينفع: “اللهُمَّ إنّي أعوذُ بِكَ مِن نَفسٍ لا تَشبَعُ، وَمِن قَلبٍ لا يَخشَعُ، وَمِن عِلمٍ لا يَنفَعُ”(١٢)، العلم الذي ينفع الإنسان بشكل خاص دون غيره هو العلم الذي يغيره ويصلحه، وبمعرفته سواء عمل به أو لم يعمل به؛ لأنه بهذا العلم هو يرى حقيقة نفسه، ويدرك حجمه الواقعي ويدرك جهله وفقره وذله أمام الله ﷻ.
يقول ﷻ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾، فالعلم بالله ﷻ هو الذي يجب معرفته ولم ندركه بعد، وهو العلم الذي يفتقده الإنسان، والذي يحدث تغييرًا في نفسه؛ فليس كل علم يحدث تغييرًا في النفس ويترتب عليه عمل، الأمر ليس بهذا النحو وهذا الأمر الذي يجعل لطلب العلم كل هذه الفضائل.
فبعض الأحيان قد يترتب على العلم كمال باطن ولا يشترط أكثر من ذلك، كمحبة أهل البيت ﴿؏﴾؛ ففي إحدى مراتبها قد تجعل من الإنسان مبادر لعمل الصالحات فحسب، و في مرتبة عالية تجعله يرى نفسه عاجزًا أن يقوم بما يفي بحقهم ﴿؏﴾ وحق الله الذي تفضل علينا بهم؛ فهذا العلم هو الأكثر فائدة ونفعًا للإنسان، فكل إنسان حين يعرف نفسه ويدرك نقاط ضعفه ويعرف جوانب ومكامن التقصير لديه والتي يجب أن يعيد النظر فيها، سيدرك أن هناك ما هو عاجز عنه ومخفي عليه ولحكمة ما وفيه صلاحه.
يقول الإمام الحسين ﴿؏﴾: “إلهي أنا الجاهِلُ في عِلمي فَكَيفَ لا أكونُ جَهولاً في جَهلي” فمجاهيل الإنسان كثيرة، وهذه الرؤية بذاتها مجرد حضورها للنفس وحضور هذه الحقيقة تجعل من الإنسان عبدًا حقًا بين يدي الله ﷻ.
وبالعودة إلى ليلة القدر فهي ليست كيوم الجمعة حيث فيها ساعة يعفو الله ﷻ فيها عن الناس أو يستجاب فيها الدعاء؛ ليلة القدر كلها ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ القدر:٥، فكل ساعة من ساعاتها هو انقلاب وتغيير وساعات لإتخاذ القرار، وساعات همة وعزم وإرادة؛ لذا على الإنسان أن لا يستنفذ همته وعزيمته في القيام بمائة ركعة مثلًا فحسب وهو لم يبادر لأن يصلح ذاته.
الله ﷻ لا يريد منكم شيء إلا أن تعرفوا
وعليه نقول ختامًا؛ فهناك من يصلح في ليلة القدر مجرد أعماله، والله ﷻ قدير أن يغير هذه الأعمال ويبدل سيئاته حسنات وهذا مما لا شك فيه، -والذي يشك في ذلك إنسان مستغنٍ عن الله ﷻ- لكن هناك أمر يحدثه الله ﷻ بالعلم والمعرفة؛ فعندما يعرف الإنسان ربه ويعرف ويدرك معنى وحقيقة كرم الله ﷻ؛ هذه الحالة بذاتها عندما يتصورها الإنسان ستغدو سهمًا ينزل قلبه فيصيبه، يبدل الله ﷻ ذاته، ويغيره من نوع إلى نوع آخر، لا يغير فيه درجاته بل يغير نوع الإنسان كله.
وخلاصة القول تشير إلى تظافر الأدلة العقلية والنقلية (القرآني والروائي) كلها تقول لنا الله ﷻ لا يريد منكم شيء إلا أن تعرفوا.
- وهو من المحدثين المؤسسين للمنهج الشيعي في حفظ التراث والحديث.
- كنز العمال – المتقي الهندي – ج١٠ – ص١٣١.
- كنز العمال – المتقي الهندي – ج١٠ – ص١٣١.
- من خلال معالجة الرواية رياضيًا وبحساب المدى الزمني بوضع الأعمال على جدول الزمن؛ فلو صام أحدهم ثلاثة أشهر، وآخر طلب العلم لساعة؛ كان لطلب العلم أفضلية من قيام الثلاثة أشهر؛ فكيف لو كانت تلك الساعة التي قضيت في طلب العلم في ليلة هي خير من ألف شهر.
- بحار الأنوار – ج١ – ص١٨٠.
- سنن ابن ماجة – محمد بن يزيد القزويني – ج١ – ص ٧٩.
- عن أمير المؤمنين: “فاعل الخير خير منه، وفاعل الشر شر منه” نهج البلاغة.
- نضرب هنا مثالًا ندركه بالوجدان؛ أشدّ ما يكون على الإنسان أن يوصف بعدم الفهم والإدراك؛ فقد لا يكترث كثيرًا عندما يوصف بكونه ضعيفًا أو طويلًا فهذه قد يتحملها، لكن عندما يتهم أو يوصف بعدم الفهم، أو كونه جاهلًا، فهذا أكثر ما ينفر منه، لأن أكمل ما في الإنسان هو قدرته على الفهم والإدراك.
- نهج البلاغة – خطبة ٣٤.
- نهج البلاغة – خطبة ١٨٩.
- يروى أن معاوية مسك برجل لديه عهد من أمير المؤمنين ﴿؏﴾ إلى أحد من عماله، وقد ظفر به قوات معاوية، فجاءوا بالكتاب لمعاوية، وهو يستشير بطانته ماذا نصنع بهذا الكتاب؟ فاقترح عليه البعض أن مزقه لتحرق قلب علي ﴿؏﴾، قال لهم بل نأخذه وندهن به كلامنا؛ أي يأخذ من أقوال الإمام علي ﴿؏﴾ ويضعه في وسط كلامه ليصبح لكلامه قيمة.
- تعقيب صلاة العصر.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم
بارك الله بجهودكم وجعلكم من العلماء العالمين، تفيضون له وبه علما وعملا.
واسأل الله التوفيق لكم في خدمته ل تستحقون عبادته. انه كريم قادر…
لكم من القلب تحية لجهودكم..
واشكركم على هذة المقالة المفيدة
ورزقكم ليلة القدر بنواياكم الطاهرة.