﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ علَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ علَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة: 183.
تحدث المفسرون وأسهب المهتمون بشهر رمضان المبارك من جهات كثيرة وأضاءوا على معانٍ مشرقة في هذه الآية الشريفة وهي ذات أهمية، ولكن سوف نحاول أن نضيئ على معنى صريحٍ يصلح أن يكون معنى مستقل وهي هذا الربط الذي نستفيده من قوله جلّ وعلا: “لعلكم تتقون” والمتضمن لحيثياتٍ كثيرةٍ من أهمها ما سوف يأتي:
خلال تجربة الإنسان الدينية قد يصل إلى حالة من اليأس فيما يجد في نفسه من اجتراح في حق الله تعالى وفي حق نفسه وحقوق الآخرين، وما ينوء به ظهره من ثقل تلك الأوزار ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ علَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ الأنعام: 31 والعجز على إعادة موازين القوى في إصلاح نفسه وتطهيرها من الصفر، فيعيش حالة من التردد والحياء في إعادة التجربة مع الله سبحانه وتعالى، ولربما لأنه يقيس علاقته مع الله جلّ شأنه بعلاقته مع الآخرين حوله ويسقطها عليها، وذلك فيما لو أخطأ في حق أحد المؤمنين فهو لا يجد أن هناك فرصة لكي يتغير ويدخل في هذه العلاقة من جديد دخولاً صافيًا، مع أن الأمر في العلاقة مع الله تعالى خلاف ذلك تمامًا. فالقرآن الكريم يؤكد أن الفرص متاحة للإنسان لكي يحدث تغيرًا جذريًا في علاقته مع الله سبحانه وتعالى*.
شهر رمضان وفرصة العود إلى ساحة القدس:
ومن تلك الفرص التغييرية في العلاقة مع الله شهر رمضان المبارك والصيام يقول تعالى: (كُتِبَ علَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ علَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لعَلَّكُمْتَتَّقُونَ) فقد بسط الله ساحة الفيض الإلهي لهذا الإنسان وتلطف به ومنحه هذه الفرصة تكوينًا (لَعلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فالتقوى حصيلة التغيير الذي يأتي عن الأمل بالله سبحانه وتعالى بخلاف حالة يأس الإنسان من نفسه من أن يكون في مصاف المتقين، حينها فسوف لن يكون لعبادته حرارة وشوق بل ستكون على نحو الإلزام العسكري، وكما هو ملاحظ فإن أدعية شهر رمضان تضج بهذه المقارنة، بين يأس الإنسان من نفسه وبين أمله في الله وهذا ما يطغى على أدعية السحر بالخصوص فهي تضج بهذا اللون من الإصرار على التغيير لأن الله سبحانه أملّنا بذلك(١) فكل مفصل نقرأه في تلك الأدعية تعود علينا بالأمل من جديد. وهذا المعنى الذي جاء في هذه النصوص المباركة الإلهية الواردة عن الأئمة عليهم السلام هو نفس ما قرره صدر المتألهين في كتاب إيقاظ النائمين(٢).
الإنسان نفخة الروح والجوهر النقي:
يذكر صدر المتألهين في كتابه عبارة حول هذه الحقيقة التي يقررها العقل والعرفان ومضمونها: أن الفارق بين الإنسان وسائر الموجودات هو أن كل الموجودات لها حدّ ومقام معلوم بخلاف الإنسان فهو وإن كان يعيش عالم الطبيعة(٣) لكن له وجود ممتد في عالم المثال الذي هو أشرف وألطف وأرفع وأكثر انصرافًا عن عالم القشريات إلى عالم الواقعيات، ثم أيضًا هذا الإنسان نفسه له استعداد كامل لأن يصل إلى عالم العقل -عالم الملائكة- ثم يجتاز عالم الملائكة إلى عوالم هي فوق إمكانيات الملائكة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعطاه هذا الاستعداد لذلك أعطاه شرف الابتلاء والامتحان.
الإنسان هو الموجود الذي عُرِّض لامتحانات كثيرة ومن هذا الامتحان الصوم؛ فهو امتحان لكي يصعد الإنسان إلى مراتب يخلص فيها مما علق به من الخطايا والذنوب والآثام والتقصيرات.
الصيام نهر التطهير:
لو نلاحظ قول الإمام علي عليه السلام: (الصِّيَامَ ابْتِلاَءً لْإِخْلاَصِ الْخَلْقِ)(٤) الصوم ابتلاء وامتحان، وهو تعريض للإنسان لكي يسبح في نهر التطهير ويتعلم فن السباحة في هذا النهر.
فالرواية السابقة تشير إلى قابلية الإنسان للارتقاء والتنقل في مقامات السلوك والعروج حيث تتصاعد هذه القابلية عامًا بعد عام ويصل إلى عالم الإخلاص؛ التوحيد الخالص وإلا لم يكن محلًا للابتلاء. وهذا المعنى المذكور هو وجه آخر لبيان قوله جلّ وعلا “لعلكم تتقون” والتقوى كما تكون في الشؤون العملية تكون أيضًا في الشؤون المعرفية، فالإخلاص من أهم أبعاد التقوى، والتي تدعو الإنسان لأن يعيش عيشة فداء وتضحية وبذل، لأنه سينتهي إلى نتيجة إضافية على العكس ممن لا يأمل من نفسه التقدم والتغير.
وكلما كان استعداد الإنسان للكمال أكثر كان بلاؤه أكثر(٥)، (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الذين يلونهم، ثم الأمثل فالأمثل)(٦)، إذن الصيام هو نوع من الابتلاء لماذا؟ لأن الإنسان بحاجة إلى أن يستشرف ويقبل على التغيير ولا ييأس من الثبات في ذنب أو إثم.
ونتيجة لهذا الاستشراف للإقبال على التغيير تتنوع الخطابات الإلهية لتلقي في روع الإنسان وتلقنه أسباب عدم اليأس، لو نلاحظ قول الله سبحانه: ﴿لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ البقرة:225
-
ما المقصود باللغو؟
الأعمال التي لا تأتي من كسب قلبي، وتكون أمرًا غير متعمد تسمى لغو؛ اللغو لا يكون في الألفاظ فقط بل هو في العمل أيضًا، فكثير ما نقع في ذنب غفلة بينما تكون النّية على خلافه، وغالبًا فإن الخطايا التي تصدر من أنصاف المتدينين هي من هذا القبيل، هذه الأعمال اللغوية التي لا تأتي منبعثة من كسب قلبي هذه لا يؤاخذكم الله بها: (لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).
-
الفرق بين الكسب والاكتساب:
الفرق بينهما يظهر في الفارق بين التصريفين، الكسب أيسر من الاكتساب، الاكتساب فيه قوة بينما الكسب: هو الأمر الذي نأتي به من غير قصد وتبييت نيّة وإرادة، وهو ليس خبث في عمق النفس وهذا تغييره سهل ويسير، والله سبحانه لا يؤاخذ به؛ لذلك ختمت الآية الشريفة (والله غفور رحيم).
وهذا الفتح لباب الأمل وإمكانية التغيير مما يدل عليه النقل والعقل؛ فنحن ندرك عقلًا أن الإنسان مخلوق مجرور جموح للارتباط بالله سبحانه وتعالى في أصل خلقته ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ الحجر: 29.
فما هي حقيقة النفخ؟!
المراد بالنفخ هو العلو والطيران، فالإنسان في فطرته يجمح إلى العود لله سبحانه ولذلك قال تعالى: (ونفخت فيه من روحي) يعني أقرب الأشياء لله سبحانه، والله ليس له روح لكن معنى من روحي من صفاتي؛ لذا فإن الآية الشريفة عندما تقول: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) هي تضيء على مسألة ومشكلة ربما يعيشها الإنسان ويخنق ويقضي على نفسه بها ويكون ضحية اليأس، بينما الله سبحانه لا يرضى للإنسان أن يقتل نفسه ويكون ضحية لليأس من رحمة الله سبحانه.
إمكانية التغيير ضرورية في هذا الكون، وهذا يعتمد على أصل فلسفي، مفاده (أن الكون ثابت في تغيره) يعني متغير ثم متغير ثم متغير، فالإنسان يتغير من المعصية للتقوى، وعلى ذلك فإن الصيام ابتلاء لتخليص الإنسان مما عدا الله سبحانه.
وصلى الله على محمد وآل محمد
* مبرة العروة الوثقى، شهر رمضان المبارك ١٤٤١ هـ، الكويت
١. من دعاء أبي حمزة الثمالي: (يا ربي إن هذا مقام من لاذ بك واستجار بكرمك وألف إحسانك ونعمك وأنت الجواد الذي لا يضيق عفوك ولا ينقص فضلك ولا تقل رحمتك وقد توثقنا منك بالصفح القديم والفضل العظيم والرحمة الواسعة أفتراك يا رب تخلف ظنوننا أو تخيّب آمالنا كلا يا كريم فليس هذا ظننا بك ولا هذا طمعنا فيك يارب إن لنا فيك أملًا طويلًا كثيرًا إن لنا فيك رجاءً عظيمًا، عصيناك ونحن نرجو أن تستر علينا ودعوناك ونحن نرجو أن تستحيب لنا فحقق رجاءنا).
٢. كتاب (إيقاظ النائمين) وهو آخر ما ألفه وكتبه صدر المتألهين عبارة عن جزئين حزء العرفان النظري والآخر عرفان عملي، وقد حشا على هذا الكتاب وقرره العلامة الشيخ جوادي.
٣. العوالم: عالم الطبيعة –التراب- الهواء ليس لها وجود ممتد لعالم المثال.
عالم المثال: عالم المثال هو عالم أشرف وأعلى من عالم الطبيعة، متجرد من خصوصيات الطبيعة ولكن توجد فيه موجودات عالية وشريفة ووجودها في ذلك العالم أشد.
عالم العقول الكلية (الملائكة) لا يمكنها أن تنزل إلى عالم المثال ولا إلى عالم الطبيعة لأنها لاتحتاج أن تأكل أو تشرب أو أن تتعاطى مع الأكسجين أو الهيدروجين، ينقل الله سبحانه وتعالى عن الملائكة (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعلُومٌ) الصافات:١٦٤ كل شيء محدد ورتبته محددة.
٤. الكافي- للكليني- ج:2، ص:252
٥. كما ورد في مضمون الرواية إن الإمام الحسين (ع) قبل أن يخرج من كربلاء ذهب لزيارة رسول الله (ص) فسنحت عيناه فرأى رسول الله (ص) في المنام فقال لرسول الله (ص): إنني ابتليت بهذه الأمة، فقال له رسول الله (ص): (إن لك مقام لا تصل إليه الا بالشهادة).
٦. نهج البلاغة.
0 تعليق