بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين
خلق الله جلت قدرته الفرص للإنسان لتكون دليلًا له في سيره وحياته، وقد ركّز أهل البيت (ع) في الأحاديث المرويات الواردة عنهم على أهمية تلك الفرص ولزوم اقتناصها، وكذلك الحال بالنسبة للقرآن الكريم، فمن خلال ذلك أعطوا الإنسان الدليل النظري والعملي للاستفادة منها.
ومن بين تلك الفرص: ليالي الجُمع والأعياد، والكثير من المناسبات، وعلى رأسها شهر رمضان المبارك، والذي ندخل فيه بضيافة الله عامًا بعد عام.
وكما لا يخفى علينا أن الأئمة (ع) حُرموا من إقامة دولة يطرحون فيها البرنامج السياسي والاجتماعي والتربوي والعلمي؛ لكنهم بالمقابل كونوا حكومة ظلّ –إن صح التعبير-، وصنعوا دولةً روحيةً معنويةً لها وجود يزداد ويشتد ويتأكد، ومن بين شؤون هذه الدولة المعنوية تقديم البرنامج العملي للاستفادة من هذه الفرص.
وكانت الأدعية هي أحد طرق وأساليب الأئمة (ع) الفنية لتبيين برنامجهم لشيعتهم، ومن أبرز الأئمة (ع) الذين سلكوا هذا النهج الإمام زين العابدين (ع)، وذلك لأن الإمام (ع) عادة لا يكون تحت المراقبة والمتابعة من قبل السلطات الظالمة حينما يُنشيء دعاءً، خلافًا لحاله حينما يكتب التعاليم لشيعته بشكل نصيّ مباشر.
وللإمام زين العابدين (ع) دعاء في استقبال شهر رمضان المبارك، ودعاء آخر في وداع هذا الشهر الكريم، وأغلب مادتهما تحميد وثناء على الله سبحانه وإشارة وتنبيه وتذكير بالسبل التي يمكن للإنسان الاستفادة منها في شهر رمضان الكريم.
وفيما يرتبط بدعاء الاستقبال فهو دعاء تحميد وكأن الإنسان يُدعى إلى ضيافة فتوضع أمامه سفرة فيها أنواع وصنوف الأمور التي يحتاجها ولا بدّ أن يقتنيها ليستفيد منها، لذلك كلما نظر إلى صنف من هذه الأصناف والتي هي طريق وسبيل لقضاء حوائجه حمد الله سبحانه وتعالى عليه.
أما دعاء الوداع فهو كمن حضر هذه السفرة وجلس عليها وهو يراها تطوى من بين يديه فيحمد الله سبحانه وتعالى.
وفرق بين هذه المأدبة الربّانية في شهر رمضان المبارك، وبين مأدبة صاحب الدار المادية؛ إذ أن الإنسان في المأدبة الربّانية يدرك بوجدانه أنه لا يُشبع منها، فالثناء والحمد لا يكون عن شبع؛ بل عن تعلق وارتباط، وهذه طبيعة الفارق بين الأمور المادية والأمور المعنوية، فالمادية تمتلّأ منها فتشبع، بينما المعنوية تمتلأ منها فتزداد بها تعلقًا وارتباطًا وشغف.
(وَألْهِمْنِي وَلَهاً بِذِكْرِكَ إلى ذِكْرِكَ، وَاجْعلْ هَمِّتي فِي رَوْحِ نَجاحِ أَسْمائِكَ وَمَحَلِّ قُدْسِكَ)(١)
أما في حال الوداع للشهر الكريم؛ فعندما يدرك الإنسان أن هذه السفرة في حالة طي وارتفاع يشعر بأنه بحاجة للحمد والثناء، لا عن تململ، وإنما لأنه ذاق طعم هذه الصنوف وتروى فيها.
إذن فإن هذه الأدعية الواردة هي في حقيقتها تنبيهات ضرورية وتوجيهات أساسية ليدخل الإنسان إلى ضيافة الله سبحانه ومعه دليل ومرشد يدله، مثلما الحال عندما يدخل إلى مدينة سياحية.
ومن اللطيف أن الذي يحدثنا عن هذا الشهر الكريم هو أعلم وأكثر من أحاط بفضيلة هذا الشهر المبارك وهو رسول الله (ص) وأهل بيته الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين.
فشهر رمضان الكريم هو لطف ورحمة وهدية تكوينيّة من رب العالمين إلى محمد بن عبد الله (صلوات الله عليه وآله الطاهرين)؛ لذا فهم (ع) من يعرف خصائص هذه الهدية.
الشياطين مغلولة
سوف يكون الحديث حول شرح خطبة رسول الله (ص) في استقبال شهر رمضان المبارك وكما هو معلوم أن الخطبة طويلة، وكل مقطع منها في واقعه لهو إشارة إلى حقيقة في عالم التكوين وسير الوجود.
يقول صلوات الله عليه: (أيها الناس، إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلقة فاسألوا الله أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة)(٢)
وحتى نفهم مداليل الخطبة نحن بحاجة لمعرفة حقائق هامة تلزمنا لبرمجة حياتنا بشكل صحيح (وهي الملائكة، والشياطين ومعنى غلّ الأيدي للشياطين)، وسوف يكون الحديث عن الشيطان وبالخصوص عن معنى غلّ أيدي الشياطين في هذا الشهر المبارك، وسنتناول في هذا المقام احتمالين لمعنى غلّ أيادي الشياطين وهما:
-
المعنى الأول
له ارتباط بالجنبة التشريعية وهو أسلوب تلقيني وبيانه:
عندما تغلق مسالك الشيطان ومعابره والتي هي شهوات الإنسان ورغباته بالتزام الإنسان بالتعاليم خلال الشهر الكريم حيث أن الصيام يعني الإمساك عن الشهوات (المأكل والمشرب والنكاح و…)، فهذا يغلق الباب على الشيطان، فأيادي الشيطان مغلولة؛ إذ أن الإنسان إذا جاءت له وصية أو تنبيه من قبل الشرع -الله سبحانه وأهل البيت (ع)- فإنه احترامًا وامتثالًا لهم لا يخالف الوصية كونها بمثابة تنبيه باطني وتفعيل للحماية الروحية.
وهذا النوع من الوصايا تلقيني يُستعمل الآن في العلوم الحديثة، فإنهم إذا ما أرادوا تحفيز الإنسان لشيء ما فإنهم يلقنونه ببعض التأكيدات ببيان محاسن الشيء إن وجدت، وبالعكس إذا أرادوا أن ينفروه من شيء ما ذكروا مساوأه، كما يحدث تمامًا في الإعلانات الترويجية التلقينية والغاية منها التأثير على المتلقي وعلى اختياراته.
وهذا الأسلوب شبيه لما يتم اعتماده في ما يعرف بالبرمجة العصبية؛ فمع افتقارهم للمادة العلمية فهم يقومون بتوجيه بسطاء الناس عبر التلقينات وإعادة برمجتهم.
ومع الإقرار بوجود الفارق فإن هذا الرأي يقول بأن الأوامر الرباّنية الصادرة من الرسول (ص) من هذا النوع من التلقين والتوجيه، فالرسول الأكرم (ص) يريد من الناس أن ينقادوا للشرع أكثر، فيعطيعهم بعض المحركات والمحفزات ليثقوا في أنفسهم أكثر وليروا أنهم أقوى من الشيطان، فيصبحوا مبرمجين لا يعصون أوامر الله سبحانه، وهذا التفسير لمن لم يعرف رسول الله ﷺ ولم تتضح له حقيقة النبوة وكنهها، وهو ما لا نقول به البتة.
-
المعنى الثاني:
له ارتباط بالجنبة التكوينية ولا دخل له بالتأثير الشخصي وبيانه:
فنحن نعتقد أنه في شهر رمضان المبارك تحدث أمورًا تكوينية واقعية لا دخالة لها في الانجذاب أو التأثير الشخصي.
وهذه الأمور التكوينية يحدثها الله سبحانه وتعالى كرامة لنبيه محمد (ص) وأهل بيته (ع).
وهي أمور غير اختيارية، وإنما إجبارية قهرية؛ فالله سبحانه وتعالى قهرًا يغلّ أيدي الشياطين بحيث لا يصبح لهم القدرة على التأثير والغواية كما هو خارج هذا الشهر الكريم.
وهذه الحالة كائنة أشعر بها الإنسان أم لم يشعر، أدركها أم لم يدرك فهي واقعة ضمن القضاء والتقدير الإلهي في الكون في شهر رمضان المبارك، حيث تقدير الله أن تغلّ أيدي الشياطين ويختلف سير الكون عن سائر أيام السنة.
وحتى ندرك هذا المعنى نحن بحاجة لبيان أنواع غلّ الأيدي للشيطان.
أنواع الغلّ للشيطان
يؤكد القرآن الكريم على أن هناك نوعان من الغلّ للشيطان، غلّ دائم في سائر أيام السنة وأوقاتها، وغلّ خص به في شهر رمضان المبارك فقط، ولبيانهما يتعين علينا أن نبين كيفية عمل الشيطان ومحورية تسلطه على الإنسان.
-
النوع الأول:
الغلّ الدائم طوال أيام السنة، وهو غلّ تكويني طبيعي موجود في سير الكون وبناء الإنسان؛ حيث أن الشيطان مكبوح وممنوع من الوصول إلى منطقة أساسية في عمق الإنسان؛ فهو لا يستطيع أن ينفذ إلى ضمير وقلب ووجدان الإنسان أيًا كان.
بمعنى أنه لا يمكن لضمير أيّ إنسان كان ما كان أن يغشه ويُفهمه أن الظلم جميل وأن العدل قبيح ومرفوض!!
يقول الامام الصادق (ع): (القلب حرم الله فلا تسكن غير الله في حرم الله)(٣)
فلماذا لا يستطيع الشيطان أن ينفذ إلى النقطة العميقة في وجود الإنسان؟؟
فثمّة مناطق في الإنسان سطحية ظاهرية وهي جوارحه وأحاسيسه الظاهرية، وهناك مناطق أخرى وعرة وهي أعمق شيء وأقدس نقطة في الإنسان.
وهذه النقطة هي التي لها الأمر والنهي واتخاذ القرار والرضا الواقعي والسخط الواقعي والانجذاب وتسمى الضمير، فهذه النقطة لا يمكن أن يسلط الله سبحانه وتعالى عليها الشيطان؛ لأن تسلطه يفقد الإنسان ميزانه الطبيعي، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى ﴿إِنَّ عبَادِي لَيْسَ لَكَ علَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ﴾ الإسراء: 65 .. ثم يقول: ﴿وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ الإسراء: 65
ولأن الله وكيل فهو يريد حفظ حبل العبوديّة بينه وبين عبده، فلا يسلط عليه غيره في منطقة الضمير، منطقة الوجدان والقلب، فهذه المنطقة يستحيل أن يردها الشيطان أو يدخلها؛ لأنها الجبهة الأساسية التي يديرها الله جلّ شأنه حيث جعلها منطقة محروسة لا يسكنها إلا الله سبحانه وأولياءه (ع) والحق والعدل والاستقامة والإيمان والقيم والمعنويات والحقائق الرباّنية، وهناك أدلة كثيرة على هذا المعنى منها:
الدليل الأول:
الروايات الشريفة التي تؤكد أن القلب حرم الله، والحرم لا يمكن للشيطان أن يصل إليه (القلب حرم الله).
الدليل الثاني:
يحتاج للتدقيق، وهو دليل حسيّ وجداني يتواجد للجميع، فعندما نريد أن نقوم بالتصميم على عمل ما فإننا لا نشعر بوجود آخر يملي علينا العمل فمع كوننا نقول دائمًا –كما ورد في المأثور- أن الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم في العروق، لكننا لا نشعر به وذلك لأنه لا يتسلط على المنطقة الداخلية في الضمير أي ليس له تسلط على نواة وجودنا الأساسية.
إذن كيف يغوينا الشيطان؟!
الشيطان يكون في الجبهة الأمامية، والتي هي حواسنا، ومتعلقاتنا الخارجية؛ الدنيا، التلفاز، الإعلام، والتضليل، والناس الذين حولنا، ويذكرونا بالدنيا ويزينوها في عيوننا ونحن غافلون.
لذا فإنه وكما ذكرنا سابقًا من المتعين أن تكون دائرة نفوذ الشيطان علينا ضعيفة.
القرآن الكريم حتى يوضح لنا معنى ذلك يقول: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ آل عمران: 14، فالشيطان هو القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والزينة والفخر والتكاثر، هذا هو الشيطان وليس شيء غيره، وإلا فلو خليّ الإنسان وشأنه وضميره فإنه لا يريد التوسع في الملذات ولا يميل لها ولن يرغب بها. وهذا شأن كل إنسان سواء كان كافرًا أو مؤمنًا، مستقيمًا أو فاسقًا؛ نعم، يوجد أناس –من شياطين الإنس- بالخارج يشجعونه ويحركونه لكنهم لا يحركون الجبهة الداخلية، لأنه لا يمكنهم السيطرة عليها؛ فالله سبحانه وتعالى لا يعطي الإنسان ولا شياطين الجن والإنس ولا الإعلام القدرة والقوة على النفاذ والتأثير والتحريك لهذه النقطة والجبهة الأساسية.
إذن فالجبهة الأمامية هي مصدر الخطر، والمشكلة أن الكثير منّا يغفل عنها ويتصرف متأثرًا بها، يقوم بكثير من الأعمال هي ليست أوامر أتته من الجهات العليا والجبهة الداخلية، وإنما هو يتصرف لأن الأوامر تأتيه من فلان الذي فعل، وفلان الذي اشترى وغيره بمعنى يتصرف تبعًا لحواسه وجوارحه الظاهرية.
فالشيطان من حيث إدارة ربوبّية الله سبحانه لا يمكنه أن يصل وينفذ إلى الجبهة الداخلية الأساسية، وإنما يتصرف في الجوارح، في السمع والبصر فيشغلها عن الأمور الأساسية، وكثير من الناس يظن أن الله تعالى أعطاه البصر وأقصى ما في هذه النعمة وما يستفاد منها أن لا يقع من شاهق وأن يرى الأشياء الجميلة ويشتري الأشياء الجيدة، وقد يكون كل ذلك مفيدًا في بعض الموارد، ولكنه حينما تكون هذه الشواغل محورية حياة الإنسان، وتكون كل اهتمامه فستكون النقطة التي يهجم منها الشيطان وسيتحول من خلالها إلى ألعوبة بيده.
من هنا ينبغي أن نلتفت لهذه النعم التي أعطانا إياها الله جلّ وعلا، فهي سبيل للوصول إليه. فينبغي أن لا نحدها ونشغلها بغير ما أراده الله في طريق تكاملها؟!
القرآن الكريم ينقل عن الشيطان ﴿لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ الحجر: 39 إذ أن الله سبحانه وتعالى غلّ الشيطان تفضلاً منه بربوبيته، وأعطانا مناطق آمنة لا يصل ولا ينفذ إليها الشيطان، فمعنى ذلك أن الشيطان لا يمكن أن يتزين ولا أن يزين في القلوب والضمائر، بل يزين لها الأشياء الأرضية الخارجية وجوارحنا تتجاوب وتتحرك وتتهيج نتيجة لعدم عمقنا وفهم حقيقة الأمور؛ فنعتبر تلك الأمور الخارجية والثانوية كأساسية وننشغل بها فتصبح النقطة المركزية والأساسية التي هي الضمير محدودة، ويصبح أمر الإنسان ونهيه وانفعاله محدودًا بتلك الأمور الخارجية.
-
المعنى الثاني للغلّ:
وهناك غلّ تكويني قهري باطني من نوع آخر خاص بشهر رمضان المبارك، وقد خص الله سبحانه به محمد وآل محمد (ع) وشيعتهم، وهذا الغلّ ليس تلقينًا، وإنما هو هبة من الله سبحانه وتعالى حبًا لرسوله الأكرم (ص) نتيجة جهاده وتضحياته، وجهاد أبناءه (ع) وتضحياتهم وصبرهم أو تفضّل من الله سبحانه وتعالى (مننك ابتداء)، وكما يشير الإمام زين العابدين (ع) في دعاءه في وداع شهر رمضان المبارك؛ لذا فإن من أهم المعالم الأساسية لهذا الشهر الكريم (أن أيادي الشياطين مغلولة)
فما فائدة أن أيادي الشياطين مغلولة؟ وما معناها؟ وماذا تنفعنا أن أيادي الشياطين مغلولة؟
يجب أن نفهم أن كل إنسان لو خلي وشأنه بلا تدخلات خارجية فهو صناعة ربّانية، إلهية، فالإنسان وحتى جوارحه وعينه وبصره وسمعه والتي قد تكون آلة للشيطان هي في حقيقتها لم تصنع بحيث تتناسب مع الشيطان، وإنما صنعت بحيث تتناسب مع القيم الرباّنية.
في هذا الشهر الكريم، فإن هذا الموجود الذي هو الشيطان، هو الإعلام والمغريات التي حولنا من حيث الطبيعة تكوينًا وقهرًا أضعف من أن تؤثر في الإنسان وأضعف من أن تحرك جوارح الإنسان.
وسنذكر دليل على هذا المعنى:
-
الدليل الحسي الوجداني
هناك إشارة لطيفة للسيد كاظم الحائري حفظه الله (تلميذ الشهيد الصدر قدس) على هذا المعنى، يقول ما مفاده: كل مؤمن أول ليلة في الشهر الكريم يشعر أنه قد انبسطت أمامه من عالم الرضوان والقرب الإلهي والرضا من الله سبحانه وتعالى، أسباب العودة والتوبة والعبودية، قد مدت له حبالًا قوية وأساسية، وهذا مما لا شك مما يشعر به كل واحد منا كما يشعر أيضًا بعد ليلة العيد أن هذه الحبال قد رفعت. انتهى وهذا ليس تلقين بل هو تكوين، وثمّة فرق بين التلقين والتكوين.
فرق بين كلام محمد بن عبدالله -صلوات الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين- والذي ينظر إلى كل العوالم ويتحدث انطلاقًا من نظره إلى كل العوالم، وبين شخص جرّب تجربة شخصية، فعندما يقول رسول الله (ص) أن أيادي الشياطين مغلولة فهو يرى تجلي ذلك في ليلة هلال هذا الشهر المبارك؛ لهذا فإن الإمام زين العابدين (ع) يسلم على هذا الشهر الكريم (السَّلاَمُ علَيْكَ يَا شَهْرَ اللهِ الأكْبَرَ، وَيَا عيْدَ أَوْلِيَائِهِ)(٤)، وهذا ما يشير إليه العرفاء؛ فنحن نعرف أن السلام يكون على من يحسّ ويسمع ويدرك ويفهم فنحن لا نسلم على الجدار أو الطاولة، وإنما على المدركات؛ فشهر رمضان المبارك عطية مدركة من الله سبحانه وتعالى. وشهر رمضان الكريم في أول لياليه تمدّ لنا هذه العطية الإلهية، وتمتد لنا هذه الحبال للاتصال بالله جلّ وعلا؛ فكل من قصر في حياته أو أساء، وكل من لم يسيء، بل كل من يريد أن يتعرف على الله سبحانه وتعالى أو يعيد اتصاله ليس فقط مع الله سبحانه بل مع عالم الحق والواقع والحقيقة، وكل من يريد أن يتخلص من ألعاب الشيطان ويفهم هذه الدنيا (اعلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ) الحديد: 20، فهو سيستطيع إدراك ذلك، فبمجرد أن يهلّ شهر رمضان الكريم، فإن الإنسان يتصل مع حقيقة أن هذه الدنيا لعب ولهو، ويتصل بربّوبية الله سبحانه، بلطف منه تعالى.
والمؤمن قهرًا وتكوينًا يدرك وينفر من اللعب واللهو في هذا الشهر الكريم؛ بمعنى أنه حتى لو ضيع شخص وقته في شهر رمضان المبارك فإنه مع تضييعه لوقته، لكنه يتعذب فهو لا يريد ذلك؛ لأن الإنسان طبيعةً وتكوينًا يريد أن يشحن وقته بالعلم والمعرفة والطاعة.
وهذا دليل حسيّ على حقيقة غلّ أيدي الشياطين تكوينًا في هذا الشهر المبارك، وهناك أدلة كثيرة أخرى يؤكدها النقل تدل على ذلك أيضًا.
ختامًا لو نلفت لهذه التساؤلات:
إذا كانت المسألة قهرية وأيادي الشياطين مغلولة في خلال شهر رمضان المبارك فما بالنا نتغير قليلاً ثم نعود؟! بمعنى آخر لماذا لا يكون شهر رمضان الكريم تغييرًا قهريًا في مستوى واحد؟! لماذا لا تنحل مشكلتنا مع أنفسنا ومع من حولنا ومع المؤمنين كنتيجة حتمية قطعية كالماء الذي يتبخر عند درجة حرارة معينة؟!
من المعلوم أن مشكلة الإنسان هي أنه كلما كثرت المغريات حوله كثر انصرافه عن طلب الحقيقة والواقع؛ لأن الإنسان عندما يوسع منطقة خيالاته أكثر يصبح لا يريد فهم الواقع، لا يرى أيادي الشيطان المغلولة، حينها قد ضمن حركة الشيطان إلى أن تدخل حتى في المناطق المحرمة.
في شهر رمضان المبارك الشيطان مغلول ومحجوز من قبل الله تعالى، لكننا نحتال ونذهب من خلف الحواجز ونجعل للشيطان طريقًا بحيث نفتح له سبلًا جديدة؛ فإذا كان الإنسان تكويناً ينفر من أن ينشغل خلال شهر رمضان الكريم بغير ذكر الله سبحانه وتعالى، لكنه يشتغل بغير الله سبحانه؛ مسلسلات وبرامج وغيرها، فهذه كلها اقتحام للحواجز التي وضعها الله تعالى من أصل التكوين.
إذن ماذا يفيدنا أن تكون أيدي الشياطين مغلولة؟ وكيف يجب أن نكون إذا كانت أيدي الشياطين مغلولة؟
هذا ما سوف يأتي في شهر رمضان المبارك حيث سيكون الحديث عن كيفية استثمار هذه الفرصة والاستفادة منها في برنامج عملي، بمعنى أن يكون كالوصفة التي يعطيها الطبيب ليرى المتطبب أثرها عليه ليكون للحديث جنبة عملية.
هذا وصلى الله على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين.
١. المناجاة الشّعبانيّة في كتاب “إقبال الأعمال” (الإقبال بالأعمال الحسنة): ج3 /ص 296، للسيّد رضي الدين بن طاووس
٢. بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج: ٩٣ – ص: ٣٥٦
٣. بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج: ٦٧ – ص: ٢٥
٤. الصحيفة السجادية
0 تعليق