محاضرات الحج لعام ١٤٤٠هـ
قافلة الهدى
ورد في دعاء قنوت صلاة العيد:
“اَللّـهُمَّ اَهْلَ الْكِبْرِياءِ وَالْعظَمَةِ، وَاَهْلَ الْجُودِ وَالْجَبَرُوتِ، وَاَهْلَ الْعفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَاَهْلَ التَّقْوى وَالْمَغْفِرَةِ، اَسْاَلُكَ بِحَقِّ هذَا الْيَومِ الَّذي جَعَلْتَهُ لِلْمُسْلِمينَ عيداً، وَلِمحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ذُخْراً وَشَرَفاً وَمَزيْداً، اَنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَاَنْ تُدْخِلَني في كُلِّ خَيْر اَدْخَلْتَ فيهِ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّد، وَاَنْ تُخْرِجَني مِنْ كُلِّ سُوء اَخْرَجْتَ مِنْهُ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّد صَلَواتُكَ علَيْهِ وَعلَيْهِمْ، اَللّـهُمَّ اِنّي اَسْاَلُكَ خَيْرَ ماسَأَلَكَ مِنْهُ عبادُكَ الصّالِحُونَ، وَاَعوذُ بِكَ مِمَّا اسْتعاذَ مِنْهُ عبادُكَ الْصّالِحُونَ”
هذا الدعاء يمثل كل المقتضيات والخطوات التي يأتي بها الحاج، ويمكن شرح هذا الدعاء من عدة حيثيات، ولكن، وبناءً على الشعار المنتخب لهذا العام، نختار منه ما يتناسب مع المقام.
علّة الاعتراض على تحويل القبلة
﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُۗ﴾ إن التحول من اتجاه بيت المقدس إلى جهة المسجد الحرام -القبلة التي اختارها الله ﷻ للمسلمين- كان ابتلاءً وامتحانًا عظيمًا للمسلمين، لأنها قد شكلت ضغطًا قويًّا من قبل اليهود والمشركين على حد سواء على رسول الله (ص). وأصبحت مثارًا للجدل، كما أدّت إلى هجمة إعلامية على رسول الله (ص) بالخصوص، وعلى سائر المسلمين المخلصين عمومًا.
﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا علَيْهَاۗ﴾ البقرة: ١٤٢، فالسفهاء من الناس؛ أهل الكتاب والمنافقون سوف يشكلون جبهة واحدة في الاعتراض على تبديل القبلة، وتحول الجهة التي يتوجه إليها المسلمون لأداء العبادات والطاعات والنسك والمشاعر، وهذا كله نتيجة السفاهة وعدم قراءة التاريخ -فضلاً عن الحاضر أو استشراف المستقبل-، فلماذا كان كل هذا؟! هل القبلة كانت صرف جهة يتوجه إليها النبي الأكرم (ص) ثم توجه نحو جهة أخرى؟! لو كان الأمر كذلك فلما أدىّ هذا الأمر أو هذا التغيير إلى كل هذا المقدار من اللغط، وأثار هذا القدر من المشاكل، واستحوذ على كل هذا الاهتمام.
في حقيقة الأمر أنّ لهذه القضية بُعد عرفانيّ حقيقي وواقعي، وهو ما كان يرتضيه الرسول الأكرم (ص)، فالمولى ﷻ حبًا في إرضاء رسوله (ص)، ولّاه قبلة يرتضيها. وقد تحدثنا عن هذا الجانب العرفاني فيما سبق، وهو نوع من تكبير الله ﷻ، ولذا نقول في العيد “اَهْلَ الْكِبْرِياءِ وَالْعظَمَةِ”.
الجانب الآخر: وهو الجهة التاريخية، فعلى امتداد تاريخ النبوات هناك مشكلة عند اليهود وبني إسرائيل. فالقرآن الكريم عندما يتحدث عن بني اسرائيل واليهود يقول: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِع مِلَّتَهُمْ﴾ البقرة: ١٢٠، أي حتى يتبع رسول الله (ص) قبلتهم، فما هو مكمن السرّ في ذلك؟
ما السرّ في كونهم لا يقبلون الاستقلالية للإسلام والمسلمين، ولا يرتضون إلا أن تكون لهم التبعية الدينية، لماذا؟
الإسلام بواقعه لا يعبر عن حقبة تاريخية من حقب التاريخ، وإنما هو سلسلة ممتدة من نبي الله آدم (ع) إلى سائر الأنبياء (ع)، وكثيرًا ما كان يشكل اليهود على أن التاريخ الإسلامي يعود إلى 1400 سنةً فحسب، ولكن هذا الأمر محض ادعاء، وهو غير دقيق في واقع الحال، فالإسلام والمسلمون ليس لهم تاريخ محدد، أي أنّ الإسلام ليس دينًا أو حالًا مستحدثًا ليكون له تاريخ، فالإسلام كان هو دين جميع الأنبياء والمرسلين ﴿إِنَّ الدِّينَ عندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُۗ﴾ آل عمران: ١٩، أبتداءً من آدم (ع) مرورًا بنبي الله نوح وإبراهيم وداوود وسليمان وموسى وعيسى (ع) وختامًا بسيد الخلق أجمعين محمد المصطفى (ص) .
وعند زيارة المعصومين (ع) نقول: “السَّلامُ على آدَمَ صَفوَةِ اللهِ، السَّلامُ على نُوحٍ نَبِيِّ اللهِ، السَّلامُ على إبراهِيمَ خلِيلِ اللهِ، السَّلامُ على مُوسى كَلِيمِ اللهِ، السَّلامُ على عيسى رُوحِ اللهِ” فكل الأنبياء (ع) -وحسب النظرة الإسلامية- جاؤوا تترى ومترابطون ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ﴾ المؤمنون:٤٤، كالخبر المتواتر، مترابط متواصل وغير منقطع، وهكذا كانت النبوات، حلقة متماسكة ومترابطة لا نفرق بين أحد منهم. وبالنتيجة، ليس هناك حقبة تاريخية مؤطرة بزمن محدد نقول عنها (حقبة الإسلام).
لقد كان الأنبياء (ع) -في زمن ومكان محدد- من بني إسرائيل، هذا مما لا ننكره ولسنا بصدده أو ضده. فنحن نؤمن أن أصل الرسالات واحد، وأن إلهنا وإلهكم واحد ﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ البقرة: 139 فلا وجود لإلهين، ولا توجد حالة تجعل لأمة ما أو لمجتمع ما تفاضلًا وتقدمًا على مجتمع آخر. إذن لماذا أصبحت مسألة تغير القبلة مشكلة؟ من هنا يتبين لنا عظمة الحكمة الإلهية وقدرة الله تعالى وعظمة الدّين الإسلامي.
إن القبلة لكل ملّة كالشعار الدّيني الذي إذا قَبِل بها المرء يكون قد قَبِل بكل تفاصيل ذلك الدّين، فلو رضيت بقِبلة قوم ما يكون رضاء بشعائرهم وبطقوس عبادتهم، أي رضاء بهذا الدّين ولهذه الملّة بالتبع.
قد يقال ليس هناك تلازم عقلي، فقد أرضى بشعار من شعارات دين ما ولا أرضى بتفاصيل ذلك الدّين، أو لا أتخذه دينًا. نعم، من الجهة العقلية لا يوجد تلازم، لكن من الجهة الطبيعية والاجتماعية يحدث هنالك تلازمًا سيما في أذهان البسطاء من الناس. وكمثال على ذلك، نحن نعرف أن من يدير النظام الاقتصاديّ لهذا العالم ويسيطر على الجوانب الأخرى فيه هم اليهود، فلو كانت القبلة مشتركة معهم فسوف يزول الحاجز النفسي الذي بيننا وبينهم، وستذوب بالتالي هذه الأمة في تلك الأمة. حينها ماذا يمكن أن يحدث؟! ونحن نرى أن اليهود أينما ذهبوا وحلو في العالم جلبوا معهم الفساد وأحدثوا المشاكل وأوهنوا أركان المجتمع الإنساني.
مشكلة اليهود العقائدية: نحن أبناء الله!
يعتمد اليهود على عنصرين أساسيّين في الفساد:
-
الأوّل: المرأة.
-
الثاني: الشهوات “ضعف الإنسان” وقد نزلت الآية ﴿وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ النساء: 28. في إشارة إلى الضعف الغرائزي في الإنسان خصوصًا في العلاقات غير الشرعيّة بين الرجل والمرأة.
أينما يذهب اليهود يبحثون عن نقاط الضعف الموجودة في تلك المجتمعات، ليدخلوا منها ويبدأوا بنشر الفساد الأخلاقي والعقائدي.
ومن هنا نفهم ما يقوم به الحجاج ما يحدث يوم العيد ومعنى دعاءنا في صلاتهم “اَللّـهُمَّ اَهْلَ الْكِبْرِياءِ وَالْعظَمَةِ، وَاَهْلَ الْجُودِ وَالْجَبَرُوتِ، وَاَهْلَ الْعفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَاَهْلَ التَّقْوى وَالْمَغْفِرَةِ”.
لليهود مشكلة عقائدية، إذ يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه، ويعملون على ذلك. ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ التوبة: ٣٠. كما أن النصارى يعتقدون بأن المسيح هو ابن الله -والعياذ بالله-. فهم -اليهود- ووفق هذا الإعتقاد الباطل، وينسبون الله عز وجل لهم في الرضا والحب والغضب والعطاء والبذل كنسبة الأب للابن، فالله ﷻ لن يكون “أهْلَ الْجُودِ وَالْجَبَرُوتِ، وَاَهْلَ الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ” لكافة الناس، وإنما هذه النسبة خاصة بهم دون غيرهم، فأهل العفو والرحمة تكون لهم فقط دون غيرهم من النّاس ﴿وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْنَصَارَىٰۗ﴾ البقرة: ١١١.
عندما يعتقد هؤلاء أنهم أبناء الله، ولا فاصلة بينهم وبين الله ﷻ، كالأب في العرف عندما يخطئ ابنه فهو يعفو ويغفر ويتجاوز عن خطاياه، ولكن الناس لا تتجاوز بالضرورة عن الآخرين لمن هم خارج إطار تلك العلاقة التي تحكم وتربط بين الأب والابن، فهو لا يحاسبه ويدقق عليه أو يدخله نار جهنم. هم يعتقدون ذلك، وينصون على أنفسهم بذلك. فكيف يمكن التفاهم مع إنسان أو يمكن تحقيق وحدة معه في حين يرى لنفسه الفوقية!
يرى نفسه الأصل والآخرين له تبعًا، فلن يرضا بك ولن يقبلك، ولا يمكن أن يرضى بحال أن تكون في عرضه، فهو يعتقد أنه ابن الله، وأنت جنس من الدرجة الثانية لا يمكن إلا أن تكون له خادمًا!
وهذه الدعاوي الباطلة تتنافى مع كون الله عز وجل “اَهْلَ الْعفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَاَهْلَ التَّقْوى وَالْمَغْفِرَةِ”. فالله ﷻ لكل أحد! لا تفاوت لأحد على أحد إلا بالتقوى. إن هذا الاعتقاد الباطل بكونهم أبناء الله ونسبة الله تعالى لهم وحدهم دون غيرهم وأنهم مقدمون في العلاقة مع الله تعالى، وأن الله قد رضي عنهم، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى حسب مدعاهم وزعمهم… هو ما يسميه القرآن أمانيّ ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِۗ مَن يَعمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ النساء: ١٢٣، فلم يقل من يعمل عملاً سوءً سيجزى نتيجة عمله، لا، سترى عين عملك! فعملك هو الذي يحكي شخصك، والله ﷻ ليس لديه تفاوت ﴿الرَّحْمَٰنُ علَى الْعرْشِ اسْتَوَىٰ﴾ طه: ٥ وما هذه إلا صرف أماني! والأهداف لا تكون بالتمني، وإنما تؤخذ الدنيا غلابًا.
فلا يمكن للإنسان أن يبلغ عين الحقيقة ويصل إلا عبر تحقيق الواقع. أن يعتقدوا أنهم أبناء الله وأحباؤه ويبنون عليه الحياة الاقتصادية والتجارية والاجتماعية وأن يعتقدوا بأن الله تعالى خلقهم لذلك أو يرضى لهم ذلك -حاشا لله- هذا كله صرف أماني. لقد جاء الإسلام والقرآن ليؤكد على أن الله سبحانه وتعالى هو ربنا وربكم. ﴿وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ﴾ العنكبوت: ٤٦ لا تفاوت في الخليقة لأحد على أحد.
الحجّ يحقّق الحاجز النفسي الواقعيّ والميدانيّ
كما ذكرنا لا يمكن التفاهم مع أمة تعتقد أن كل الأرض ملك لها، وكل من يمتلك شيئا عليه أن يسلمه لهم فهم وحدهم أصحاب الحق. ولو استطاعوا لفعلوا ذلك.
ومكمن المشكلة في أصل عقيدتهم الفاسدة ونظرتهم لأنفسهم وللآخر، ونسبتهم للأنبياء وللدين ولله ﷻ بالباطل، فلا يمكن التعايش معهم وهكذا هو حالهم، ولا يمكن أن تقوم للإنسانية قائمة مع أمثال هؤلاء. ولذلك أصبح وجودهم يتمركز دائمًا حول نقاط الضعف لدى الآخر، -فليس لديهم نقاط قوة- وعبر إثارة حب الشهوات ودعم وجودهم بإثارة حب الشهوات والرغبات في المجتمعات، فهم كخيط الشيطان الذي يُحرك به الإنسان.
المسلمون ومن خلال أداء مناسك الحج يُوجدون هذا الحاجز النفسي عند أنفسهم، وعند الآخرين كذلك. ولهم أن يُعيّدوا لتحقيق هذا الحاجز النفسي في الواقع وقد تحول إلى واقع عيني وميداني. كما أن الآخرين سيجدون المسلمين محصنين عن هذه المعتقدات، وعن هذه الدعاوي. فكان حق للمسلمين القول: “وَاَهْلَ الْجُودِ وَالْجَبَرُوتِ، وَاَهْلَ الْعفْوِ وَالرَّحْمَةِ”، فالعفو عن كل أحد، والرحمة لكل أحد!
وعليه، إذا أدرك المسلمون هذه الحقيقة يكونون قد وصلوا في باطنهم إلى حقيقة العيد (اَسْاَلُكَ بِحَقِّ هذَا الْيَومِ الَّذي جَعَلْتَهُ لِلْمُسْلِمينَ عيداً)، وأوجدوه من خلال هذا السيل الجارف من الحجاج والمتوجه نحو بيت الله، حيث شطروا هذا العالم إلى شطر طائع ومنقاد لله ﷻ، متوجه حيث يوجهه الله تعالى، لا يبالي بقول السفهاء من الناس، ولا يبالي بضعفاء العقول، وإلى شطر آخر يقابله.
فالحاج عندما يطوف ويسعى ويقف بعرفة والمشعر الحرام ويبيت في منى لأيام ويرمي الجمار، فهو بذلك يشكل الهوية الإسلامية، ويحدث نوعًا من الوجود والاستقلالية وعدم الذوبان وعدم الذيليّة والتبعيّة للغير.
الحج انتصار على الذات وإخلاص لله!
مراكز القوة اثنان كما يقول أستاذنا الشيخ جوادي:
-
مركز القوة الأول: بالحج يتم رفع الامتيازات!
في الحج لباس واحد، وطواف في مكان واحد، ومبيت في مكان واحد. لجميع الناس على اختلاف جنسياتهم وقوميّاتهم، تنتفي فيه العصبيات… فالحج ليس انتفاء لهذه الامتيازات الظاهرية فحسب، بل في الحقيقة انتفاء للامتيازات الباطنية كذلك، فعندما يرى الإنسان نفسه أفضل من الآخرين رتبة باطنيّا وأحسن من غيره باطنًا -كما يظنه اليهود- عندها سيتمكن منه إبليس اللعين، ويستحكم عليه الشيطان.
وهنا مقولة رائعة وردت عن أمير المؤمنين (ع) تشير لهذا المعنى: “لو ارتفع الهوى لأنف غير المخلص من عمله”(١) .-أي ترك عمله- فالناس عندما يعملون أعمال الخير والطاعات والقربات لينالوا ألقابًا ومراكز، ليكبروا في أعين الناس بسبب تلك الأعمال، ماذا سيحدث لو رفع الهوى عنهم؟! هل سيفعلون ما كانوا يفعلون؟! إن هؤلاء يعملون الخير من أجل الهوى وبناءً على أهوائهم، هم يفعلون الخير فقط ليكونوا أفضل من باقي الناس، ومن يقوم بأعمال الخير والطاعات وبناء المساجد ودور الأيتام و… من أجل الاسم والشهرة، من يعمل من أجل هذه العناوين فهو يطلب هواه، ويريد أن يصل إلى المنافع الدنيوية وأن يصل للمناصب والكراسي والانتخابات…!
تعبير آية الله جوادي في هذا المجال: إن ابتلاء الكثير هو بالحمد والثناء ممن حولهم وذكرهم لهم بالألقاب المختلفة، بحيث لو ارتفع الهوى والهوس وحب الشهرة لرفع هؤلاء أيديهم عن عمل الخير، ولانزووا كما انزوى الآخرون، فهؤلاء يسعون وراء أهوائهم فحسب!
اليهود الذين يدّعون أنهم أبناء الله وأحباؤه عندما يقومون بأي عمل فيه بُعد إنساني، ويسعون أن يصوروا للجميع أن فيه بعدًا إنسانيّا وخيريّا وخدماتيّا يكون المحرك الواقعيّ لهم هو السيطرة والهيمنة على باقي البشر، فهم -وكما أسلفنا- لا يعتقدون أن بقية البشر متساوون معهم. أمثال هؤلاء لا بد وأن يُصنع بيننا وبينهم حاجز.
وهذا ما يحققه الحجّ للإنسان، أن ينزع من تصوره أنه أفضل من غيره. ولذلك نجد كل أدعية الحج تمتلئ بالخضوع والخشوع لله سبحانه وتعالى؛ كما ورد عن الإمام زين العابدين (ع) في دعاءه يوم عرفة “وَأَنَا بَعْدُ أَقَلُّ الأقَلّينَ، وَأَذَلّ الأذَلّينَ، وَمِثْلُ الذَّرَّةِ أَوْ دُونَها”. فالحج يريد أن يبصرنا على نقاط الضعف التي ينفذ منها إلينا إبليس.
والحاجّ له حقّ أن يُعَيِّد حين ينتصر في أهم معركة، معركته على ذاته وعلى نفسه! ويصبح كسائر الناس. لا يرى لنفسه مزية عليهم، فهو يلبس بياضًا كما يلبس كل الناس، ويسعى كما يسعى كل الناس، ويطوف حول البيت كما يطوف الناس أجمع، ليس كذلك فقط، فقد تحقّق في داخله أن لا أكبر من الله ﷻ، وقد أدرك أن الله وحده ﷻ “أَهْلَ الْكِبْرِياءِ وَالْعَظَمَةِ، وَاَهْلَ الْجُودِ وَالْجَبَرُوتِ” “وَاَهْلَ الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ”.. عفو ورحمة لكل أحد! بل عفوه ورحمته وبابه أكبر من أن يتصور، وأكبر من أن يدرك.
-
مركز القوة الثاني: الوصول إلى محض الإخلاص
القوّة الثانية التي يحققها الحاج من خلال هذه الأعمال: أن يصل إلى محض الإخلاص وحقيقته، وهذا الأمر صعب في واقعه! لأن الدنيا مليئة بأشواك الشرك والهوى، مليئة بالموانع التي تحول دون الوصول لهذه الحالة من الإخلاص والصفاء.
نرى آغلب الناس في غير مواسم الحج لا يدققون كثيرًا، فلا يسألون عن كثير من التكاليف التي أنيطت بهم، ولا يريدون معرفة ما لهم أو عليهم. ومن خلال التجربة، نلاحظ أن الناس في الحج تتكون لديهم حالة من الصفاء والطهارة لا يريدون معها اقتراف المعصية، أو الوقوع في الخطيئة أو حتى الشبهات، بل لا يحبون أن يكون لهم تميّز، ولا يريدون أن تدخل أنفسهم حالة من الكبر. فمن يملك مناصب اجتماعية وشهادات يتعامل بتواضع، إن الحج يخلق مثل هذه النفسية، فكلنا عبيد لله ﷻ، أذلاء لله ومطيعين له وحده ومنقادين له ﷻ. في مقابله تمامًا دعوى اليهود: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ المائدة: ١٨!
أما خارج ساحات الحج نرى الدنيا مليئة بالمنزلقات، مليئة بأشواك الشرك واللوث وطاعة الشيطان. الشيطان الذي لا يكسره شيء، فأنت لا تحاربه وفي يدك سلاح، الشيطان ينفذ لنا في خلال نقاط ضعفنا، وهو ما يعول عليه اليهود؛ الشهوات وحرف النساء، لأنهم أدوات الشيطان. المرأة والرجل كلاهما أدوات الشيطان، لكن الرجل أضعف من المرأة في هذا المورد لذا هم يعملون وبكل قوة على إسقاطها!
وفي قبال هذا يأتي الحج ليغلق تلك الثغرات الموجودة في نفس الإنسان.
﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّۗ﴾ البقرة: ١٩٧ فيغلق كل مداخل الشيطان، الذي يأتي منها؛ الرفث والفسق والشهوات والغرائز والجدال، الجدال الذي يكبّر الذات ويعطي إبليس السلاح الأكبر لكي ينتصر على الإنسان.
وعندما يرى الإنسان الله ﷻ في أعماقه، ويصل لهذه المرحلة كما يقول العرفاء، سوف تنمحي نفسه، ويصل للعمل الخالص، العمل الذي يحبه الله ﷻ. فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق (ع): “العمل الخالص: الذي لاتريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عزوجل”(٢).
فالحجاج يقدمون الصدقات سرًا، ويقومون بغيرها من أعمال البر.. كل هذه تخلق في الإنسان حالة الإخلاص لله ﷻ، وإذا وصل الإنسان لهذه الحالة أحبه الله الذي يحب التوابين ويحب المخلصين، عندها فقط نصبح أحباب الله ﷻ. وهذه ليست صرف أماني، أن نكون أحباء الله فالأماني لاتنفع. لن يكون الإنسان حبيبًا لله إلا بعد أن ينتصر على نفسه، أن ينتصر على التفضيل والتميز من خلال أداءه لمناسك الحج، لذلك صار له الحقّ بعدها أن يُعَيِّد ويقول: “اَللّـهُمَّ اَهْلَ الْكِبْرِياءِ وَالْعَظَمَةِ، وَاَهْلَ الْجُودِ وَالْجَبَرُوت…”.
“وَاَنْ تُدْخِلَني في كُلِّ خَيْر اَدْخَلْتَ فيهِ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّد” بل واصبح لك الحقّ أن تسأل الله ﷻ وتطلب الدخول في كل خير دخل فيه محمد وآل محمد، وأن تخرج من كل سوء خرج منه محمد وآل محمد (ص)، بعدما أصبحت طاهر الذيل ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ المدثر: ٣، أصبحت طاهرًا فأنت مكبّر لله تعالى، تراه ﷻ أنه أهل الكبرياء والعظمة.
أختم حديثي معكم بالتبريك والتهنئة لأنكم وصلتم إلى حال حُرم منه الكثيرون، وأسأل الله تعالى أن يتقبل منكم وأن يجعلنا وإياكم في وعي وإدراك ومعرفة بعذه العطية والموهبة الإلهية الربانية وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
١. ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج١، ص: ٧٥٧
٢. ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج١، ص: ٧٥٨
0 تعليق