أبارك للأمة الإسلامية ولقائدها بشكل خاص حلول شهر الله الأعظم والورود في ضيافة الله.
شهر رمضان في جميع نواحيه حكمة، حتى في اسمه حكمة إلهية تفضي إلى إظهار جوهر الإنسان وفضائله التي تميزه عن سائر الموجودات بل تميز المسلم عن غيره من أتباع الديانات.
إن هذا التميز ليس بالأمر الاعتباري كالجنسية والبلاد والهيئة الظاهرية، ولا تمييزًا في الماهية كتمييز الإنسان عن الحيوان -وإن كان هذا من لوازم شهر رمضان حيث أن الحيوان لا يصوم وإنما يسبح الله فقط- بل شهر رمضان يميز ذات الإنسان المؤمن عن سائر الموجودات، وشاهدنا على ذلك هو الآيات القرآنية، فليس جزافًا أن يكون القرآن قد ذكر شهر رمضان بالاسم، بل لم يذكر غيره من سائر الشهور. وإذا تأملنا في قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ … وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ على ما هَداكُمْ وَلَعلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ البقرة:١٨٥.
نجد أن الآية أشارت إلى مسألتين:
الأولى: اسم شهر رمضان: إن أصل كلمة رمضان من (الرمض وشدة الحر). ولكن شهر رمضان قد يقع في جميع فصول السنة المختلفة في الجو الظاهري: خريف أو ربيع أو شتاء أو صيف، وهذا يفيدنا أن الكلام ليس عن الطقس المادي الفيزيائي فقط وإنما عن الطقس الروحي والمعنوي والعرفاني أيضا، فإن القلب يبتلى بالفتور والبرودة والخريف وتساقط الشعور وجمود الإحساس بل تبلد الوجدان والتوقف عن الحراك، فتحتاج القلوب إلى محرك يذيب جمودها وإلى حرارة تلهب فتورها ورمض يذيب ما اعتراها من تبلّد ويجعلها تحت شمس المعرفة مشرقة وضّاءة.
وهذا المعنى من احتراق قلب المحب من شدة الوله ووهج المشاعر هو أحد غايات طلب العارف وهو ملازم لمحبة الله، ودليلهم على أن احتراق القلب واختراق حجب الغيب هو مطلوب الإنسان وهو ما يجعله (متولّهًا متألِّهًا): أنه لا قلوب الحيوانات ولا قلوب الملائكة يتأتّى منها الاحتراق من شدة الشوق والالتهاب للقرب من المحبوب. فهذا هو التميّز الواقعي في الإنسان وهو مطلوبه الفطري أو لنقل علته الغائية وفصله المقوّم لوجوده الذي ينتهي له سعيه.. ولو كان هناك غاية أخرى لهداه خالقه إليها وأرشده لها.
وقد جاء في المناجاة الحادية عشر المنسوبة للإمام زين العابدين (ع) قوله: (وَغُلَّتي لا يُبَرِّدُها إلاّ وَصْلُكَ، وَلَوْعتي لا يُطْفيها إلاّ لِقاؤُكَ، وَشَوْقي إلَيْكَ لا يَبُلُّهُ إلاّ النَّظَرُ اِلى وَجْهِكَ، وَقَراري لا يَقِّرُّ دُونَ دُنُوّي مِنْكَ، وَلَهْفَتي لا يَرُدُّها إلاّ رَوْحُكَ، وَسُقْمي لا يَشْفيهِ إلاّ طِبُّكَ، وَغَمّي لا يُزيلُهُ إلاّ قُرْبُكَ، وجُرْحي لا يُبْرِئُهُ إلاّ صَفْحُكَ، وَرَيْنُ قَلْبي لا يَجْلُوهُ إلاّ عفْوُكَ ) (١) وهذا المعنى هو عمدة أشعار العرفاء، يقول العارف المولوي:
سوختم من سوخته خواهد کسی **** تـا ز من اتــش خسى
ومعنى الشعر ما مفاده: إنني احترقت وسيحترق كل من يقترب مني ويأخذ الجذوة.
وهذا الحال من احتراق القلب يقابل تمامًا ما يتسلح به جنود الحرب الناعمة من تبريد وتجميد لمشاعر الإنسان وتثقيفه على أن السعادة الواقعية أن يعيش لذة اللحظة ويطلب الراحة الوهمية ومتاع الحياة الدنيا، فكل هذه المظاهر من الرفاهية والترف النفسي تقول للإنسان جمد مشاعرك تجاه الآخرة.. وداعًا للحزن.. تحدّى كلّ الموانع.. افرح مع ملكة السعادة ببلاهة…!!
إن هذه المعاني لهي معول هدّام لبناء أي إنسان بشكل صحيح…
أما المسألة الثانية:
فهي نزول الغيث الإلهي والوحي السماوي. أي أن: أي احتراق مادي يطفيه الماء النازل من السماء، ولا يطفئ احتراق قلب العارف إلا بأن يظهر له وجه الله! وقد جاء في الخبر عن أمير المؤمنين (ع) في وصف القرآن: (تجلى لهم الله في كتابه من غير أن يكونوا رأوه)(٢).
ولربما هذا ما تشير له بقية الآية السابقة: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)، فحيث أن المؤمن الواله محترق من فراق الله؛ لذا كان إنزال القرآن بماء العلم والمعرفة والإيمان والطهور، وهذه خصوصية ثانية في هذا الشهر، وهذا مدعاة للشكر (لَعلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
ففي هذا الشهر يظهر كمالان ذاتيان للإنسان وهما:
-
فوران القلب لوصال الله.
-
نزول ما فيه اطمئنان وشفاء لهذا الفوران (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد: ٢٨.
وهاتان الصفتان الكماليّتان ذاتيّتان للمسلم المعتقد بالله الملتزم بالدخول في ضيافة الله في هذا الشهر الشريف.
١. مفاتيح الجنان ص: 182
٢. نهج البلاغة الخطبة 18
0 تعليق