قال الصادق (ع) في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا﴾ الإسراء: 72 نزلت فيمَن يسوّف الحجّ حتى مات ولم يحجّ ، فعمي عن فريضة من فرائض الله(1).
واضح أنّ المراد من العمى ليس عمى البصر، فمن كان أعمى بالولادة أو بمرض أو بأيّ سبب آخر فلا معنى لأن يحشر في الآخرة أعمى، بل كما هو واضح والمتبادر من الآية أنّ المراد هو الأعمى البصيرة. والأعمى هو الذي لا يستفيد ولا يعرف ولا يتماسّ مع ما حوله.
الحجّ عبادة تفتح آفاق الإنسان على أصول المدرسة الإلهيّة، على التوحيد وعلى موقع الإنسان في شأنه الاجتماعيّ والاقتصاديّ…وتدخل الإنسان في عالم الإبصار والرؤية، فالحجّ ركن من أركان الدين، وهذا أوّل ما يطالعك في كتاب الحجّ في الرسالة العمليّة أو العروة الوثقى… والبناء إذا شيّد على أركان أساسيّة يعتمد عليها فإنّه سينهار بانهيار أحدها، بخلاف فيما لو انهار جزء لا يعتمد عليه بنحو أساسيّ.
الحجّ ركن من أركان الدين ولأهميّة هذا الركن والتمسك به كان أمير المؤمنين (ع) يوصي الحسنين (ع) في آخر لحظات حياته به: (الله الله في بيت ربّكم لا تخلوه ما بقيتم، فإنّه إن ترك لم تناظروا).
اللحظات الأخيرة هي اللحظات القيّمة والمهمّة في حياة كلّ إنسان وهي الرسالة التي تترجم حياة الإنسان. الأمير (ع) يوصي بالحجّ وهو في حال التوديع، وهو سلام الله عليه يختار أدقّ وألطف وأظرف التعابير، ويجعل من ظرف شهادته ومظلوميّته وضمن أجواء المحبّة واللطف والحنان…كلّ ذلك يجعله سببا وباعثا لإنفاذ وصيّته (ع)، وهذه الكلمة (الله الله في بيت ربكم) علاوة على ما تدلّ عليه من التوصية بالحجّ وما فيه من ركنيّة للدين، فيها باعثيّة عاطفيّة وتحريك للإرادة والجدّيّة وتحريك للعقيدة وتحريك للولاء تجاه الحجّ. فهو لم يقل بيت الناس بل قال (بيت ربكم) مع أنه أول بيت وضع للناس إلا أنه نسبه للرب، فجعل نسبة بينه وبين الرب، ثمّ نسبه إليهم (كم)، فهو كما يقول شخص لآخر: ( الله الله في أمك، الله الله في أختك…)!
توجد مسألة فقهيّة والروايات أيضا تؤكّد هذا المعنى، وهو أنّ المسلمين إذا لم يكن لديهم إمكانيّة الحجّ فعلى الفقيه أو المرجع أو الإمام أن ينفق عليهم من بيت مال المسلمين ويهبهم المال ليحجّوا إلى بيت الله. وإذا لم يذهبوا وهم يعلمون أنّ هذه فريضة من عند الله يجب عليه أن يحاربهم لأنّ هذا هدم للدين، يجب عليه أن يحاربهم وإن لم يعلم تحقّق التأثير والانتصار، وهذا خلاف شرطيّة التأثير في موارد أخرى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لأنّ قرار ترك الحجّ هدم للدين، كلّ الدين، وليس هدما لدين الفرد.
وهذا يجعلنا ندرك أنّ للحجّ قيمة وموقعا أساسيّا في الدين ونصره والبصيرة فيه. بحيث أنّ من لم ير معالم الحجّ ببصيرته ولم ير الأبعاد والحقائق التي جعلها الله في هذه المناسك فهو لم ير شيئا من الدين، ولم ير الرسالات الإلهيّة ولم ير التوحيد… فهو أعمى ويحشر يوم القيامة أعمى كذلك.
قاعدة تداعي المعانيّ في فهم القرآن
كثيرا ما نرى شيئا يجعلنا نتصوّر ملازمات كثيرة معه بمجرّد رؤيته. وهذا ما يعرف بتداعي المعاني، ولقد استفاد القرآن كثيرا من هذه القاعدة.
القرآن يصور الإنسان المسافر على الدابة في مسيره وانتقاله في الأرض واحتياجه إلى المركب والنجوم ليهتدي بها ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)﴾ سورة النحل إلى هنا واضح، ثم يربط بينها وبين تداعي آخر مهمّ جدّا عند القرآن ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ النحل: 9.
هذا الإنسان الذي يسير في الصحراء ويطلب الهداية بالنجم والعلامات، ويخاف دائما من الضياع، ألا يتداعى إلى ذهنه أنّه كما يمكن أن يضلّ في مسيره في الأرض من الممكن أن يضلّ ويضيع في أفكاره ومعاشراته…{ولو شاء لهداكم أجمعين}!
الحج من أكثر العبادات التي فيها تداعٍ للمعاني التي تؤسّس لرؤية كونيّة صحيحة.
-
الإحرام من الميقات
نبدأ من أوّل أعمال وواجبات الحجّ، وهو الإحرام من الميقات ـ مسجد الشجرة مثلا ـ يجب على الحاجّ أن يعقد إحرامه في الميقات فقط لا بعده ولا قبله، مكان معيّن لا يصحّ الإحرام إلّا منه. هذا ألا يجعل الإنسان يؤمن بأنّ بقاع الأرض غير متساوية، وأنّ لهذا المكان الخاصّ بركة خاصة وأنّ لهذه الأمكنة أبعاد ملكوتيّة خاصّة ؟ ألا يربط بين هذا المعنى وبين أن تكون للأمكنة آثار واقعيّة حقيقيّة.
البصير يقول أنّ قبر رسول الله (ص) ليس كأيّ مكان، والشباك المحيط بقبره فيه قدسيّة ليس كأيّ شبّاك.
قد تتساوى الأماكن من حيث الشكل والنظرة المادّيّة، ولكنّها لا تتساوى عند الله ولا تتشابه في الآثار المعنويّة أبدا.
أن يجب على الحاجّ الإحرام فقط من هذا المكان ألا يولّد له رؤية توحيديّة واسعة؟!
تبدأ الرؤية الملكوتيّة للحاجّ تتسع، ورؤيته التوحيديّة تختلف. والأعمى لا يرى هذه الخصوصيّة، والذي يرى الخصوصيّة بصير والبصير هنا سيحشر بصيرا وكلّ حواسه كاملة.
-
الطواف
وهو المعلم الثاني في الحجّ، يبدأ من الحجر الأسود محاذيا لجانبه الأيسر ولابدّ أن يدخل حجر إسماعيل ضمن الطواف، فلو طاف حول الكعبة فقط ولم يدخل الحجر ضمنه بطل طوافه عند جميع المسلمين.
الطواف صلاة وانقطاع إلى الله وهو المعلم الأساسيّ للإعراب عن توحيد الله، فكيف يدخل فيه حجر إسماعيل ـ مدفن هاجر وإسماعيل وآلاف الأنبياء ـ ؟!
إذا لم يكن إدخال حجر إسماعيل ضمن الطواف شركا فكيف يكون إدخال ولاية أهل البيت(ع) في التوحيد شركا؟!
آية المباهلة نصّ في أنّ معلم التوحيد هو وجود محمّد وآله بما فيهم الصديقة الزهراء(ع)، فكيف لا يجوز استثناء قبور الأنبياء في الطواف و يستثنى أهل البيت(ع) من التوحيد؟!
الذي لا يستطيع فهم هذه المعاني ويعمى عن هذه الرؤية فهو في الآخرة أعمى.
-
الصلاة خلف مقام إبراهيم(ع)
لماذا الصلاة خلف مقام إبراهيم(ع) مباشرة أو في أقرب نقطة إلى المقام؟! المقام المراد منه قيام وثورة إبراهيم(ع) وموقفه ومكان جهاده. فمن الممكن أن تكون ثورة إنسان وقيامه قبلة للمسلمين ومكانا لاستجابة الدعاء، فلماذا نستكثرها على الإمام الحسين(ع)؟!
-
السعي
السعي ليس إلّا حركة هاجر ومشيها بحثا عن الماء من أجل نبيّ الله إسماعيل(ع)، ولو أراد الإنسان أن يسعى عشرين كيلو مترا في مكان غيره لم يقبل منه حجّه، بل لابدّ من أن يتمثّل هذه الحركة .
لماذا لا يتصوّر أنّ المشي بحركة أولياء الله والسعي بمسعاهم والسجود والركوع والصلاة والتوسّل والعبادة في أماكنهم لها بركة خاصّة عند الله ؟!
في الحجّ كلّ هذه الرؤية الكونيّة التي تجعلنا نشيّد الدين كلّ الدين، وتؤدّي إلى أن نوسّع من قدراتنا ورؤيتنا وإدراكنا برؤية هذه المعالم الربانيّة. ومن لم ير هذه المعالم فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا.
1. تفسير القمي ص386
0 تعليق