تقدم القراءة:

كيف نجوز على الصراط ٢

السبت 26 مايو 2018مساءًالسبت

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.

 إن أهم وأفضل المواسم لاستقامة الأخلاق والكمالات النفسية هو شهر رمضان، فإنه [من حسن في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط]. وتحسين الأخلاق له ارتباط بسلوك وسير الإنسان الاجتماعي والعملي لذا اخترنا لبيان ذلك سورة المطففين، فإن بين قراءة وفهم هذه السورة والالتزام بها وبين الجواز على الصراط ارتباط العلة والمعلول بناء على الروايات الواردة في هذا الشأن.

﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾

يقابلنا في الآية مفهومان: الويل والتطفيف.

1) مفهوم الويل: وهو مفهوم قرآني يعني التهديد بالعذاب والهلاك والانتقام، واستخدم في غالب الآيات التي تتوعد غير الموحدين لله سبحانه وتعالى (أي في بعد عقائدي) أما هنا فقد استخدم في شأن أخلاقي. وهو يحكي عن واقعٍ وحقيقةٍ ومستقبلٍ للمطففين، وفي الروايات جاء لفظ الويل لبيان مكان وواد سحيق في جهنم.

2) مفهوم التطفيف: في اللغة نقول: طفا الشيء بمعنى ظهر وأصبح قريبا وفي المتناول، ومنه سميت الطفّ بأرض الطفوف لأنها قريبة من الريف، أو لأن الماء طافٍ أي ظاهر وقريب وفي المتناول.

لماذا التهديد والوعيد بالعذاب في القرآن؟

  هنا يأتي سؤال مهم ويحتاج إلى إجابة: ما سبب ورود التهديد الإلهي للإنسان في الآيات والروايات؟ إلا يؤثر ذلك على تصور الانسان لله سبحانه وتعالى، وعلاقته به؟

هذا الاشكال ليس حديثا ولكنه نشأ في أذهان الذين يقرأون القرآن بذهنية مسيحية. بدأ هذا الإشكال منذ القرن السابع عشر الميلادي، عندما بدأت موجة الاعتراض على الغيب (الميتافيزيقيا) التي فيها البحث عن الوجود وعن مراتب الوجود والواقعيات. وبعد التقدم والانتصار الذي حققه الإنسان في مجال الكشوفات العلمية ضُعفت عنده قدسية الغيب وأصبح يبحث عن محورية ذاتة بمعزل عن الواقع وعن الغيب ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ﴾ العلق/ 6، 7  فقد استطاع الإنسان أن يفهم ويعي كثيرًا من أسرار الطبيعة، ويفهم الكثير من القوانين الفيزيائية، فأصبح يرى أن عالم الغيب يعارض هذه النتائج  خصوصا مع ما هو موجود في الكتب المقدسة.

    المشكلة لم تكن مع الله سبحانه وتعالى، لكن باعتبار أن نتائج العلوم تنتهي إلى محورية الله والغيب لذلك يخالون أن هناك نزاع بين الغيب وبين هذه العلوم، فتولّدت بعض الأسئلة والاتجهات ومنها محاكمة الله سبحانه وتعالى:  لماذا  يكون الله سبحانه وتعالى هو محور الوجود؟ لماذا كل شيء يجب أن يصبح فداء لله سبحانه وتعالى؟!!

لذا فإن كبار الفلاسفة الإنسانيين اتجهوا اتجاها مقابلا حيث محورية القيم الإنسانية ومحورية الإنسان حتى أن نيتشه أعلن عن موت الله سبحانه وتعالى وموت كل الحقائق الميتافيزيقية. بالتالي تراجعت الفلسفة كثيرًا لصالح التقدم العلمي، فأصبحنا في نزاع مع الدين بسبب محورية الإنسان، لأنه بناء على هذه الاتجاهات الفلسفية أصبح معيار الحسن والقبيح هو ما يقدم للإنسان، فالله الذي يريدونه إنما توصف أعماله بالحُسن إذا كانت تقدم للإنسان أمرًا يستحسنه، أما حين يفعل هذا الإله ما لا يصب في مصلحة الإنسان ( بحسب رؤيتهم) فإن هذا الإله غير مقبول. من هنا أصبح هناك مقدار كبير من الضياع والتيه والجفاف والغلظة حتى في علاقة الناس بعضهم مع بعض وأصبحت الحياة والتفكير والقيم فردية. حتى أن هناك من المسيحيين من أعلن عدم قناعته بالإنجيل مثل الفيلسوف برتراند راسل الذي ألّف كتابا تحت عنوان: (لماذا لست مسيحيا؟) والسبب عدم اقتناعه ببعض مقاطع من الإنجيل، إذ يقول: لماذا يهدد المسيح بالعذاب الأبدي لكل من لا يؤمن به فمن شأن التهديد أن يخدش صورة المسيح، إن كثيرًا من الدعاة العاديين لم يلجؤوا إلى التهديد والوعيد. ثم جعل يقارب بين سقراط وبين المسيح. فسقراط معروف وموصوف بالحكمة والحلم رغم أنه وثني، وكانت له قدرة على التأثير والموعظة ولم يلزم أحدا بالإيمان به، وكان رقيقا ومهذبا وأما المسيح كان يهدد كل من يخالفه بالعذاب بقوله: “أَولادَ الأَفاعي، مَن أَراكُم سَبيلَ الـهَرَبِ مِنَ الغَضَبِ الآتي؟ فأَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم”  الإنجيل: (لوقا 3/ 7- 14 ) وكان يقول أن المسيح يستمتع بهذا التهديد والوعيد.

إذن فأصل الشبهة مسيحي، وانتقلت عند بعض المسلمين العلمانيين فصارت موضعا للتهمة والتساؤل. ولكن هل يمكن أن نستورد هذا الإشكال من المسيحية والإنجيل ونلبسه القرآن؟

إن فهم الآيات التي تتحدث عن العذاب يحتاج إلى فهم تأصيلي لمنطق القرآن، ومن الطبيعي أنه عندما يتحدث أي شخص فإنه لا يرضى أن يفسر أحد كلامه إلا بمنطقه، ويفهم منه مراده وما يعنيه.  يقول الشيخ الجوادي: إن جهنم ليست كما في أذهاننا! الأصل في القرآن أنه توجد رحمة عقلية عامة يدركها العقل، لا تشوبها أمور نفسانية وهي شاملة لكل شيء ولكل أحد. هذه الرحمة وسعت كل شيء لا يقابلها غضب ولا عذاب. نقول في دعاء كميل: “اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء”  هذه الرحمة يمكن أن تسأل الله سبحانه وتعالى بها لأنها لا تفوتك، فوجودك بُعد من أبعاد هذه الرحم . هذه الرحمة لا يقابلها غضب.

  عندما ننظر لله سبحانه وتعالى على أنه المحور لكل شيء سوف نرى أن رحمته وسعت كل شيء وأن نور الله سبحانه وتعالى أشرق على كل شيء، وعندما ننزل من هذا المقام النفساني المقام الذي فيه رضا وغضب وفيه نفس الإنسان – نفس الإنسان التي فيها استقامة وانحراف ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ الشمس/ 8 فيها خليط طبيعة وشهوات وفطرة  لا تتناسب مع عالم النور- كيف لنا أن نجعل النفس متطابقة مع هذا العالم النوري الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وكيف لا تخرج عن هذا الصراط؟ لاشك أن أفضل سبيل لمعالجة الإنسان هنا إنذاره وردعه. فالردع ليس معناه العذاب، القرآن يستخدم كلمة ويل لردع الإنسان حتى لا يقع في المعاصي. والردع  في الواقع من أنجح الطرق للتربية، وقد استخدمه الشارع المقدس، فلولا أن الشرع يقول لنا من اغتاب اغتيب، من كشف عورات الناس انكشفت عورته هل يمكن أن نرتدع عن كشف عورات الآخرين وعن اغتيابهم؟ إذا لم يقل لنا أن الذي يطفف في الموازين لا بد أن يستحق بقاءه في قعر جهنم، فما الذي يمنع عامة الناس من التطفيف؟!

إذن، إذا بحثنا الآيات والروايات التي تتكلم عن الويل والعذاب سنرى أنها من جهة عقلية تفيد استحقاق العذاب، ومن يقوم بهذا الفعل فقد هيأ جهنم وأعدها، ثم إنه في البحث الفقهي يقال أن المعصية إنما تكون قبيحة ويستحق عليها الإنسان العقاب إذا كان متجريا، أما إذا كان لا يعرف أن هذه معصية ولم يقصدها فهو من جهة عقلية لا يستحق العقاب.

بعد هذا لنرى هل أن هذا الإشكال الذي يطرحه  البعض على تلك النصوص المقدسة، هل يمكن أن يُشكل به على القرآن أيضا؟

فرق بين البحث في الاعتباريات والفقه وبين البحث في القرآن. القرآن ليس كتاب فقه فقط، القرآن كتاب عرفان وفقه وأخلاق، في الفقه يقسمون الذنوب إلى صغيرة وكبيرة لكن في القرآن لا نرى هذا التقسيم الاعتباري، معيار الصغيرة والكبيرة في القرآن بمقدار قصد التجرّي وهتك حرمة المولى. الذي يقوم بفعل قاصدًا عامدًا مريدًا أن يهتك حرمة الله سبحانه وتعالى لاشك أن هذا الإنسان عقلا يستحق جهنم ويستحق التهديد

هل تصلح آيات العذاب لكل أحد؟

هناك إشكالية أخرى نسمعها في بعض الأوسا : هل يصح أن نقرأ آيات العذاب على كل أحد؟ البعض يقول أن الأطفال – مثلا – ليسوا معنيين بهذه الآيات لأن الطفل ليس مكلفا وليس مخاطبا في القرآن.

والجواب هنا: يستحب تعليم القرآن لكل مسلم بشكل مطلق، فلم يرد عندنا استثناءات. نعم، إذا استطاع الإنسان أن يُعلم الطفل أولًا منطق القرآن ثم في ظلها يفسر بقية الآيات فهذا أسلوب تعليمي صحيح ومقبول وربما يكون هو الأجدر.

 وإلا فنحن سننتهي إلى ما انتهى إليه أولئك الأوروبيين ونرى الآيات إنما تصبح مقبولة بقدر ما تتكلم عن مصلحة الإنسان!

الحقيقة أن هذه الاتجاهات ما هي إلا نظريات ليست دائمة وربما تتغير يوما ما، فلا يمكن أن نحاكم القرآن على أساسها. في هذه المرحلة من عمر البشرية نرى الإنسان محورا وأساسا، من يدري ماهي الأطروحات القادمة والفلسفات المستقبلية التي ستحتم علينا قراءة مختلفة للقرآن أيضا؟!!!

إذن الآيات التي تتكلم عن الويل وعن تأديب الله سبحانه وتعالى هي آيات ردعية بالدرجة الأولى، ولا يوجد إنسان يستغني عن الردع لا يوجد إنسان ليس لديه نقطة ضعف يجب أن يردع عنها الا المعصوم، وإلا فالإنسان بحاجة  دائمة إلى هذا الرادع و بحاجة  دائمة إلى هذا الإرشاد والتعليم الإلهي.

 وصلى الله على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.


1- فريدريك نيتشه فيلسوف ألماني1844-1900م

2- برتراند آرثر راسل فيلسوف بريطاني  1827- 1970 م

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 114٬523 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها