الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
ذكرنا في الجلسة السابقة أن سورة الواقعة تحكي عن المنطلق والباعث العلمي الأول بالنسبة للإنسان وهو طلب معرفة الواقع.
وذكرنا أن معرفة الواقع هي الخطوة الأولى في المنهج العرفاني يتبعها الهجرة والمسارعة ثم المسابقة، إلى أن يصل الإنسان إلى مرحلة الإمامة وتطهير الناس والأرض، وإلى الولاية التامة الإلهية المطلقة.
والواقعة أيضًا فيها جانب خاص، فلا يسمي كل أمر يقع واقعة، الواقعة الأمور التي تحدث تغيرات وتوازنات أساسية، و لذلك نعبّر عن بعض الحروب بـ (واقعة الجمل، واقعة صفين، واقعة خيبر) لأنها أسست وغيرت في موازين الحق والباطل.
عندما تحدث هذه الواقعة تختلّ الموازين السياسية والعسكرية والاجتماعية، وتتغير موازين القوى والنصر والهزيمة وهذه لها تأثيرات أساسية في تحديد اصطفافات الناس ولذلك نسميها بالواقعة.
وصلنا إلى قوله تعالى: ﴿ ليس لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ لهذه الآية معنيان:
المعنى الأول: كاذبة اسم فاعل من كذَبَ. فإذا كان يوم القيامة وانكشفت الواقعة ورأى الإنسان الواقع؛ فلا يوجد في ذلك اليوم مكذّب، لأن ظرف يوم القيامة غير قابل لأن يكذب فيه أحد، فكل الواقع منكشف له.
وإنما يمكن للإنسان أن يكذب إذا لم يكن هناك انكشاف للواقع والحقيقة، حينها يكون هناك مجال للإغراء والتكذيب كما في عالم الدنيا.
ونحن نعلم أن هناك حالات وموارد يجوز فيها الكذب فقهيا، إذا كان هناك مصلحة، كدفع الضرر عن النفس أوعن المؤمن، والإصلاح بين المؤمنين ولكن لهذا الحكم شرط مهم وهو أن يصدقك الآخر، وأما إذا كنت تعلم أنه لن يصدّقك فالكذب غير جائز.
إذن ( ليس لوقعتها كاذبة ) تشبه قوله تعالى ﴿ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ آل عمران/ 9 أي ليس قابلًا للارتياب، ولا يمكن للإنسان أن يكذب بما يقع في يوم القيامة.(1)
نعم، ربما نلاحظ أن القرآن يتكلم عن أناس يكذبون يوم القيامة، ﴿ قَالُوَ واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ الانعام/ 23 لا لأن الظرف يوم القيامة يساعدهم على الكذب أو أن النشأة تتحمل كذب؛ بل لأنه رسخت فيهم ملكة الكذب وأصبح الكذب سجية من سجاياهم وشواكلهم، ولذلك يقول الله سبحانه ﴿ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِم ﴾ الأنعام/ 27 ففي يوم القيامة تنكشف لهم حقيقة الربوبية وأنهم لا يستحقون الطاعة والانقياد، ومن كان يكذب في الدنيا سوف يكذب في الآخرة.
المعنى الثاني: هذا المعنى لا يتحدث عن ظرف يوم القيامة، وإنما يتحدث عن حقيقة علمية مفادها: أن التكذيب بالشيء أو التصديق به دائمًا يحتاج إلى دليل وبرهان، فإذا كذّب الإنسان شيئًا معينًا لأنه لا يوجد عنده دليل عليه، لا يمكن أن يتعلق به الكذب.
الواقعة/ القيامة جزء كبير منها غيب، وليس مكشوفًا إلا عند من كشف لهم بإذنه سبحانه، فالقيامة ليست مسألة عقلية لتعالج بالدليل والبرهان، بل هي انكشاف حقائق، مثل قوله جل وعلا ﴿ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ﴾ النجم/ 12 فرسول الله (ص) منكشف له الواقع ويرى هذه الحقائق، أنتم الذين لا ترون.
ولأن الواقعة انكشاف للواقع لذا لا يمكن تكذيبها. نعم، يمكن للإنسان أن يشكّك في لوازم يوم القيامة، كأن يسأل عن سبب خلود أهل النار والجنة، وهذه شبهات يجاب عليها بحلول عقلية، لكن أصل يوم القيامة لا يمكن تكذيبه بالدليل والبرهان – كما قلنا – والواقعة كشف وشهود للواقع.
قوله تعالى: ﴿ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ﴾
لماذا لم يقل رافعة خافضة؟ أليست النتيجة واحدة؟
هناك نكتة أساسية وهي أنه في يوم القيامة يحدث هناك بروز وظهور للواقعيات، فيتبين للإنسان أن كثيرًا من الأمور التي كان يبدو أن لها قوة وإمكانية واقتدار وجبروت ووقار؛ تسقط قشورها وتنخفض، ولا تبقى وترتفع إلا الواقعيات.(2) وهذا يعود لنكتة أساسية، وهي أنه في دار الدنيا الظاهر هو الحاكم، أما في دار الآخرة فالباطن هو الحاكم، لذا لا يظهر في اليوم الآخر إلا الواقعيات. وعدم رؤيتنا في هذه الدار للواقعيات – كما يقول صدر المتألهين – أما لقوة الواقع والأمور الواقعية ونورانيتها والناس تعيش الظلمة فلا يرونها، أو لأن الناظر لها على عينيه غبار ووحل، وعندما يزول الغبار وتنخفض هذه الأوحال يظهر الواقع.
في عالم الدنيا يخفي الناس باطنهم في كثير من الأحيان لأن هذا العالم يمكن للإنسان أن يكذب فيه، ويُظهر غير ما يبطن. فمثلا، يُظهر البعض نوعًا من الثقل والوقار والاتزان الشديد في شخصياتهم، ولكن هذا الوقار الظاهر هو في باطنهم نوع من الغرور والتكبر، وليس من الوقار في شيء، فقد كان رسول الله (ص) وقورًا وله هيبة ولكن بلا سلطان.
في عالم الواقعة عندما تسقط الظواهر يحصل انخفاض وارتفاع واقعي، فيرتفع ذلك الذي كان في عالم الدنيا ضعيفا، ليبدو أنه كان الصبور الحليم الذي كان صبره يجعلنا نشعر أنه إنسان نكِرة، فكثير من الناس لأنه ليس عندهم إمكانيات مالية أو اجتماعية أو وجاهة فهم لا يبرزون في المجتمع كغيرهم، لكنهم في الواقع حكماء علماء عرفاء وأعلم من غيرهم، ويظهر باطنهم وواقعهم حين يسقط هؤلاء المدعون للعلم وللحكمة. فالواقعة خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ لأنها مطابقة تمامًا للواقع على نحو تام.
قوله تعالى ﴿ وكنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً* فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ* وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴾
من شأن الإنسان – كما يسأل عن واقعه – أن يسأل عن مستقبله، والقرآن يصنف ويقسم الناس إلى أصناف مختلفة بناء على اختلاف المَقسم. فتارة يقسم الناس إلى ثلاثة أصناف وأخرى إلى خمسة أصناف، ففي سورة التوبة – مثلا – يصنف القرآن الناس باعتبار القرب والبعد من الولاية، فأصل المقَسم وملاكه هو الموقف والوعي السياسي من الولاية.
سورة التوبة هي آخر سورة نزلت على رسول الله (ص)، و في الروايات تسمى بالفاضحة، وفي الخطبة الفدكية شرح مفصل وتطبيقي لسورة التوبة، ففيها كشف وبيان للاصطفافات السياسية قبال الحكومة الإسلامية وولاية أمير المؤمنين(ع)، وقد قسّم القرآن الناس في سورة التوبة إلى خمسة أصناف:
الصنف الأول: السابقون ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ ﴾ التوبة/ 100 وهم الذين لا يتخلفون عن الولاية، فهم مع الولي من أول الأمر، وبقوا ثابتين على ولايتهم مع تغير الأحداث. هم سابقون في تفكيرهم وصدقهم وايمانهم وولايتهم.
الصنف الثاني: التابعون بإحسان ﴿ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ﴾ التوبة/ 100 هؤلاء ليسوا سابقين لتشخيص الحق، بل تابعون لمن سبق.
الصنف الثالث: المنافقون ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ﴾ التوبة /101 نحن نعلمهم ليس معناه أن رسول الله (ص) لا يعلمهم فالله سبحانه يقول: ﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾ محمد/30 بل ليسوا منكشفين للناس.
الصنف الرابع: الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ التوبة/102 هؤلاء لا ينافقون مثل غيرهم، بل اعترفوا بذنوبهم ليس بألسنتهم؛ بل بفعلهم إذ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
الصنف الخامس: المرجون لأمر الله ﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ التوبة/ 106
أما في سورة الواقعة فيصنف الناس إلى ثلاثة أصناف باعتبار القرب والبعد من الواقع والحقيقة الوجودية، أصل المقَسم مدى قربهم وسبقهم وتماسهم مع الحقيقة، والأصناف هي:
١- السابقون
٢- أصحاب اليمين
٣- أصحاب الشمال (المشأمة)
لماذا التعبير بأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة؟
يتبادر إلى الذهن أن أصحاب الميمنة هم أصحاب اليمن والبركة.(3) لكن العرفاء والفلاسفة يقولون أنه في يوم القيامة لا يوجد هناك يمين وشمال كما نفهمه، بل شمال ويمين بالنسبة للحقيقة والواقع. فهم يقسمون العالم والوجود إلى العالم العلوي والعالم السفلي، وفي المرتبة الأولى الأعلى يكون السابقون، ثم تليها مرتبة أصحاب اليمين، أما المرتبة المتدنية في الوجود فهي مرتبة أصحاب الشمال، أو أصحاب المشأمة بالتعبير القرآني.
حقيقة الشؤم والتشاؤم في القرآن
في سورة يس يتكلم الله سبحانه عمن بعثهم لأقوام معينين ثم لم يقبلوا بالأمر ﴿ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ يس/ 19 تطيرنا أي تشاءمنا فكان جواب الرسل لهم ﴿ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ﴾ أي شؤمكم معكم، شمالكم معكم.
أصحاب المشأمة عادة يتشاءمون من الأنبياء، يقولون إنا تطيرنا بكم أي تشاءمنا منكم، كما هو حال بني إسرائيل إذ يحكي عنهم القرآن: ﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ ﴾ الأعراف /131. لكن القرآن يريد أن يقول إن هذا منطق غير حقيقي وغير صحيح، فلا يوجد تشاؤم من الأشياء الخارجية. الشؤم في الحقيقة نفس ذات الإنسان.
فالجامع بين أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة هو شؤمهم الذاتي، ولهذا كان أصحاب الشمال دائمًا في حالة اقتراب من أسباب الشؤم والنفور والعصبية والذاتية والأنانية والانفعال، ولذلك من الطبيعي أن طائرهم سيرافقهم سواء كانوا في هذا العالم أو عالمهم الآخر.
أما أصحاب اليمين فهم القريبون من الواقع والحقائق، لأنهم أساسًا يبحثون عن الواقع، ويسارعون ويسابقون إليه إذا عرفوه.
تأتي تتمة الحديث وصل الله على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين والحمد لله رب العالمين.
1- يضرب أستاذنا الشيخ جوادي آملي مثالا لتوضيح هذه الآية فيقول: عندما ندخل مكتبة ونبحث عن كتاب معين، ولنقل أنه نهج البلاغة، وهذه المكتبة فيها كتب كثيرة، فتقع عيننا على كتاب ما، فنقول ربما هذا هو الكتاب الذي نبحث عنه، فنشك ونرتاب. لكن إذا لم يوجد في المكتبة إلا كتابًا واحدًا لا يوجد فيها إلا نهج البلاغة فحتى لو عيننا لم تقع على هذا الكتاب نحن نقطع أن هذا الكتاب هو نهج البلاغة فلا نرتاب ولا نشك.
2-عند مجيئ السيد الإمام وسقوط الشاه كان الإيرانيون يرددون بيتا فارسيا معناه “اذا خرج الشيطان جاءت الملائكة” فالإمام كان قائدا حقا من الأساس، لكن مع وجود المعارضين، ومع جود القوى العالمية ،ومع وجود الشاه لم يكن هذا الاقتدار واضحا ، فكان لابد من خروج الشاة وانخفاض الشر ليرتفع الحق .
3- نشأ مفهوم اليمين واليسار الفلسفي على يد الفيلسوف هيجل، وأصل المصطلح السياسي نشأ بسبب جلوس أعضاء البرلمان في فترة الثورة الفرنسية حيث كان يجلس في اليمين المؤيدون للملكية الارستقراطية والمعارضون يساره. فعرف اليمينيون سياسيا بالموالين للحكومة واليساريون بالمعارضين.
0 تعليق