إن مناسبة زواج النورين(1) (علي وفاطمة عليهما السلام) لها خصوصية باعتبار أن نظام الزواج في هذا الكون شامل لكل شيء حيّ، فكل ما له حصة من الوجود لا يستمر ولا يمتد وجوده إلا بسبب التناكح والتناسل و الزواج . يقول تعالى: ﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ هود 49 وقد جاء هذا المعنى في القرآن في أكثر من مورد وبأكثر من كيفية. وفي قوله: (و لعلكم تذكرون ) إشارة إلى أن هذا التذكر هو هداية إلى نحو خلقة الله وكمال تدبيره سبحانه لبقاء واستمرار هذا الكون.
نحن نعتقد أن الزواج – في عالم الإنسان – له أبعاد لا توجد في سائر الموجودات فالإنسان يمتاز بأن هذه العلقة وهذا الارتباط يقوم على أصول معينة، وقد جعل له الإسلام أبعاد واسعة جداً لأن الإسلام كما أنه جاء لكي يبني سعادة الإنسان في عالم الآخرة، فهو لم يهمل أبداً بناء سعادة الإنسان في حياته الدنيا؛ بل يكادان يكونان متشابكين و متداخلين، فبقدر ما يستطيع الإنسان الاستفادة من السعادة الواقعية في هذه الحياة الدنيا سوف يسعد في الآخرة أيضاً، وبقدر ما يبني حياته الدنيوية بناءً صحيحاً وعلى أصول صحيحة؛ فستكون آخرته كذلك. ورد عن رسول الله (ص) ” كما تعيشون تموتون و كما تموتون تبعثون وكما تبعثون تحشرون “ (2) وروي عن أمير المؤمنين (ع) “من لا معاش له لا معاد له “ (3) فالذي لا يعرف كيف يعيش سوف لا يعرف كيف يبعث أيضاً، ويعضد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ﴾ الانشقاق 19 أي أننا لن نكون في الطبقة العليا بعد هذا العالم إلا بما يطابق تماماً ما قمنا به و ما عملناه و ما أسسناه وما بنيناه بوعي وبإرادة وباختيار في هذه الدنيا.
موضوعنا بعنوان ملء الكأس، وهو معنى كنائي مستفاد من الرواية الواردة عن كلا الفريقين عن رسول الله (ص): “من تزوج فقد أحرز نصف دينه” (4) وفي رواية ثانية فقد أحرز ثلثي دينه.
مامعنى إحراز نصف الدين بالزواج ؟
يولد الإنسان على الفطرة، و يستفيد سلوكياته وأفعاله وأقواله وعقائده من والديه و من محيطه، ثم يصل الإنسان في إدراكه إلى البحث والتعرف على دينه، بغض النظر عن ماهية ذلك الدين، فلا بد للإنسان في مرحلة ما أن يبحث عن الدين الذي يدين به سواء دان بوجود الله أو لم يدن بذلك، فلا يمكن للإنسان أن يعيش بلا دين، لأن الإنسان بالأصل متدين حتى الكافر، يقول تعالى: ﴿ قلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ *وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ…. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ الكافرون فالدين ليس مقتصراً على الاعتقاد بوحدانية الله سبحانه و بالآخرة و بالنبوات. الدين بالمعنى العام هو ما يتبناه الإنسان من معتقدات وهو الأسلوب الذي يفهم به الحياة. والدخول في تفصيل هذه المسألة فلسفياً ليس في مورد حديثنا.
لكن الآن فلنتكلم عن الدين الحق ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ آل عمران 19 ونبين معنى احراز نصف الدين بالزواج:
نعلم بأن الإنسان يعيش مراحل عديدة في حياته ولنفترض تسمية مرحلتين منها بمرحلتي البلوغ. البلوغ الأول: ولنسمّه (البلوغ غير الاختياري) فالإنسان يبدأ بالتدريج باستشعار أسئلة أساسية وفطرية من محيطه ومما حوله، كسؤال: لماذا خلقت؟ ماهي علاقتي بهذين الابوين؟ بهذه الاسرة؟ بهذا المجتمع؟ ماهي حقوقي؟ ما هي واجباتي مثلا ؟…. الخ، وهنا يأتي الإسلام ليجعل الإنسان يقرأ نفسه وما حوله، فأنت ترى حولك ماء – مثلا – ويأتي الإسلام ليعلمك بأي قدر تستطيع الاستفادة من الماء، وتكون استفادتك حينئذ حقك ولك ومن شأنك، فيحرم على الآخرين أن يمنعوك حقك، في الشرب والوضوء والغسل، ولا يجوز لأحد أن يمنعك حقك هذا، كما لا يجوز لك أن تسرف وتأخذ أكثر من حقك. إذاً وضع لك الإسلام الحلال والحرام فيما يخص الماء من خلال الفقه، فالفقه ليس شيئاً خارجاً عن الكون المحيط بك، وهو يخدمك في طريقة تعاطيك مع كل ماحولك… بيتك أصدقاؤك سيارتك أرحامك، فيعلمك كيف تصلهم وكيف ترتبط بهم ولماذا ترتبط بهم ومتى يجب الارتباط بهم ومتى يجب قطع العلاقة معهم، متى يجوز مدحهم ومتى يجوز ذمهم، بل حتى علاقتك بنفسك، متى يجوزأن تمدح نفسك ومتى يجوز أن تذم نفسك أيضاً، فالإسلام يتدخل في كل ذلك ويقول ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ﴾ النجم 32 فالفقه واسع جداً لأنه ينتزع من الواقع لبناء ذلك الواقع بناءً صحيحاً. وإذا قيل لنا إن الأنبياء يبعثون بالفقه فهو بمعنى أنهم يقرؤون لنا هذا الواقع ويعينوننا على فهمه. وكذلك العقيدة التي تتعلق بوجود الله ووحدانيته و أسمائه وصفاته، هي أيضاً لم تأت من شيء خارج هذا الحق و الواقع، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد الحق وهو الذي أنزل دينه بالحق لكي يدرك الإنسان هذا الحق الذي قطع الله وأكد بأنه سوف ينتصر لا محالة في الدنيا و الآخرة. وفي الدين أيضا أخلاق، و البلوغ الذي تحدثنا عنه هو ما يجعل الإنسان يلتفت لكل هذه القيم. إذاً كلما كان الإنسان أكثر بلوغاً ورشداً ووعياً كان أكثر التزاماً بالفقه والأخلاق والعقيدة، و لتقريب هذا المعنى، وليتلاءم مع العنوان الكنائي المنتخب للبحث لنفترض أن استعداد الإنسان كأس كلما تعبّأ بمقدار أكثر من الفقه والعقيدة والخلق سوف يصبح الإنسان أكثر تديناً والتزاما بالدين. وعندما نريد أن نربي الإنسان في سن البلوغ فنحن نسعى إلى أن نملأ نصف كأس الإنسان بالعقيدة والخلق والفقه فنرفع شعوره و إحساسه و إدراكه وعلمه ليتعبّأ نصف الكأس. أما النصف الآخر فيتعبأ بالزواج، وعندما يقول لنا الإسلام أن من تزوج فقد أحرز نصف دينه فلأن استعدادات الإنسان أوسع من تعاطيه الشخصي وكماله الشخصي، الإسلام يقول لك أنت لست مسؤولاً عن نفسك فقط ﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ التحريم 6 أي أن مسؤوليتك ليست نفسك فهي نصف فقط، مسؤوليتك هي النصف الثاني من الكأس، و هو ماسنصطلح على تسميته بالبلوغ الآخر. وتتميزهذه المرحلة من البلوغ في حياة الإنسان بزيادة الرشد والفهم والمعرفة والميل للروحانيات كالدعاء والزيارة، و للأخلاقيات، وهذا هو ما يتبلور بالزواج. لا أريد أن أقول إن إكمال هذا النصف مقتصر على الزواج بل إن الاحتكاك بالآخرين هو ما يساعد الإنسان في هذه المرحلة، والزواج من أكثر العلاقات التي يحدث فيها احتكاك بالآخر لذا فالإنصاف فيه أصعب، ومجاهدة الذاتية والانانية والسبعية فيه تحتاج إلى جهد روحي أكثر، لذلك يصبح التدين فيه أقوى، وإذا كان الإنسان يستطيع أن يزكي نفسه ويزكي من هم حوله، ويتكامل روحياً وعقائدياً وعلمياً ويؤثر على من حوله فهو يحرز جانب التدين والطاعة أكثر(5)
وكلما تدين الإنسان أكثر اهتم بجانب التأدّب أكثر. نحن في كثير من الأحيان نعطي الآداب بعداً ثانويا، والحال أنها مسائل مهمة جداً بالذات في ما يخص العلاقة الزوجية. فاللباقة و الظرافة و إدارة الفكرة و إدارة التأثير على الطرف الآخر لها أثر كبير في سلامة العلاقة، وبها يستطيع الإنسان أن يكون كالماء الرقراق الذي يعالج جفاف الأرض فيعالج جفاف الروح، ورد في الرواية عن مولانا الصادق “ما من إمرأة تسقي زوجها شربة من ماء إلا كان لها خير من عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها” (6) ومن الطبيعي أن المرأة تفعل أكثر من ذلك لكن للماء نوع من الرقة و اللطافة و الظرافة، وله خاصية الإرواء. وعلينا أن نشير أن الكلام في هذه الرواية وأمثالها موجّه للرجل ايضاً، لكن الروايات تتكلم عن المرأة دائماً باعتبارها الموضوع الموجود في الخارج أكثر- كما يعبّر الأصوليون – فهي المتواجدة في البيت عادة، والرجل هو من يدخل البيت متعباً ومرهقاً وبحاجة الى الراحة، وإلا فالرواية تجري على الرجل كما تجري على المرأة. هذا على مستوى التعامل المادي، وإذا التفتنا إلى التعامل المعنوي وجدنا أنه يحتاج إلى ظرافة أكثر. فلسان الأمر و النهي و التوجيه والعتب مثلاً من المرأة سيء و من الرجل أسوأ والروايات في ذلك كثيرة، لأن المرأة كائن أضعف من الرجل نفسياً و العتاب يترك في نفسها جرحاً غائراً بخلاف الرجل، فمن السهل للرجل أن يعاتَب و يذهب للنوم، بينما لو تعاتَب المرأة فهو لا يؤثر عليها نفسياً فقط بل يؤثر على قدرتها على إدارة بيتها وأولادها.
وعوداً على معنى إحراز نصف الدين، وملء الكأس، نقول: إن اكتمال البلوغ الثاني بعد البلوغ الأول يحقق تعادل الانسان، وحين يتمّ نصفيه يكون متكاملاً وغير مشوه كما يمشي برجلين وينظر بعينين.
أكثر مشاكلنا نابعة من عدم مراعاة الآداب
وهنا أود أن ألفت إلى أنه بالرغم من كون الناس تهتم بمعالجة مشاكلها بالفقه، إلا أن أكثر مشاكلنا تأتي من عدم الالتزام بالآداب، وهو سبب لأن يفقد الإنسان نصف كأسه الممتلئ في مرحلة البلوغ الأول. ولأتحدث بأمثلة لتتضح الصورة: نجد الشاب – مثلا – يحاسَب من قبل أسرته إذا تأخر في العودة إلى البيت أو شاهد التلفزيون لساعات طويلة أو ما شاكل، لكنه بعد الزواج يسهر خارج المنزل لوقت متأخر، ويشاهد التلفاز بلا حساب. وكذلك الفتاة التي تصرّ الأسرة على تعليمها الحياء والأدب والصوت الهادئ وتحرص أن لا تخرج إلا برفقة أحد من ذويها، ثم نراها بعد الزواج تتخلى سلوكياً وبحضور الزوج عن تلك الصيانة والحصانة التي عاشتها في بيت أهلها فكأنها خرجت من سجن الأهل إلى عالم خالٍ من القانون والانضباط. هذا ما عنيته بفقدان الجزء الممتلئ من الكأس، مشكلتنا في تبخر النصف الأول من الكأس الممتلىء بما عبأه البيت والأبوان من آداب وقيم، وما يفقده الإنسان في هذه الحالة – للأسف – ليس القطرات التي جمعها في كأسه؛ بل ما ينقص هو سعة كأسه وإحساسه بالمسؤولية، وبهذا أصبح من تزوج عندنا فقد خسر النصف الأول الذي تأسس عليه! لأضرب مثالاً ثانيا: نحن مجتمع حساس من الغيبة، لكن بمجرد أن تتزوج الفتاة تصبح أم زوجها وأخت زوجها ومن تختلف معهم بلا حرمة وتتسع مستثنيات الغيبة! و الأشد من ذلك أن تكون مبررات المتزوجة في ترك حضور مجالس أهل البيت (ع) أو مجالس العلم أكثر، والحال أن الزواج من المفترض أن يضاعف الشعور بالمسؤولية ويساهم في الإعانة على طلب العلم وحضور مجالس الذكر، إذ أن تلك المتزوجة تكون مسؤولة من قبل وليّ أمر وهو الزوج واحد لا متعدد كالأب والإخوة كما كانت قبل الزواج مما يسهل عليها الكثير. من هنا اتضح معنى أن الزواج إكمال لنصف الدين، والدين هنا بمعنى كمال البلوغ وكمال الإحساس وكمال المشاعر وكمال المعتقد وكمال الإرادة وكمال التخطيط وكمال إصلاح المعيشة وإصلاح الدنيا والآخرة.
آداب أساسية في الحياة الزوجية
1- الاستقامة في اللسان: اللسان هو رابط للتواصل بينك وبين الاخرين. ومن المهم الحفاظ على أدب اللسان والتفنن في طيب القول ولينه. فقد مدح الله نبيه بقوله ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ ﴾ آل عمران 159
2- التضحية: وهي مسألة مهمة جداً، فالناس ماهرون في تبرير أخطائهم، لكنهم ليسوا كذلك في التضحية. والحال أن أكثر ما يؤجر الإنسان عليه هو التضحية لذوي الرحم والمقربين، وهذه التضحية إن ضاعت عند الناس فهي لا تضيع عند الله سبحانه وتعالى أبدا.
3- النهي عن تزكية النفس: إن تزكية النفس في الحياة الزوجية مطبة خطيرة وحفرة يمكن أن يقع فيها كلا الزوجين، وتنهدم فيها الأخلاق وتصبح سبباً للخلل وفقد الدين. هذه التزكية للنفس تجعل الإنسان وإن عمل من البداية على نحو الطاعة والتقرب إلا أن أعماله تلك تتحول بمجرد أن تحين فرصة إلى منّة يمنّ بها على الآخرين، وهذا أكبر مايهدم الألفة الأسرية.
بهذه المناسبة لنتأمل في حياة الصديقة الزهراء وأمير المؤمنين (عليهما السلام)، لقد مدح الأمير الزهراء (ع) لدرجة أنه ذكر ذلك في الرسائل السياسية الكبيرة في أثناء الحروب، وكذلك لم يمدح أحد الأمير (ع) كما فعلت الزهراء (ع ). ولا شك أنهما لا يريدان بذلك تزكية أنفسهما بل كان هدفهما إثبات الحق والاعتراف به، و هذه قيمة أخلاقية عالية، فأن تمدح أهل الفضيلة فضيلة، و أن تعترف لأهل الحق بالحق فضيلة، وأن تبخس الناس حقوقهم وأن تبخس من تعيش معه حقه فهذا ظلم، وهو من أشد الآثام التي لا يغفرها الله، ونحن لا نلتفت أننا نمارس الظلم آناً آناً بإنكار فضائل الآخرين.
إذا هذه النقاط الثلاث هي النقاط التي يمكن أن نتعلمها من تعبئة مابقي عندنا من الكأس / الدين بعد الزواج، فمن تزوج فتح لنفسه طريقاً لأن يكتسب فضائل ومعارف أكثر وتزكية وتطهيراً أكثر، وملكات وأخلاقيات أكثر، وقدرة أكبر على احتواء الآخرين.
1- زواج النورين 1438هـ
2- السيرة الحلبية ج1 ص272
3- غرر الحكم
4- الكافي – من لا يحضره الفقيه
5-المعنى المراد من التزكية هنا هو المعنى الإيجابي في التعاطي مع النفس بمعنى إصلاحها وتطهيرها ومجاهدتها بخلاف ماذكر من تزكية النفس المنهي عنها وهي بمعنى امتداحها والرضا عن كل مايصدر منها.
6- وسائل الشيعة
0 تعليق