نقل الفريقان عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله أنه لَمّا حَضَرَ شَهر رمضان قال: (سُبحانَ اللّهِ ! ماذا تَستَقبِلُونَ؟! وماذا يَستَقبِلُكُم؟! قالَها ثلاثَ مَرّاتٍ)(1)، وأضافت رواية العامة: فقال عمر بن الخطاب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وحي نزل أو عدوّ حضر؟ قال: (لا ولكن شهر رمضان يغفر الله في أول ليلة لكل أهل هذه القبلة). *
ماذا يستقبلنا في شهر رمضان؟
حديثنا بعنوان (ماذا نستقبل وماذا يستقبلنا ؟!)، وسنبدأ ببيان القسم الثاني منه (ماذا يستقبلنا ؟) وهي مقتطفة من قول النبي صلى الله عليه وآله: (وماذا يستقبلكم ؟!)
استقبلَ على وزن (استفعل)، وهي تختلف عن معنى أقبل بمعنى جاء وقدم، لأنها مزيدة (فعل سداسي) ففيها إضافة على معنى الإقبال. فاستقبل تعني: لقيه بوجهه مرحبا به، ففي الاستقبال بالإضافة لمعنى الإقبال الإرادة والطلب والاهتمام لهذا المستَقبل، كما أن فيه أيضا العناية، فهو ليس لقاءاً عبثيا وصدفتيا كما اللقاءات التي لاتعتمد نظاما ومقصودا. فمثلا القرآن حينما يحدثنا عن المنافقين يقول: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14] أي أن اجتماعهم مع المؤمنين غير منظم وصدفتي، أما لقاؤهم وعلاقاتهم بشياطينهم فهي لقاءات مدروسة حيث عبّر عنها بالخلوات.
إذن فالاستقبال الحاصل لنا في هذا الشهر هو من العظمة بحيث استحق التعظيم والتكرار والتسبيح من رسول الله صلى الله عليه وآله.
وإذا أرجعنا هذا الوابل الممطر من الرحمة في شهر رمضان لأصوله القرآنية سنراه يتوافق مع الهدف النهائي للخلقة. فالقرآن يؤكد أن الهدف الغائي للخلقة هو نيل هذه الرحمة الواسعة التي لا يستثنى منها إلا الآبق. يقول تعالى: ﴿لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود 118 – 119]. فالهدف الأولي والأصيل من خلق الناس هو الرحمة، ومن سقط عن ذلك فسقوطه بالعرض. ونلاحظ أن في الآية نكات أساسية:
-
الهدف الأولي من الخلقة هو الرحمة، وهذا الهدف يمرّر من بين يديّ الإنسان وليس من فوق رأسه.
-
أن الاختلاف نوعان:
-
اختلاف ممدوح:
وهو ما يقوم عليه نظام الوجود كما يتحدث الله عن الليل والنهار ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: 62] أي أن هذا التعاقب بين الليل والنهار هدف لإصلاح الكون، وهو علاوة على ذلك هدف لإصلاح باطن الإنسان، فقد جاء في الرواية: حدثني أبي عن صالح بن عقبة عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال له رجل: (جعلت فداك يا ابن رسول الله ربما فاتتني صلاة الليل الشهر والشهرين والثلاثة فأقضيها بالنهار أيجوز ذلك؟ قال: قرة عين لك والله، قرة عين لك والله قالها ثلاثا إن الله يقول: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة الآية فهو قضاء صلاة النهار بالليل، وقضاء صلاة الليل بالنهار، وهو من سر آل محمد المكنون)(2) لاحظوا أن الإمام استفاد نكتة لطيفة من اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما، وهي ليست نكتة كلامية بل روحية وأخلاقية، فالسائل يشكو للإمام فوات أجر صلاة الليل وحرمانه من فيضها، والإمام يستشهد بالآية محل حديثنا ليقول له إن هذا سر من أسرار آل محمد. بمعنى أن اختلاف الليل والنهار قد يُفهم بأنه علة لتنظيم العيش وفصول السنة وحياة الأرض – وهذا صحيح – لكن هناك ماهو أهم وهو حياة الروح والقلب وترك الفرصة التعويضية للإنسان ليجبر نقصه الروحي ضمن هذا النظام، ولذا كان هذا النوع من الاختلاف ممدوحا ومكمّلا للإنسان.
كما أن غيره من أنواع الاختلاف التكويني ممدوح أيضا، كاختلاف التربة والأراضي ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد: 4] بل حتى العسل مختلف ﴿يخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ [النحل: 69]، وكذلك مدح اختلاف الناس ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ [الروم: 22] وفي المعادن وكنوز الأرض أيضا، فلو كانت معادن الأرض كلها ذهب فما قيمة الذهب؟!
-
اختلاف مذموم:
ويمكن أن نقول أنه آتٍ من معنى الخَلف، أي وضع الإنسان كلام الحقّ وكلام الآخرين والمصلحين الصادقين خلفه، وهذا سبب لتهديم بنيان الإنسان، وهو ما يحرم الإنسان من الرحمة الإلهية.
وهذا الاختلاف ناتج لكون الإنسان حرّا في إرادته. ولبيان ذلك نقول:
إن علاقة الإنسان بالحرية كعلاقته بوجوده، فالإنسان حر بالضرورة. ولا يمكن للإنسان أن ينزع لباس الحرية عن نفسه وهذا كمال وتكامل للإنسان. ويتبادر هنا سؤال: هل الحرية مسألة نظرية أو عملية؟
الجواب: الحرية ليست من شؤون العقل العملي، وهي ليست كحسن العدل وقبح الظلم، بل هي مسألة فلسفية ضرورية، فمادام الإنسان موجودا فهو حرّ بالضرورة. والإرادة صفة باطنية واقعية لايمكن أن تؤخذ من أحد. والأمر هنا ليس إمكانيا، فليس هناك من يستطيع أن لا يكون حرّاً. وحين نعبّر بأن فلانا مجبر على هذا الفعل فلا نقصد به الجبر التكويني، بل نقصد أنه كان في موقع معين يفرض عليه خيارا معينا فيرجحه على آخر لمصلحة أكبر أو لدفع ضرر أشدّ، كمن يجرّ بالسلاسل وهو يرفض ذلك لكنه يستسلم لأن مقاومته ستعرضه لخسارة أكبر.
لاحظوا قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾ [يونس: 99] ولكنه خلقهم أحراراً، ولم يشأ أن يخلقهم بحيث يكون إيمانهم وفق تكوين إلهي جبريّ. لأنهم لو آمنوا كذلك فلن يكون هذا إيمانا اختياريّا، وبالتالي لن يكون كمالا إنسانياً، هذا سكوت وليس سكونا وطمأنينة.
نحن مستقلون أحرار بالقياس إلى عالم الخلق، فالعالم مسخر لنا، ولكنّنا مجبرون على أن نكون مختارين، ويجب أن نكون عبادا لله باختيارنا. ينقل المحدث القمي عن الأمير (ع) في أدعية رجب قوله: (إلهي كفى بي عزا أن أكون لك عبدا وكفى بي فخرا أن تكون لي رباً) ولا يعتز الإنسان ولا يفخر إلا بما ينتخب ويختار.
بهذه الحركة الحرة يأتي معنى الجزء الأوّل من الرواية: (ماذا تستقبلون ؟!)
كيف نستقبل شهر رمضان؟
نحن نستقبل هذه الرحمة الإلهية في هذا الشهر الكريم ونمسك بها بحريتنا، بل ونحلّ الخلاف الواقعي المذموم باختيارنا.
إن أسوأ ما يمكن أن تستقبل به ضيفك هو أن تغفل عن مقامه، بل تغفل عنه. هذه الغفلة كما في المناجاة الشعبانية ماهي إلا أوساخ (فشكرتك بإدخالي في كرمكولتطهير قلبيمنأوساخ الغفلة عنك من أهم أوساخ الغفلة الخلافات، والمقاطعات، والإدبار عن المؤمنين، والتباغض والتباعد فيما بينهم. لاحظوا هذه الروايات عن أبي عبدالله عليه السلام: (صدقة يحبها الله إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا)(3)
وعن رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله: (ألا اُخبِرُكم بِأفضلَ مِن دَرَجَةِ الصِّيامِ و الصَّلاةِ و الصَّدَقةِ ؟ إصلاحُ ذاتِ البَينِ؛ فإنّ فسادَ ذاتِ البَينِ هِي الحالِقةُ)(4)
حين نقول: (صدقة) فأذهاننا تنصرف مباشرة إلى الأمور المالية، والحال أن هناك صدقة اجتماعية مهمة وهي تقريب القلوب المتباعدة المختلفة، التي تؤدي إلى أن يلقي كل واحد الآخر خلاف ظهره، هذه الصدقة لاتحتاج لاجتهاد علمي، بل تحتاج لاجتهاد عملي.
قد يكون الاختلاف في الاجتهاد العلميّ مبرَّرا بألف تبرير، لأن كل مجتهد يذهب إلى ما يبدو له من الدليل الشرعي، إلا أنّ الاختلاف العمليّ له خسائر كبيرة على المستوى الروحي للمجتمع، وإذا لم يوجد مجتهدون – يزيلون هذه الاختلافات وهذا التباعد المذموم والطبقية الأخلاقية الفاسدة التي تنخر في المجتمع – فإن المجتمع الواقع في الاختلاف لن يكون مؤهّلا لاستقبال الرحمة في شهر الله.
وإذا كانت الصدقة المالية تحتاج إلى رصيد مالي، فمن يقوم بالصدقة الاجتماعية لا يحتاج إلى رصيد مالي، بل يحتاج إلى رصيد روحي وتاريخ نظيف ومقبولية من الآخرين. وهذه هي وظيفتنا العملية لما يقابلنا به الله في شهر الضيافة، لأنه إذا كان شهر رمضان سيلقانا بهذا الوجه من الرحمة فيجب أن نلقاه بوجه مناسب من الطهارة والنقاء.
* استقبال شهر رمضان 38هـ – الكويت
1. بحار الأنوار347:96 ـ عن نوادر الراونديّ
2. تفسير علي بن إبراهيم القمي ص467
3. أصول الكافي ج2 ص209
4. سنن الترمذي
0 تعليق