تقدم القراءة:

معالم الآخرة في سورة يس ١

الجمعة 3 يونيو 2016مساءًالجمعة

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

 قال تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) ﴾ سورة يس.

أسلفنا أن القرآن تجلٍّ لله ولصفاته وأفعاله، وسنقف في سورة يس على أهم هذه التجليات الإلهية. فسورة يس هي قلب القرآن وفيها الشرايين الأساسية والأصيلة لهذا التجلي، وفيها الحديث عن التوحيد والنبي والبعث الذي هو مستقبل الإنسان وآخرته.

سورة يس تتحدث عن أصول هذه الشريعة؛ لأنها نزلت في مكة حيث أول الدعوة وبداية تعريف الناس على هذا الدين. وإنما سميت قلب القرآن لأننا إذا استطعنا معرفة هذه المعاني الأصيلة فسوف نرد كل فروع الدين إلى أصوله.

الفرق بين توحيد النبي (ص) وتوحيد الديانات السابقة

التوحيد الذي جاء به محمد بن عبد الله (ص) وطرحه القرآن يختلف عن توحيد بقية الديانات؛ فالنبي (ص) قرّب التوحيد للإنسان بحيث أصبح ألصق شيء بالإنسان، وهو نمط التوحيد الذي يتبناه العرفاء. 

سائر الأنبياء (ع) استدلوا بالمخلوقات على وجود الله، وهو نمط موجود في القرآن الكريم، لكن القرآن ارتقى أكثر وطرح توحيداً يتجلى الله فيه أمام المخلوقات لا خلفها، وقبلها لا بعدها.

كيف يمكن تصور هذا؟ 

هذه حالة روحية وجدانية لا يمكن بيانها بالأدلة البرهانية العقلية؛ لكن يمكن بيانها بهذا المثال الوجداني:

لنفترض أن إنسانا يمر يومياً بطريق معين ليقصد درسه أو عمله أو زيارة المعصوم مثلا، ومن الطبيعي أنه في طريقه إلى غايته يمرّ بكثير من المباني والبيوت والمحلات التجارية، ولكنه لا يلتفت إلى هذه المباني لأن تركيزه منصب على مقصده، بحيث لو جرى أي تغير في أحدها بهدم أو بناء أو ما شاكل فلا يلفته ذلك. هو لا يرى هذه التفاصيل ليس لأنها معدومة بل لأنها ليست في دائرة توجهه.

رؤية الله وتجليه في هذا الوجود شبيهة بهذا التوجه، والذي فعله الرسول (ص) أنه صفّى روح الإنسان لتكون الموجودات بالنسبة إليه مرآة لا يرى فيها إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى التجلي.

والعرفاء لا يريدون أن يقولوا بأن الموجودات معدومة بل يريدون أنّ هذه وجودات (طريقية) وهي معبر يرى بها الإنسان ما خلفها وهو الله سبحانه، وعندما يقولون أن هناك فناء وهناك بقاء فهم لا يقصدون أن الموجودات ليس لها وجود، بل إن وجودها يأتي في نظرهم بالدرجة الثانية الأبعد، والوجود القريب هو الله سبحانه وتعالى.   

معاني القرب والقربى يضجّ بها القرآن والأدعية والزيارات (١)، وعمل الطاعات قربة إلى الله تعالى معناه أننا نريد أن نترك كل شيء وراءنا ونجعل الله سبحانه وتعالى أمامنا، فيكون هو القريب وبقية الأشياء بعيدة.  

للشهيد مطهري تفسير بديع لحركة اليدين في التكبير، فيقول أنه يستحب رفع اليدين إلى الأذنين في التكبير لأنه يعني أن الشخص يأخذ الدنيا ويرمي بها وراء ظهره.

التوحيد الذي دعا إليه رسول الله (ص) هو جعْل هذه الأشياء فانية لا بمعنى أنها غير موجودة؛ بل فانية بمعنى أن وجودها (طريقي) إلى رؤية الله.

هناك معنى وجداني يحكي هذا التوحيد، وهو شعور طفوليّ، – لأن كل طفل يولد على فطرة التوحيد – يتساءل الطفل في عمر الثانية عشر مثلاً: ما الذي يثبت أن ما أراه حولي من أشياء لها وجود واقعي؟!

هذا التساؤل دليل على ما تحكيه الفطرة التي لا ترى في الكون موجوداً أصيلا إلا الله سبحانه. هذا المعنى الذي نعتبره رؤية طفولية نتجاوزها بعد الانخراط في الواقع الاجتماعي هو في الحقيقة صوت لصفاء الفطرة، وإن كانت مشوشة التعبير.

هذا التوحيد موجود في عمق الإنسان، وما فعله رسول الله (ص) هو أنه جعل قلوبنا وأرواحنا صافية لنعود للفطرة ونرى الله يتجلى في كل الأشياء بل نراه أقرب إلينا من حبل الوريد.

الحرب علينا اليوم ميدانها الروحانيات

بالعودة إلى سورة يس نجد أن الآيات التي بين أيدينا تتحدث عن الآخرة، وللقرآن حديث خاص عن الأصول الثلاثة ( التوحيد / النبوة / البعث ) (٢)

قبل أن أتحدث عن أهمية فهم الآخرة في القرآن الكريم ألفت إلى نقطة: وهي أنه كما أن التوحيد الذي جاء به رسول الله (ص) يختلف اختلافاً جوهرياً وعميقاً عن سائر أنماط التوحيد في الرسالات السماوية السابقة؛ فإن الحديث عن الآخرة في القرآن له نفس الخصوصية.

ومن هنا أريد أن ألفتكم إلى أمر مهم:

في كثير من الأحيان نكون ملتفتين إلى الهجمات والانحرافات التي توجّه إلى التوحيد والنبوّة، هذه الإشكالات واضحة، إلا أن الهجمات الفكرية التي تنال من الفهم القرآني للآخرة تمرر لنا بشكل ناعم لا نشعر به. وهذا لأننا – وبكل أسف – نكتفي في شؤون الآخرة بالإيمان المجمل، رغم أن القرآن فصّل فيها كما لم يسبق لكتاب سماوي. هذا الإيمان الإجمالي يجعلنا نقع في اشتباهات كثيرة ونقبل بأطروحات بعيدة عن أصولنا الدينية.

ولعل من مظاهر ذلك إعجاب الكثير من الشباب الذين ذهبوا إلى الخارج بما يقوله بعض المتألهين الغربيين حول وحدة الأديان، والحال أن الأمر ليس كذلك، فالتوحيد المحمدي يختلف والأخرة المحمدية تختلف أيضا.

قبل خمسة عشر عاماً عقد ملتقى لحوزات قم المقدسة من أجل مناقشة من هو العدو الثقافي الذي يجب أن نتحصن ضده. وطرح بعض المفكرين والعقلاء حينذاك ما كنا نحسبه ضرباً من ضروب المبالغة. ومنهم الشيخ مصباح اليزدي، حيث قال: إن الناس أصبحت تعرف العدو السياسي والاقتصادي. عرفنا أن أمريكا هي العدو الأكبر، وعرفنا أذنابها وبدا المخطط واضحاً لنا. لكن أمامنا تحدّيا خطيراً في ميدان مختلف هو الساحة الروحية، نحن سنواجه ترويجاً للنشاطات الروحية من بعض الدول التي تعتبر نفسها عاصمة لتلك الثقافات كالصين والهند، وكما أن أمريكا لا تقبل أن ننتصر في الميدان السياسي والاقتصادي لن يقبل هؤلاء أن ننتصر في الميدان الروحي، وكما انتصرنا في ميدان الجهاد الأصغر وخرجنا من هيمنة أمريكا، فنحن أيضاً نجحنا في ميدان الجهاد الأكبر حيث العقيدة والروحانيات والمعنويات، ولذلك نتوقع من هذه الدول التي تعتبر نفسها عواصم روحية للعالم أن تضع برامج تخلط معتقداتهم بديننا وتخلط الحابل بالنابل.

وتعليقاً على هذا أقول أن النظريات المستمدة من البوذية وغيرها لا تدخل لنا من التوحيد والنبوة بل من الأصل الثالث وهو فهم الآخرة. وكما واجهنا الشيوعية وغيرها مما هاجم التوحيد والنبوة بطروحات فكرية تم ردها ودحضها نحتاج اليوم إلى طرح منهج يعالج عند الناس الثغرات في البعد الروحي والتي يمكن أن يدخل منها مروجو الروحانيات الزائفة والعرفان الكاذب.

أريد أن أطرح سؤالاً واحداً على المروجين لهذه الأنماط الروحانية: هل يستطيع هؤلاء الذين يدعوننا إلى هذه الأنماط من الروحانيات أن يضمنوا لنا آخرتنا، أو يقطعوا لنا بالنجاة والسعادة؟ إذا كانوا لا يستطيعون فلماذا نلجأ إليهم ولماذا نقبل منهم ونحن نعتقد أن القرآن جاء بأمور قطعية في شأن الأخرة؟

إذاً مشكلتنا التي نواجهها اليوم وعدونا الذي يجب أن نقف في وجهه والجبهة المفتوحة علينا هي جبهة روحية، وهذا الترويج لهذه النشاطات في الحقيقة ليس إلا لسلبنا الاستقلال المعنوي والروحي. والحل أن القرآن كما يأمرنا بالاستقلال السياسي يأمرنا بالاستقلال المعنوي والروحي، وكما يضمن لنا سلامتنا في الجهاد الأصغر يضمن لنا سلامتنا في الجهاد الأكبر.  

( يس ) تستعرض معالم الآخرة

إذا قارنا الآخرة التي يتحدث عنها القرآن بالآخرة التي يتحدث عنها سائر الأنبياء سوف نلاحظ أن لدينا مشكلة في فهم اليوم الآخر بالنمط الذي جاء به القرآن. ولكي نتعرف على ذلك سنشرع في شرح الآيات التي افتتحنا بها من سورة يس، والتي تتحدث عن مجريات العالم الآخر.

يقول تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾ يس: 48-50 .

تنقل الآيات سؤالا يسأله من لا يؤمن بالبعث ( مَتَى هَذَا الْوَعْدُ ) لكن القرآن لا يجيب عن السؤال بل يبدأ في شرح مجريات ذلك اليوم (مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ…) وذلك لأن أصل السؤال خطأ، فيوم القيامة لا يسأل عنه بمتى، لأنه يقع ﴿ يومَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ ..﴾ إبراهيم : 48 ، والوقت كما نعلم نتيجة لحركة المنظومة الشمسية، ولأن السؤال بمتى التوقيتية غير واقعي أجاب القرآن عن متى للماهيّة، فتحدث عن ماهية تلك الساعة ومعالمها وهي ما يجب أن يسأل عنه.

قد يقال أن السؤال من حق الإنسان، وجوابه أن السؤال من حق الإنسان في عالم الدنيا، أما في عالم الأخرة فلا مكان للسؤال ﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ ﴾ الرحمن : 39 بل لا حاجة للكلام ﴿ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ﴾ الرحمن : 41 وما يقال عنه السؤال في القبر له معنى مختلف، وليس كالسؤال والجواب الذي نعرفه في هذا العالم.

﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) ﴾.

تبدأ الآيات بعد الإعراض عن ذلك السؤال ببيان مجريات ذلك العالم، حيث ينفخ في الصور ويبدأ مشهد تساؤل جديد (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا)؟ وهم يعبّرون عن حياتهم في البرزخ بالنوم وذلك لأن كل عالم من العوالم يعتبر بالنسبة لما قبله عالم نوم، الدنيا عالم نوم بالنسبة للبرزخ “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا” وكذلك البرزخ بالنسبة للآخرة، من هنا يتساءل الناس في البعث عمن أيقظهم من رقدتهم.

ولأن عالم الآخرة ليس عالماً للسؤال والجواب كما أسلفنا تجيب الآيات بالحديث عن نظام اليوم الآخر وذكر معالمه. وسنمضي مع الآيات لنتوقف عند أهم معالم اليوم الآخر فيها:

  • المعلم الأول: نفي الظلم  

تبدأ الآيات بالمعلم الأول فتقول: (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

أول معلم في نظام ذلك العالم هو نفي الظلم ﴿ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ﴾ غافر: 17 الذي جاء بصيغة النكرة (لا ظلم) فنفت وقوع الظلم على كل من المطيع والعاصي، المؤمن والكافر، كما أنها نفت الإنقاص من حق من عمل الخير ولم تنف الزيادة. بمعنى أنها نفت ظلم أحد بإنقاص عمله فالعاصي لا يظلم بإضافة مقدار ذرة إلى أعماله غير الصالحة، ولكنها لم تنف العفو والمغفرة والرحمة الإلهية للعاصين، لأن الآخرة يوم ظهور الرحمة الإلهية، وقد قال سبحانه في الآية التي قبلها (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ) ولم تقل وعد الله، لأن سمة ذلك اليوم هو تجلي الرحمة.  

الآية (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) تنفي الظلم، لكن نفي الشيء لا يثبت ما عداه، وهذا يعني إمكانية شمول الرحمة للعاصين لأنه أصل الوعد الإلهي، هذا الأصل هو تجلي الرحمة. ومن تلك الرحمة أن الله يجازي من عمل حسنة بعشر أمثالها ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ الأنعام : 160 والعشر هنا ليست عددية بل نوعية، فلا يعطيك الله عشر أمثال عملك الناقص بل يعطيك عشرة من فعله هو سبحانه، وإذا جئت بالحسنة الأولى بإمكانياتك المشوبة بالضعف والجهل فالله يعطيك عشر أمثالها بما هو أهله. فإذا أضيف ما يعطيك الله إياه تصبح زيادة نوعية في عملك لا كمية. ومثله كما لو يضاف إلى الجالسين هنا وليٌّ من أولياء الله حينها سيكون الاختلاف نوعياً لا عددياً.

الله سبحانه وتعالى سوف يعطي برحمانيته، والرحمن لا يتعامل بعدله بل يتعامل برحمته، ومن هنا ندعو ” وَإِنْ اَخَذْتَني بِذُنُوبي أَخَذْتُكَ بِمَغْفِرَتِكَ “ الأئمة يريدون أن يعلمونا نمطاً راقياً في العلاقة مع الله سبحانه؛ متى يمكن أن يتحدث أحد بهذا النحو إلا إذا كان صاحب حق؟ الذي جعلك تخاطب الله بهذا النحو هو معرفتك برحمة الله، هو تلك الأضعاف التي أعطاك إياها على حسنتك الأولى التي جئت بها والتي هي ليست فعلك بل فعل الله سبحانه. يقول تعالى: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ ﴾ الأنعام: 54 يعني أن الاسم الذي يظهر في اليوم الآخر هو الرحمن.

ومن مظاهر الرحمة الإلهية ما تحكيه الآية ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ النحل: 97 التي تبين أن كيفية حساب الأعمال فيها من الرحمة بحيث يقبل الله الأحسن من الأعمال. 

  • المعلم الثاني من معالم الآخرة: ظهور هدف الخلقة

بدأت الآيات هنا بالحديث عن الشريحة المهمة التي لغرضها خلق الله سبحانه الخلق وهم أهل الجنة ﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴾

يبدأ القرآن هنا بالحديث عن أصحاب الجنة، ويريد بذلك أن يقول لنا أن هؤلاء هم العمدة والغرض والهدف من الخلقة. ورد في الحديث القدسي “يا بن آدم وعزتي ما خلقتك لأربح عليك إنما خلقتك لتربح عليّ”. وأغلب الآيات التي تتكلم عن جهنم هي آيات ردعية، كالأم حين تريد أن تأدب ابنها وتأتي ببعض ما يخيفه ردعاً له، وهذا لون من ألوان الحكمة واللطف.

يصف القرآن أصحاب الجنة بأنهم فاكهون، فما معنى فاكهون؟

سميت الفاكهة بالفاكهة لأنها تطرّي البدن، وسميت الفكاهة بذلك لأنها تطرّي الأجواء بين الناس. أهل الجنة مع أنهم منشغلون لكن مع هذا الشغل هم يعيشون في طراوة، في المأكل والمشرب والمعاشرات، بل في كل شؤونهم.

ولا شك أن هذا اللون من الطراوة مع الشغل غير متحقق في عالم الدنيا. الإنسان في الدنيا لا يمكن أن يكون فاكهاً على نحو الإطلاق لأنه إما مفارق للنعمة أو هي مفارقة له، فهنا عالم الفراق والفصل. بينما في عالم الآخرة مع انشغال الإنسان إلا أنه غارق في طراوة النعيم.

﴿ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ 

الأزواج لا يقصد بها المعنى المألوف، وعندما نطلق على شيئين بأنهما زوجان فنحن نتعدى مفهوم الزوجية المحدود، فأزواجهم تشمل ذراريهم، أبناؤهم، أصدقاؤهم.. وكل من يشبههم في منهجهم وفكرهم. ولا يمكن أن يستقر الإنسان في عالم وهو مفصول عن أحبته وأهله وذويه وصحبه. لذلك من رحمة الله أنه إذا أدخل مؤمنا الجنة فهو يلحق به أهله وأصحابه وأحبابه ومن خدمه ومن عرفه.

﴿ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ 

ما هي الظلال؟

الظل عندنا هو المكان الذي لا تطاله أشعة الشمس الحارة، لكن للظل معنى أوسع. لاحظوا تعبيرنا الدارج في الأوساط الحوزوية الذي نردف به أسماء علمائنا الأجلاء فنقول (أدام الله ظله) ونقصد  به إدامة خيره وبركات علمه.

أهل الجنة فِي ظِلال ليس عن وهج الشمس بل يظللهم خيرهم وبركتهم وأخلاقهم وفضائلهم، هذه كلها ممدودة مثل الظل، وهذه لذة من أرقى اللذائذ التي لا يمكن تصورها.

  • المعلم الثالث من معالم الآخرة شدة تجلي الله سبحانه

﴿ سَلَامٌ قَوْلًا  مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ 

تعكس الآية معلماً مهماً في جنة الله التي يسكنها عباده الصالحين، وهي سلام من الله الرحيم عليهم.

ما معنى أن يسلم الله على العبد؟

الكلام فيه طويل ومفصل ويحتاج إلى تقريب حتى نفهم معنى سقوط الوسائط  تدريجياً في مختلف العوالم حتى يصل الإنسان إلى تلقي السلام من الله مباشرة. ولكن سنبين من المعنى  ما يسمح به المقام :

في هذا العالم الواسطة لسلام الله على خلقه هو رسول الله صلى الله عليه وآله ﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ  الإنعام: 53 أما في الآخرة فيتجلى الله أكثر ويكون وسيط سلامه لخلقه الملائكة  ﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ  الزمر: 73  فهذا جزاء عملكم، لأن الإنسان عندما يُعطى عطية ولا يعلل له سبب استحقاقه يبقى شاعراً بالمنّ، و الله لا يريد أن يشعر عبده بذلك في جنّته. هذا التعليل فيه نوع من الكرامة التي هي حس أساسي في الإنسان لا يستغني عنه في أي عالم من عوالمه ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ الإسراء: 70.

ثم يحدث تجل أشد لله سبحانه، وتصفو الصورة أكثر فيتلقى المؤمن سلام الله مباشرة ( سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ).

بعد هذا الحديث الجناوي العذب تنتقل الآيات إلى ضفة أخرى ﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ* أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) 

أين أُخذ علينا هذا العهد؟ في عالم الذر؟ لا، العهد لا بد أن يكون واضحاً وملزماً من قبل الطرفين، و إلا لا يسمى عهدا.  

إذن متى كان العهد وكيف؟

القرآن هو العهد. فكل هذه الرحمة التي جعلت الله يرسل أصدق القائلين وينزل عليه كتاباً من عنده يخبركم بكل هذه المعالم أليس هذا عهدا؟

هذا العهد ألْزمنا بشيء واحد: ( ألا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ).

كيف يحدث اتّباع الشيطان؟ وكيف نتجنب اتّباعه؟

جاء في الرواية أنه سُئلَ الصّادقُ ( عَلَيهِ الّسَلامُ ) عنِ القُصّاصِ: أيَحِلُّ الاستِماعُ لَهُم؟ فقال: لا.

وقالَ ( عَلَيهِ الّسَلامُ ): ” مَن أصغى إلى ناطِقٍ فَقَد عَبَدَهُ. فإن كانَ النّاطِقَ عن اللّه‏ فقد عَبَدَ اللّه‏ وإن كانَ النّاطِقَ عن إبليسَ فقد عَبَدَ إبليسَ”.

العقل لا يرسم الطريق، العقل يقول لك اتبع الصراط فقط. من يرسم لك السير والسلوك هو ( وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ )

صلاة الليل تطوي الطريق

من أهم الأعمال التي تضمن للإنسان أن يصل إلى أعلى درجات القربى ويحظى بمقام ( سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ) الالتزام بصلاة الليل. ورد في تفسير قوله تعالى ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ  السجدة: 17 أن المعنيين بها هو قوّام الليل.

فالنفس لا تتصور ما أخفي لهم من قرة أعين، لأن علم الإنسان بقدر إمكانياته، وبقدر ما يمكن أن ترسمه صور ذهنه، العلم هو ما ينطبع في الذهن من صور وألفاظ ومعان، لذا لا يمكن تصور نعيم هؤلاء.

أود أن أدعو الجميع للالتزام بصلاة الليل أقلاً في شهر رمضان لمن يصعب عليه الالتزام بها في سائر السنة، وحتى ولو أدّاها الإنسان بدون حضور قلب، وثوقاً بوعد الله وامتثالاً لأمره فحسب، فكما أن للعمل وزن خاص إذا جاء على نحو التوجه فله وزن خاص أيضاً إذا جاء على نحو التعبد. و أغلب أساتذتي يقولون الأعمال التي يقوم بها الإنسان بدون حضور قلب ثوابها أكثر من الأعمال التي يحضر القلب فيها لأن الإنسان في حال عدم حضور قلبه يجبر نفسه على الطاعة تعبداً لله سبحانه فقط.


١. جاء في دعاء عرفة للإمام الحسين عليه السلام ” متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ و متى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيباً”

٢. تسمية أصول الدين ليس له أصل ديني بل هو تقسيم تعليمي، وهي ثلاثة أصول في الواقع، أضيف لها العدل والإمامة. العدل لأنه أحد أسماء الله سبحانه وتعالى وله ارتباط بمسألة سياسية واجتماعية، والإمامة بما هي امتداد للنبوة.

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 114٬523 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها