قال تعالى: ﴿
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) ﴾ .
من هو المسؤول يوم القيامة؟
تحدّثنا سابقاً عن مسألة ضروريّة لم ترد في سائر الديانات وهي أنّ المسؤول هو ذات الإنسان، فالإنسان يوم القيامة يُسأل عن جوارحه وعن فؤاده. فؤاد الإنسان ما هو إلا وعاء يملؤه باختياره، فلا يُسأل الإنسان عن أمرٍ ليس تحت اختياره، وخارجٍ عن شعاع إرادته وسيطرته، هذا محال عقلاً، لأن التكليف بغير المقدور خلاف سيرة العقل.(١)
العاقل إنّما يسأل ويحاسب على أمر مقدور عليه، فإذا كان الأمر غير مقدور عليه فكيف يُسأل عنه؟
إذن فالسؤال عن الفؤاد يدلّ على أنّه بإمكان الإنسان أن يغيّر وضع فؤاده، يقول سبحانه ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ الإسراء/ 36. لو لم يكن الفؤاد تحت سيطرة الإنسان فلا يمكن أن يُسأل الإنسان عنه. وهذا معناه أنّ هناك فرق بين الإنسان وبين فؤاده، وهذا يثبت شيئين: الأول: أنّ الإنسان ليس فؤاده، الثاني: أنّ فؤاد الإنسان بيده، وبإمكانه أن يملأه بما يشاء.
وهنا يأتي سؤال: إذا كان الفؤاد مسؤول عنه، فمن هو المسؤول؟
المسؤول هو هذا البعد الإلهيّ الموجود في الإنسان، والنفخة التي نفخها الله فيه. والذي عبّر عنها القرآن بقوله ﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾ الحجر/ 29 نفخة الله هي ذات الإنسان التي يوجّه لها السؤال يوم القيامة.
الإنسان نفخة من روح الله
التعبير القرآنيّ بالنفخ من روح الله يكشف عن قبح قطع الصلة بالله سبحانه وتعالى، وعن صعوبة ذلك. لأن النفخ في الشيء غير النفخ عليه، عندما تنفخ على شيء فإنّه يطير ويحلّق، ويصبح حرّاً طليقا، لكنّه تحليق إلى مسافة محدّدة ومعتمد على استمرار النفخ، فإذا انقطع النفخ توقّف وسقط ﴿ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ ﴾ طه/ 81.
أمّا إذا نفخت في الشيء فقد جعلت التحليق من شأنه، وهكذا نفْخ الله في الإنسان حيث أعطاه شأنيّة ذاتيّة وخصائص إلهيّة من جمال وجلال، ومنحه آليّة التحليق نحو الفضيلة ونحو الله سبحانه. والإنسان إنّما يُحاسب بسبب هذه العُلقة والاتّصال والارتباط بالله. فالنفخة الإلهيّة هي المسؤولة، لأنّها شيء ذاتيّ وليس عارضا، إذن فإمكانية الوصول إلى الله سبحانه هي من الأبعاد والشؤون الوجوديّة للإنسان، لذلك بإمكان هذه الروح المحلّقة للإنسان أن تفهم ما يأتي به النبيّ (ص) من تبليغ عن السماء، وتدرك معنى ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾ النحل/ 90. ألا يجد الإنسان في كلمة العدل تحليقاً بالقياس إلى الظلم؟ ألا يجد تحليقاً في كلمة القسط والإحسان و..، نفس المفاهيم فيها تحليق وترقٍّ، والإنسان بوجدانه يدرك أنّ هذه المفاهيم مفاهيم مطلوبة ومرغوبة.
الإنسان ذاته معجون بأسماء الله ولطفه سبحانه وهذا معنى “اَللّـهُمَّ إِنّي أَسْاَلُكَ مِنْ بَهائِكَ بِأَبْهاهُ وَكُلُّ بَهائِكَ بَهِيٌّ” فبهاء الله سبحانه وعطاياه السنيّة كلّها تجدها في نفسك، والقرآن تفنّن كثيراً في بيان هذه المعارف والدقائق. لذا فوظيفة الأنبياء هي وضع الأغلال والآصار عن الإنسان ليحلّق ذاتيّا ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ الأعراف/ 175.
لهذا السبب نجد أنّ الذين يصنعون لهم مسالك تشبه مسالك الأنبياء يلجؤون للاقتباس من تراث الأنبياء من عبارات وقيَم ومبادئ ويصبغون بها دعواتهم حتى تُقبل.
نقض الميثاق فسق
هذه النفخة هي ميثاق الله للإنسان ونقْض الميثاق فسق ﴿ … يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ .. ﴾ البقرة/ 26-27 لا ينكث عهد الله إلا إنسان وصل إلى مستوى الفسق. والقرآن عندما يقسّم الناس إلى فاسقين ومجرمين وظالمين هذا التقسيم ليس صرف تفنّن لفظيّ أو مجرّد لون من الألوان البلاغيّة في التعبير، هذه حقائق ذات مراتب واقعيّة وجوديّة.
لنرى ما معنى الفسق؟
الرطب في بدء تكوينه لا يمكن فصل قشرته عنه، فإذا تحوّلت الرطبة إلى تمرة انفصل عنها قشرها الرقيق فيسهل انتزاعه، يقول العرب: فسقت الرطبة يعني خرجت عن قشرتها. والتعبير عن الإنسان الخارج عن حدود الله وعن حدّ الاعتدال بالفاسق هو من إبداعات القرآن وهو تعبير لم تعرفه العرب في الجاهلية.
عهد الله معجون في ذاتنا، فالميثاق هو العهد المأخوذ بقوّة وبجدّيّة، وهي جدّيّة تكوينيّة، فالتوحيد والقيم والرجوع إلى الله بالموت وما بعد الموت ولقاء الله واليوم الآخر.. هذه معانٍ معجونة في ذات الإنسان، وملتصقة بنا تماماً كقشرة الرطبة التي تحيط بها وتتشبث بها من كلّ جهة بحيث لا يمكن فصلها عنها إلا أن تفسق التمرة وتخرج عن قشرها، ومثلما أن هذا القشر الرقيق جداً متشبّث بأصل التمرة كذلك روحنا متشبّثة ومتّصلة بالله بنفس النسبة.
(وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) يهدّد الله هؤلاء فيقول من الذي يضلّ بسبب القرآن؟ لا يضلّ به إلا الفاسقين، ندرس في اللغة العربيّة وفي الأصول أنّ الاستثناء بإلّا يفيد الإطلاق، فيفيد الاستثناء هنا أنّ غير الفاسقين لا يضلّون. الفسق ليس أمراً سهلا، فلا أحد يستطيع أن يمسك رطبة ويفصلها عن قشرتها، كذلك عهد الله لا يمكن لأحد أن يفتله لأنّه موثق مبرم.
يقول صاحب الميزان: “إيّاك أن تتلقّى هذه الصفات التي أثبتها سبحانه وتعالى للسعداء أو الأشقياء من عباده مثل الظالمين الفاسدين الفاسقين كأوصاف مبتذلة ومأخوذة لمجرّد تزيين اللفظ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهمك لكلام الله سبحانه وتعالى، فتعطف الجميع على معنى واحد”
يعني لا تتصوّر أنّ الفاسق مثل الظالم أو الكافر، أبداً فكلّ وصف له حقيقة ومرتبة من الوجود.
يقول العلامة “فتأخذها هجاءً عامّيّاً وحديثاً ساذجاً سوقيّا” السوقيّ ليس الشخص الذي يعمل في السوق، السوقيّ في الفهم هو صاحب الفهم الساذج.
يقول: “بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحيّة ومقامات معنويّة في صراطي السعادة والشقاء، كلّ واحد منها مبدأ لآثار خاصّة، ومبدأ لأحكام خاصّة”.
كما أن هناك عمر طبيعي تختلف فيه قوى الإنسان وإدراكاته باختلاف مرحلة عمره؛ كذلك يوجد عمر إيمانيّ أخلاقيّ وتوحيديّ. فقد ترى الإنسان كبيراً في السنّ وتوحيده صغير.
والقوى والأوضاع في خلقة الإنسان منشأ لأحكام وآثار خاصّة، من الصعب أن يكون الإنسان فاسقا، لأنّه معجون بهذه النفخة الإلهيّة، فكيف يتخلّص منها!؟ ولذلك عندما يقسم الله سبحانه وتعالى أنّ المؤمن لا يساوي الفاسق فهذا منتهى العدل الإلهيّ.
هذه الرؤية الإسلامية على عكس الفكر المسيحيّ الذي يقدّم رؤية حول الله والدين وعيسى كلّها محبّة ونعيم ولا تجد فيها مكاناً للعذاب ولا لجهنّم. من يحب إلهاً ليس عنده قدرة على معاقبة الفاسقين، ولا مكنة للانتقام من الظالمين…هذا إله ضعيف، بل لا يصلح أن يكون إلهاً. فحتّى في الحسابات الدنيويّة الحكومة التي تساوي بين الظالم والمظلوم وتترك الفاسق والمجرم بلا عقاب هي حكومة ضعيفة.
أصل الرحمة الإلهيّة محيطة بالإنسان من كلّ جانب، إلّا أن يتحوّل الإنسان إلى فاسق.. الشهيد المطهري يضرب مثالاً رائعاً يبيّن إحاطة الرحمة الإلهيّة والعفو الإلهيّ بالإنسان من كلّ جهة، إلا إذا خرج الإنسان خروجاً تاماً عن مناخ عفو الله سبحانه وتعالى. يقول: لو أخذنا قارورة وأغلقناها بإحكام بحيث لا يوجد فيها أي منفس ورميناها في المحيط فهل يدخلها الماء؟ هذا ليس نقصا في المحيط ولا عجزاً ولا فقرا، العجز في القارورة التي لا يوجد فيها منفس لدخول الماء.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ}
هذه الآية تتمّم الحجّة وتقول نحن أعطيناهم الإمكانيّات من سمع وبصر وفؤاد وقدم ويد ورجل.. هذه الآلات وغيرها جعلها الله تعالى تحت سيطرة الإنسان وأبرم معه عهداً أن يصرفها في كماله وترقّيه. هذا العهد ليس لفظيّاً ولا مكتوباً بل هوعهد تكوينيّ، نفخة من روح الله سبحانه وتعالى، ولو شاء الله لطمس على هذه الإمكانيات وهذه الآلات ولو شاء لسلبها منك.
(فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ) الصراط هنا هو نفس الصراط المذكور في قوله تعالى ﴿ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ﴾ الأنعام/ 153 المقصود بالصراط هنا مطلق الطريق، أي طبيعة سير الإنسان في الحياة. فعندما يريدالإنسان أن يقوم بأيّ أمر فيه مصلحة من مصالحه فهو يريد أن يستبق ويلبي حاجاته بهذه الآلات التي أعطاه الله إياها ، والله يستطيع أن يطمسها فلا يستطيع أن يتحرّك. الطمس ليس فقط أن يأخذ القوّة الباصرة، الطمس هو أن لا يُبقي لها أثرا. لكنّ الله تعالى لم يسلب الإنسان إمكانياته ، بل أمدّ لهذه الأمّة فلم يطمس عليها ولم يستأصلها ببركة وجود الإمام المعصوم خليفة رسول الله (ص) ووجود كتاب الله..
{ وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ }
ينبّه الله أنّ هذه القوى والإمكانيّات التي لدى الإنسان إذا لم تُصرف في زيادة ترقّيه وتكامله فإنّ بقاءها واستمرارها سوف يجعل حركتها تنتكس { وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ } إذا امتدّ العمر بالإنسان يتحوّل سمعه وبصره وإمكانيّاته إلى عذاب له. (٢)
الأصل في الإنسان هو النفخة من روح الله، وهذا البدن مركب من آلات في خدمة الإنسان، لكنّه عندما يُعمَّره تنتكس مسيرته فتصبح هذه الآلات عالة على روح الإنسان، فاليد التي كان يبطش بها كلّت وعجزت وصار بحاجة إلى من يخدمه.
لذلك نقول في الدعاء “وَمَتِّعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي وَاجْعَلْهُمَا الْوَارِثَيْنِ مِنِّي”.
الآية تريد القول أنّ كلّ ما في يدك من إمكانيات يمكن أن تستفيد منه وتعمِّر به روحك آناً آناً ولحظة بلحظة. لكنّك إذا قضيت هذه اللحظات في تضييع وإهمال وتسويف، وامتدّ بك العمر وبقي بدنك فإنّك تجد هذه الآلات انتكستْ عليك وانقلبتْ ضدّك فلم يعد بإمكانك استخدامها.
ثم تتساءل الآية (أَفَلَا يَعْقِلُونَ) هذه الثواني التي تمضي من حياتك ومن الممكن أن تعمّر فيها روحك، من المؤسف أن تعمر فيها بدنك فقط ثم ينتكس عليك وينقلب عليك عدوّا.
{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ }
بعد أن تكلّمتْ الآيات عن عاقبة الإنسان بدأت بالحديث عن مفتاح في شخصيّة رسول الله صلى الله عليه وآله، وتعلمون أنّ رسول الله (ص) اتّهم بكلّ شيء: بالكهانة، وبالشعر، والجنون وغيرها، والحال أنه صلى الله عليه وآله لا يمكن أن يكون كاهناً، فالكهنة أشخاص طالبوا وجاهة وموقع فهم يوهمون الناس بأنهم أصحاب علم ومعرفة لينالوا المكانة. ورسول الله (ص) عرضت عليه قريش المكانة والعطاء ليتنازل عن دعوته فرفض، فليس رسول الله (ص) طالب سلطة أو وجاهة. ولا يمكن أن يكون كاهنا.
وهو ليس ساحراً، فالسحرة يتكلّمون بكلام غير مفهوم، بينما أعطي رسول الله (ص) جوامع الكلم وأعطي البيان، والحصيلة التهمّ التي وجهتْ لرسول الله (ص) هي تهم لا تناسب شأنه (ص) ولسنا في معرض ردّها كلّها.
القرآن هنا لأنّه يتحدّث حول شخصيّة رسول الله (ص) العلميّة وعن الإيمان برسول الله(ص)، هو يدفع عنه الاتّهام بالشعر. فالرسول (ص) لا يناسبه أن يكون شاعرا.
الشعر كمال، والذي جعل الشعر كمال هو الإسلام، أمّا في الجاهلية فقد كان الشعر قواف جميلة ومضامين قبيحة. فأقوى الشعر العربيّ كان في الخمر والغزل، فكانت مادّته الأساسية قبيحة، وجماله فقط في الشكل والقالب. والقبيح إذا جاء في لباس جميل يصبح أقبح، هكذا كان الشعر العربيّ.
القرآن ذمّ الشعراء ولم يذمّ الشعر، فالشعر في حقيقته توسّ
ع في القوى الشاعريّة والخياليّة عند الإنسان، بحيث تصبح عند الشاعر ملكة ومكنة في التصوير. عندما يقول القرآن: (وَمَا
عَلَّمْنَاهُ الشِّ
عْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ) فهذا كمال للنبي ، فمن كمال رسول الله (ص) أنّه لا يعرف الشعر، كما أنّ أمّيّته (ص) كمال من كمالاته.
من كمالات رسول الله أنّه أمّي لا يعرف أيّ لغة ولا يعرف الحروف؛ لأنّ علمه ومعرفته وحيانيّة، الحرف هو طريقنا نحن للعلم وللمعرفة، وهو طريق ضيّق، لكن من دونه لا نستطيع أن نصل. أمّا الذي يستطيع أن يصل إلى المعارف بشكل مباشر من قبل الله فإنه لا يحتاج إلى طريق الحرف للتعلّم. يقول تعالى ﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ العنكبوت/ 48 معرفة رسول الله (ص) للقراءة والكتابة يمكن أن تكون سبباً للارتياب فيه، والشكّ بأنّه يتعلّم من أحد. والحال أنّه يجب أن لا توجد واسطة – لا حرف ولا كلمة – بين محمّد بن عبد الله (ص) وبين الله عزّ وجلّ، لا بدّ أن يتلقّى عن الله سبحانه وتعالى مباشرة.
الأمّيّة عيب في حقّ الإنسان العاديّ؛ لأنّنا إذا لم نجد من يعلّمنا نبقى ناقصين، لكن الذي معلّمه المباشر هو الله، لا يحتاج إلى معرفة الحروف. فأمّيّة رسول الله (ص) ليست عيباً في حقّه، بل تعني أن معارف رسول الله (ص) أثقل من الحرف وأوسع.
محمّد بن عبد الله (ص) هو عبد لله فقط ﴿
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ.. ﴾ الإسراء/ 1 ولو كان له معلّماً لكان عبداً له (من علّمني حرفا صرتُ له عبدا). فعبد الله يتعلّم من الله مباشرة، ولا يعلّمه أحد كلمة، وهذا كمال من كمالاته صلوات الله عليه.
فعدم الإمكانيّة لقول الشعر كالأمية أيضاً كمال من كمالاته (ص) وفضيلة من فضائله.
الشعر أحد الوسائل لتحريك القوى الخياليّة، والتي يمكن تحريكها بوسائل أخرى كاللباس والفنّ.. وهذا حديث يطول. لا يناسب رسول الله (ص) أن يستعمل القوى الخياليّة لتحريك أحد. ولا ينبغي لرسول الله (ص) أن يحرّك الناس بغير الفهم والعقل والإدراك والتوحيد الخالص. ما عند رسول الله (ص) حقائق، ولا يمكن أن يصل الإنسان إلى الحقائق عبر تحريك مشاعره وأحاسيسه.
رسول الله علّم الناس ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ﴾ الإخلاص. علّمهم صفات الله وأسماءه، المضمون وحيانيّ والقالب وحيانيّ. يحرّك هذه النفخة ويحييها في وجود الإنسان، والقرآن لا يحرّك إلّا باتّجاه الحقيقة.{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } .
وصلّى الله على محمّد وأهل بيته الطاهرين.
١. للتقريب بالمثال: حين شخص يهوي من مكان مرتفع لا يمكن أن يأتيه حكم تكليفيّ شرعيّ أن يتوقّف عن الهويّ. نعم الحركة الأولى وهي الإلقاء بالنفس من الشاهق حركة محرّمة لأنّها إتلاف للنفس، فلا يجوز للإنسان أن يلقي بنفسه من شاهق، لكنّ حركته وهو يهوي لا يتعلّق بها تكليف شرعيّ ولا يوجّه له خطاب شرعيّ آنذاك. لأنّ حالة الهويّ ليست مسألة إراديّة اختياريّة.
٢. نعمّره يعني نعطيه عمراً، كما نقول اعتمرنا يعني توجّهنا لنطيل عمر بيت الله ونمدّ في عمر التوحيد ورسالة نبي الله إبراهيم ولنعطي توحيد الله سبحانه عمراً إضافيّا وزيادة وانتشاراً عند الناس. وكما يقول الله {إِنَّمَا يَ
عْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَ
عَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]. تعمير بيوت الله لا يعني بناءها بل إعطاءها عمراً وزيادة في بقائها، فمعنى التعمير المدّ.
مرتبط
0 تعليق