﴿وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ • رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ • رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ إبراهيم 35-37
أماني الأنبياء وعمق المعرفة:
من أكثر الأنبياء الذين ورد ذكر أمانيهم العالية في القرآن هو نبي الله إبراهيم، والذي نحظى بضيافة بيت الله ببركة أدعيته. ولعله أكثر نبي – حسب تقديري – نقل عنه القرآن أدعية في ظروف ومواقع مختلفة في حياته .
وهذا الدعاء الذي تضمنته الآية هو آخر أدعية وأماني الخليل في أواخر حياته، وسنتعرف خلال البحث على أن غاية هذا الدعاء هو المبعث النبوي وتحول الوادي غير ذي الزرع الى أم القرى. تلك الأمنية الإبراهيمية تتناسب مع عمق معرفته بعوالم هذا الوجود، فمن المسلمات في الثقافات الدينية أن عالمنا هذا متغير، ومائز هذه النشأة عن سائر النشآت قبولها للتغير بلا حدّ، ولا يمكن أن نقرأ أماني الأنبياء منفكة عن هذه الخصوصية التي يمتاز بها هذا العالم.
من أهم مميزات عالم الدنيا هو التغير وعدم الثبات، فالإنسان فيه يتغير، والطبيعة تتغير وليس هناك أمر ثابت، إلا أن هناك تغيرات وتحولات مقدسة، و مغمورة في عالم الطهارة والقدس، يُعجن الإنسان فيها بمعان تُحدث في جوهر وجوده تحولات عميقة ربما تفوق التغيرات التي نشهدها في عالم الطبيعة. وكل هذه التغيرات كانت أهداف مأخوذة في أصل الخلقة، والانتصار الحقيقي للإنسان فيها وبها، فالإنسان من حيث النوع مفطور على كسر التحديات التي تحول بينه وبين مسيرته هذه. وهذا التحول الجوهري في الوجود الإنساني كان هو أمنية نبي الله إبراهيم في دعائه، والتي ستتحقق على يد ذريته الطاهرين محمد وآله وشيعتهم. وهو ما سنبينه خلال البحث.
الانتقال الغريب!
يعدّ السلوك الإبراهيمي الذي تمثّل في نقل زوجته وطفله من موطن آمن مليء بالخيرات إلى وادٍ غير ذي زرع هو سلوك غير طبيعي من حيث التوجّه البشري الطبيعي التلقائي، فلا يعقل أن ينقل إنسان أهل بيته من منطقة فيها آخر ما وصلت إليه الحضارات البشرية إلى وادٍ قاحل يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة!
التفكير البشري الطبيعي يسوق الإنسان إلى اختيار أكثر الأماكن ملائمة له من حيث توفرها على حاجاته(1). تلك الحاجات التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان! لكن حين يكون المرء أمّة فإن سموّه يرسم خياراته، وحين خالف إبراهيم التفكير البشري الطبيعي فلأنه كان أمة ﴿ إنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ النحل 120 .
الأمة هنا ليست بمعنى الجماعة، بل من الأمّ والقصد، فإذا كان هناك فرد ولكنه أدرك المقصد النهائي فهو حينئذ بوزن أمة كاملة. ورد في أحداث اليوم العاشر من المحرم أن زهير بن القين خطب في المعسكر وقال: “نحن وإياكم الآن أهل ملة واحدة وأهل دين واحد أما إذا جرى بيننا وبينكم السيف فنحن أمة وأنتم أمة” وقد كان يقصد هذا المعنى، فهو يقول: نحن أمة و جماعة واحدة ولكن الذي سيفرق بيننا هو الغاية وهي اختلاف النهاية والمقصد.
إبراهيم يكشف مركز الانحراف:
إذا دققنا في مسيرة دعوة إبراهيم سنجد أنه استطاع أن يصل إلى مركز الانحراف المتمثل في مقارعة الطغاة المحاربين للتوحيد.
نحن نتصور أن دعوة إبراهيم ترتكز على تحطيم الأصنام والدعوة إلى ترك عبادتها فقط، لكن بالتأمل في مسيرة إبراهيم منذ ولادته حتى خروجه من كهفه ومحاججة قومه ومواجهته لأبيه آزر ومن ثم تحطيمه للأصنام، نجده يصل في تبليغه للتوحيد إلى إعلان المعارضة السياسية ومواجهة نمرود، لتتحول المواجهة إلى مركز تغذية الضلال والفتنة، الذي يتمثل في طاغية زمانه.
ولم يواجه إبراهيم آزر بتلك القاطعية، لأن آزر لم يكن مروجاً للشرك، بل كان يشكو من نقطة ضعف أساسية هي الجبن والميل للمنصب، والقرب من نمرود الطاغية، وعدم القدرة على المواجهة، ولعله في قرارة نفسه قد تأثر بكلام إبراهيم لذا قال له سأستغفر لك ربي. أما مع نمرود فقد وقف إبراهيم بصلابة لأنه أدرك أن سياسة النمرود هي أصل الانحراف، ومن هنا يقول إبراهيم في دعائه ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ﴾ فالأصنام ليست ذوات عقول لتضلّ وتهدي أو تضرّ وتنفع، الهداية والضلال لا يحدثها صنم. المسألة أن هناك هدف سياسي للتستر بالأصنام، فوراء الأصنام من يستغلّ البعد الثابت في وجود الإنسان – وهو الدين – فيصنع لهم ما يضل الناس عن طغيانه ويشغلهم عن ظلمه، فالأصنام في الحقيقة هي فاعل بالعرض والسياسة هي الفاعل الأول.
إذن النقطة المركزية التي أدركها إبراهيم تتمثّل في أن هناك جريمة كبيرة يتستر بها الطواغيت لحرف الناس عن التوحيد النقي، وهي نسخة تاريخية تتطور وتكون أكثر تعقيداً مع تعاقب الزمان، لكن هدفها واحد و هو محاربة هدْي الأنبياء.
الإنسان والتحديات الثلاثة:
لقد أوجد الله الإنسان في هذا العالم وأرسل له من لطفه أنبياء ترشده طريق الوصول إليه، وتتركز وظيفة الأنبياء على مساعدة الإنسان لخوض هذا التحدي وعبوره إلى حيث الهدف النهائي، لكن ديدن الطغاة هو حرف جهود الأنبياء والوقوف في وجه دعوتهم.
في هذا الطريق التوحيدي للوصول إلى الله يواجه الإنسان تحديات ثلاثة :
تحدّي الطبيعة: وهو أسهل هذه التحديات فقد سخر الله كل ما في هذه الطبيعة للإنسان.
التحدي العقلي: وهو أن يخرج الإنسان من عالم الجهل إلى نور العلم والمعرفة، وبه يشعر الإنسان بذاته وهويته.
تحدي الملكات: وهو أصعبها. وتجاوز هذا التحدي هو ما يصنع الإنسان الإلهي، وهو ما طمح إليه نبي الله إبراهيم والذي سيتحقق على يد محمد وآله عليهم السلام – كما سنبين –
لقد أراد نبي الله إبراهيم بدعائه أن يعالج أكبر مشكلة عند الإنسان بتعليمه مواجهة ملكاته، ونجاحه في الدائرة الأصعب ليكون متألهاً فدعا بأن يجعل في هذا الوادي غير ذي الزرع مَن تهوي إليهم الأفئدة وتتعلق بهم وتحبهم، لتنتقل البشرية بهذا الحب إلى هدفها المنشود.
ولنعرف أهمية دعاء إبراهيم وسلوكه بإسكان ذريته في ذلك الوادي والذي خالف فيه الطبيعة البشرية؛ لابد أن نعرف مدى أهمية أن يتّبع ويحب الإنسان القائد الإلهي ويكون تحت صناعته وتربيته ليجتاز التحدي الأصعب وهو ملكاته وسجاياه الباطنية. وليتضح ذلك دعونا نضع خيارات ثلاثة وفق معيار التحديات الثلاثة ( الطبيعة والعقل والملكات ) التي يواجهها الإنسان في هذا العالم:
الخيار الأول: أن يسكن في منطقة بالغة الرفاهية والنماء والخضرة ولكن وسط جهّال.
الخيار الثاني : أن يعيش في مكان أقل رفاهية لكن أهله علماء.
الخيار الثالث : أن يعيش في مكان قليل الرفاهية لكن في ظل قائد متأله يوجهه ويهديه ويربيه ليعبر حدود ملكاته ويكون إنساناً إلهياً.
إن العاقل يحذف الخيار الأول بلاشك فليست مشكلة الإنسان الأساسية هي حصوله على الماء والكلأ، وإن كان توفرها معِيناً على بلوغ الهدف، لذا قال إبراهيم في دعائه “وارزق أهله من الثمرات”.
أما الخيار الثاني فلا يثق فيه العاقل تمام الثقة، فمع ضرورة العلم للبشرية، لكن العلم بمعنى القدرة على وضع القوانين لا يمكن أن يحلّ مشكلة الإنسان الأساسية لأننا نرى اليوم أن الإنسان بالقانون يستطيع أن يظلم، ويمارس أبشع أنواع الانحرافات. فلا يكفي الإنسان أن يعلم بقبح الظلم، ويتصور ذلك على مستوى الإدراك ويلتزم بالقانون ليقلع عن الظلم. لذا فإن العاقل من يختار الخيار الثالث، الذي يضع الأهمية القصوى لوجود القائد الإلهي الذي يعالج ملكات الإنسان فيبتعد عن الظلم. هذه أمنية إبراهيم وهذا ما دعا بهخليل الله ، فخرج بذريته إلى وادٍ غير ذي زرع لعلمه أنها الخطوة الأولى ليتحوّل هذا الوادي القاحل إلى أمّ القرى ويُصنع فيها الإنسان الإلهي على يد المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه واله وأبنائه الطاهرين.
نجد اليوم من يدّعي أن العلم هو طريق سعادة البشرية، لكن لو نظرنا إلى العلم بعيداً عن تربية القائد الإلهي فسنجد أن غاية ما يوفره العلم للإنسان هو أنه يجيب على أسئلته الماضية والحاضرة، لكنه لا يمكن أن يجيبه عن مستقبله فيما بعد هذا العالم، في حال أنّ العاقل يريد أن يعرف ماذا بعد هذا العالم، وهو ما أدركه نبي الله إبراهيم.
لقد عاش إبراهيم في بابل حيث حضارات الأنبياء، وانتقل من بابل الى الشامات ثم فلسطين التي تعدّ من أكثر الأراضي جمالاً وخصوبة، ولكنه بعد ذلك ترك كل هذا لينتقل إلى وادٍ غير ذي زرع لأنه يعرف أن في هذا الوادي سيخرج من يوصل البشرية لغايتها التي ليس بعدها غاية، ويحل لها كل الأسئلة في عالمها هذا وفي كل عوالمها المستقبلية، ويوصلها إلى رضوان الله وقربه، لذا رسم خطة وبدأ بتنفيذها، كانت الخطة تبدأ بأن يترك ذريته بوادٍ غير ذي زرع وتنتهي بأن يجعل الله أفئدة من الناس تهوي إليهم ليُصنعوا بمحبتهم ويصلوا إلى رضوان الله بطاعتهم.
لقد أسكن إبراهيم ذريته في هذا الوادي غير ذي الزرع حتى تعالج هذه الذريّة أعمق وأهم وأصعب التحديات الموجودة في الإنسان، وهي ملكات الإنسان وطبائعه، وهي لا تعالَج إلا بالحب وميل الفؤاد، ولذلك كان من أهم أدعية نبي الله إبراهيم أن يبعث الله سبحانه وتعالى من هذه الذرية من يعلّم الكتاب والحكمة ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ البقرة 129 وقد تحققت الدعوة الإبراهيمية على يد محمد وآل محمد عليهم السلام. واستجاب الله لإبراهيم دعاءه في تجنيب بنيه عبادة الاصنام، وجعل هذه الذرية مهوى الأفئدة وتحويل هذا الوادي القاحل إلى قرية تؤم القرى.
ومن أدلة استجابة الله لهذا الدعاء الإبراهيمي في شأن ذريته، إذ جنّبهم عبادة الأصنام على اختلاف تنوعها، يقول الامام زين العابدين وهو يصف أمير المؤمنين في خطبته في الشام: “لَيْثُ الْحِجَازِ، وَ كَبْشُ الْعِرَاقِ، مَكِّيٌّ مَدَنِيٌّ، خَيْفِيٌّ عَقَبِيٌّ، بَدْرِيٌّ أُحُدِيٌّ، شَجَرِيٌّ مُهَاجِرِيٌّ، مِنَ الْعَرَبِ سَيِّدُهَا، وَ مِنَ الْوَغَى لَيْثُهَا، وَارِثُ الْمَشْعَرَيْنِ، وَ أَبُو السِّبْطَيْنِ الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ ) ويقول: ( وَلِيِّ أَمْرِ اللَّهِ، وَ بُسْتَانِ حِكْمَةِ اللَّهِ، وَ عَيْبَةِ عِلْمِهِ، سَمِحٌ سَخِيٌّ بَهِيٌّ بُهْلُولٌ زَكِيٌّ أَبْطَحِيٌّ، رَضِيٌّ مِقْدَامٌ هُمَامٌ صَابِرٌ صَوَّامٌ… الخ”
الإمام السجاد يصف جده بأنه ليث العراق، والليث هو الشجاع الذي لا يقارع، والعراق وإن قيل في اللغة أنه مأخوذ من الأعراق؛ إلا أنه ليس المراد المنطقة الجغرافية فقط؛ بل إن العراق مهد الديانات الإلهية ومجمع النبوات، ولابدّ أنه من الملاحظ لدى كلّ من زار مسجد الكوفة وجود مقام لكل نبي. من هنا فالإمام علي عليه السلام وان كان شجاعا – وهو ما يوصف به الليث – إلا أن المسألة ليست شجاعة سبعية وبدنية؛ بل هي شجاعة وسيادة واقعية على كل الأعراق الإلهية، وتقدّم على كل من مرّ وسكن العراق. نبي الله إبراهيم من العراق، والنبي عيسى ولد في العراق، جبل طور يقال أنه في العراق، إدريس مر العراق، آدم، نوح … هؤلاء هم أعرق من صنع الإنسانية، وعلي عليه السلام سيدهم وليثهم.
وعليّ عليه السلام كذلك هو كبش الحجاز، والإمام كما يبدو لا يتحدث عن منطقة جغرافية، فالحجاز كمنطقة – وإن قيل أنها واد محجوز بالجبال – لكن الظاهر أنها أيضا أرض محجوزة عن الشرك، فقد دعا نبي الله إبراهيم بقوله ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ﴾ فأبناء إبراهيم هم من يحجزون الشرك عن التوحيد ويذبّون عن التوحيد، وعليّ كبيرهم وكبشهم، ولعله لذلك قال الإمام بعدها وصفاً لعلي أنه بستان علم الله.
من واد غير ذي زرع إلى أم القرى على يد محمد بن عبد الله:
إن استجابة دعاء إبراهيم تمثلت في البعثة النبوية كما ذكرنا، وسنأتي هنا على تفصيل ذلك:
إن انتقال النبوة من أبناء إسحاق إلى نبي الله إسماعيل كانت لها حركة تأسيسة في كل الديانات لأن استحقاق النبوة يعتمد على مقدار التضحية، وإذا قسنا تضحيات نبي الله إسماعيل إلى إسحاق سوف نرى أنه ابتلي بلاء عظيماً حتى وصل إلى حد أن يكون ذبيح الله.
لقد انتقل نبي الله إبراهيم من رخاء بابل والشام وفلسطين مع ما لهذه النقلة من خصائص روحية وليس جغرافية وإن كانت الأخيرة من الأهمية بحيث ركز عليها القرآن. وتستمر العناية الإلهية تحف دعاء إبراهيم حتى يستجاب دعاءه في هذا الوادي غير ذي الزرع ، ولكن كيف استجيب هذا الدعاء ؟ هذا ما سنعرفه مفصّلا :
قلنا سابقا أن الإنسان يعيش تحديات ثلاثة في هذا العالم حتى يصل الى التوحيد:
تحدي الطبيعة ، والتحدي العقلي، تحدي الملكات والانتصار على نقاط الضعف. وقلنا أن أصعبها هو التحدي الثالث، ومنه سننطلق لنعرف ميزة الرسالة المحمدية وخصائص رسول الله الذاتية.
لاشك أن طريقة حياة الإنسان والبيئة التي يعيش فيها تؤثر على سجاياه وخصائصه الباطنية، فالمجتمعات الزراعية تنتج مجتمعاً ذا سجايا مختلفة، ونتنج بيئة بشرية أكثررقياً واستقراراً. أما البيئة الصعبة فلا تنتج إلا إنساناً صعباً غليظاً قاسياً، تملأ باطنه العصبيات والتحزبات التي تفرضها طبيعة حياته القاحلة. وهذا بلا شك يؤثر على تعاطي الإنسان ذهنياً وروحياً مع مختلف الدعوات. فالإنسان الذي يعيش في بيئة مريحة لاشك أن لديه أرضية مناسبة للاستجابة لدعوات الأنبياء مقارنة بمن يعيش في البيئة الجافة التي تخلّف فيه جفافاً روحياً يجعل استجابته لهدي الرسالات أكثر صعوبة؛ من هنا ندرك أهمية دور رسول الله (ص) في ترويض ملكات إنسان الجزيرة العربية، وتبديل سجاياه الخشنه بملكات إلهية رقيقة راقية.
وفي إطلالة على طبيعة الإنسان العربي الذي أرسل له رسول الله صلى الله عليه وآله نجد أن تلك البيئة العربية كانت تفتقر إلى أبسط مظاهر النظام والقوانين التي ترسيها الحضارات، ولم يكن العرب إلا مجموعة من بدو رحّل يتعاطون بنظام القبيلة القائم على العصبية أكثرمن تحكيم العقل والبرهان، ومجموعة بشرية لم تصقلها الديانات، تهيمن عليها الشعوذة وعبادة الأوثان.
باختصار، كان المجتمع الذي أرسل له رسول الله صلى الله عليه وآله يملك كمّاً هائلاً من نقاط الضعف، ومقداراً ضئيلاً جداً من نقاط القوة، مجتمع جله من الأعراب الذين يصفهم القرآن بقوله: ﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ﴾ التوبة 97 فالنبي جاء يعالج ملكات قوم بين عقولهم والحقيقة جدار غليظ يكرّس الذاتية والأنانية مما يجعل ترويض هذه النفوس من أصعب الصعوبات. لذا من أهم مميزات رسول الله (ص) هي أنه كان يملك القدرة على تحويل الإنسان العربي الصعب إلى إنسان راغب في تحدي ملكاته، فلم يزرع النبي وادي مكة بالخضرة والثمرات، بل زرع فيه إنساناً إلهياً.
وقد وصف القرآن أتباع محمد صلى الله عليه وآله بقوله ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ الفتح 29 فقد حول رسول الله (ص) العربي الغارق في ملكات العصبية والشدة والجهل إلى إنسان يدير حبه وبغضه ومشاعره وسلوكه وفق إرادة السماء، مما يعني اجتيازه لأكبر تحدّ يمر به الإنسان، فكان هذا الإنسان هو الزرع في وادي مكة، وأهم صفاته كما وصفها القرآن:
“أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ “فبعد أن كانوا أشداء على من يخالفهم ارتفعت أسباب الشدة والبغض القائم على العصبيات وتحولت إلى أسباب حقيقية، وأصبح الحب والبغض لله. وكان أثر أتباعهم لمحمد صلى الله عليه وآله هو توجيه قواهم الغضبية وشدتهم إلى أعداء الله.
ويجدر هنا أن نشير إلى الحرب الشعواء اليوم التي تهدف إلى تمييع الحالة الإيمانية والعقائدية، والترويج لوحدة الديانات ووحدة الحضارات بطريقة تنفي بُعد البراءة من أعداء الله. ومثاله ما تضج به وسائل التواصل من رسائل أخلاقية تدعو إلى مطلق المحبة ومطلق التسامح منطلقة من طروحات تميل بالإنسان إلى جهة واحدة، وهي خلاف صريح القرآن، فأتباع محمد صلى الله عليه وآله كما هم فيما بينهم رحماء متسامحون هم مع أعداء الله أشداء، والإخلال بإحدى هاتين الكفّتين في واقع المسلمين يعني عدم قدرتهم على أن يتحولوا إلى زرع محمدي.
“تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ” هذه السيماء ليست ذلك الأثر المادي الذي يحدثه السجود في جبين الإنسان فحسب، بل السيماء هي طبيعة الشخصية والتعاطي الذي تحدثه العبادة في باطن الإنسان.
“وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى” أتباع محمد كالزرع؛ لأنه زرع فيهم ملكات وشمائل أكثر طراوة. أصحاب الديانات السابقة عاشوا في بيئات زراعية لكنهم لم يكونوا زرعاً إذ لم تكن لهم قابلية لذلك، أما أتباع محمد فلهم قابلية أن يُزرعوا، وهؤلاء هم الزرع الذي سوف يحّول هذه المنطقة من وادٍ غير ذي زرع إلى أم القرى ذلك أنّ لهم ساقٍ ذو خصائص جنّاوية.
المميزات الخاصة لرسول الله هي لبّ دعوة إبراهيم:
إن شخصاً يستطيع أن يجتاز بإنسان الصحراء أعظم تحدّ تخوضه البشرية نحو الله لابد أن تكون فيه مميزات لا يدانيها أحد. شخص يمكنه تحمل قسوة هذه البيئة ليس حرارة طقسها ووعورة سطحها وندرة ماءها – فذاك ما تحمّله إسماعيل وأمه هاجر- بل يتحمّل وعورة ملكات العرب وجفاف أرواحهم ليستحيل جدبهم بين يديه الرحيمة ماء رقراقاً.
لقد كان محمد بن عبد الله (ص) أعظم ما في جعبة السماء، وكان يملك ما لم يملكه بشر قبله، ولا يمكن أن يملكه بشر بعده. وقد امتلك رسول الله (ص) خصائص كثيرة ليزرع الإنسان الإلهي، وكان له من لطيف السجايا والشمائل ماكانت المعبر للهداية، فكل من عرفه أحبه، وكانت محبته طريقاً لله.
نطلّ من تلك الخصائص على ما ذكره الإمام السجاد عليه السلام في دعاء أبي حمزة: “اللهم إني بِذِمَّةِ الاِْسْلامِ اَتَوَسَّلُ اِلَيْكَ، وَ بِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ اَعْتَمِدُ عَلَيْكَ، وَ بِحُبِّيَ النَّبِيَّ الاُْمِّيَّ الْقُرَشِيَّ الْهاشِمِيَّا لْعَرَبِيَّ التِّهامِيَّ الْمَكِّيَّ الْمَدَنِيَّ اَرْجُو الزُّلْفَةَ لَدَيْكَ”
الكلام ليس عن جنسية النبي، بل عن جنسه، والذي يعرف جنس رسول الله (ص) وطبيعته فهو من تكون له قابلية ليكون زرعاً ينمو بمحبة رسول الله صلى الله عليه وآله.
الخصائص التي ذكرها الإمام زين العابدين (ع) هي في عمق مقامات رسول الله (ص) ومميزاته التي تجذب له القلوب، فهو (الأمّي) الذي لم يحتَج إلى الواسطة التي يحتاجها البشر لتلقي العلم والمعرفة، بل كان يتلقى معارفه المحيطة بكل العوالم من الغيب مباشرة، كان يهيمن على محيط من المعرفة ليست الحروف والكلمات أهلاً للنزح منه.
وهو (الهاشميّ) الذي ورد عن الباقر أنه من هشم الخطايا، فهو لم يهشم الأصنام فحسب بل هشم وحطّم كل أسباب الجهل والانحراف والقبائح من النفوس.
وهو (العربيّ) والعربي ليس من ينسب للعرب، فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، بل هو من يستطيع أن يعرب عن لغة الغيب، ويبين الحقائق الغيبية لنفهمها ونعيها، كان يعرب عنها بقوله وفعله، فكان مظهر عفو الله وكرمه ورحمته. وقد بذل كل ماعنده لكي يعرب عن الله ويعرّفه لنا فنحبّه ونطلب رضاه. ولا يكون الله لنا محبوباً إلا بمحبة حبيب الله صلوات الله عليه وعلى آله.
وهو (التهاميّ) ليس من تهامة الموقع الجغرافي فقط، بل هو الذي يتحمّل أبشع التهم، فقد قيل عنه مجنون وساحر، ولكن كل هذا لم يثنه، بل لم يجعله يكره قومه، وربما هذا معنى قول الله تعالى: ﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾ الفتح 1-2 أي ما كان خطيئة عند قومك.
وهو (المكيّ) فكم من أنبياء سكنوا مكة وزاروها لكنهم لم يحولوها من وادٍ غير ذي زرع إلى أم القرى التي تحف بها بقية القرى لتتلقى التوحيد، أم ّالقرى التي تهدم صفات الشرك وتبني ملكات التوحيد. كان هو المكيّ الذي حقق دعوة نبي الله إبراهيم وأعاد لمكة مكانتها، لذا أقسم به الله حيث قال: ﴿ لاأقسم بهذا البلد *وأنت حلّ بهذا البلد ﴾ البلد 1-2 فهذا البلد إنما استحق القسم به لأنك يا محمد تحلّ فيه.
إن من يعرف هذه الخصائص لا يملك إلا أن يحب محمداً (ص)، ويرجو الزلفى بهذه المحبة، والرجاء حال واقعي يمر به الإنسان وليس هو صرف تلقينات، ووصول الإنسان إلى مقام الراجين داعٍ إلى أن لا يردّ الله دعاءه ولا يخيّب رجاه.
الخلاصة:
لقد أسكن نبي الله إبراهيم ذريته في وادٍ غير ذي زرع، ودعا بدعاء كانت مقدّمته هذه التضحية، دعا الله لا أن يزرع الأرض بل أن يزرع الإنسان، وكان ذلك عبر بعثة محمد صلى الله عليه وآله الذي يقول: “أنا دعوة إبراهيم” . وقد بُعث النبي صلى الله عليه وآله ليزرع ملكات الخير في الإنسان، وأكمل مسيرته علي وآل علي عليهم السلام، ذلك أنه وعلي من شجرة واحدة أي سنخ ملكات واحدة وسائر الناس من شجر شتى، فكان يسقيهم من ملكاته وصفاته فيكونون معه.
ورد عن الصادق عليه السلام أنه قال لأحد أصحابه: “يا بن يزيد! أنت والله منا أهل البيت، قلت : جعلت فداك! من آل محمد؟ قال: إي والله من أنفسهم، قلت من أنفسهم جعلت فداك؟ قال: إي والله من أنفسهم ياعمر! أما تقرأ كتاب الله عز وجل: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذي آمنوا والله ولي المؤمنين)؟ أوما تقرأ قول الله عز اسمه: ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) “.
ولذلك نحن نعتبر يوم المبعث هو يوم عيد لتحقق دعوة إبراهيم وانتقال مكة من وادٍ غير ذي زرع إلى بلد مزروعة بمن يحمل القلوب والفكر والعقيدة، وتكون ذرية إبراهيم المتمثلة في محمد وآله عليهم السلام مهوى للقلوب والأفئدة، لتعود مكة أما للقرى بعد أن كانت مجرّد وادٍ غير ذي زرع. وحتى إذا تطاولت الدهور وأريد لهذه المكانة أن تخبو فستعود مكة إلى تلك المكانة لتكون في آخر الزمان مكان الظهور المقدس لخليفة محمد وناصر محمد الحجة بن الحسن عليه السلام.
1- يذكر أن المسلمين عندما فتحوا العراق وأرادوا تعيين منطقة ليسكنوا فيها أرسلوا للخليفة الثاني يسألوه عن ذلك، فقال لهم: خذوا بعير وجوعوه ثم أرسلوه فحيث يستقر البعير سيكون هذا المكان هو الصالح للسكن – لأن البعير يعرف أقرب منطقة للماء والكلأ، ويختار بغريزته المناطق ذات الطقس الملائم –
2- أمالي الطوسي 2- 44
0 تعليق