تقدم القراءة:

بين العرفان الصادق والعرفان الكاذب ٣

الأربعاء 11 مايو 2016مساءًالأربعاء

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

3
(1)

لا يخفى عليكم أنه بعد كل نبوّة يكثر مدّعو النبوات (المتنبئين)، كما أنه بعد كل انتصار وظفر للحق في أي جهة من الجهات-سواء في الجهاد الأكبر أو الأصغر – تتولد مناهج تتلبس بلباس الصدق والحق، لتضرب إنجاز الحق مستغلة سعي الإنسان وراء النجاح والفوز.*من هنا فالصراع بين العرفان الصادق والكاذب ليس بدعا من حالات السلوك البشري، سيّما وأن العرفان يدغدغ أعمق مسألة في وجود الإنسان وهي الروحانيات، فإن كان صادقا حكي أعلى مرتبة مقدسة يمكن أن يصل إليها الإنسان، وإن كان كذبا – والعياذ بالله – نزل بالإنسان إلى أسوأ مرحلة يمكن تصورها. لذا فادّعاء العرفان من أخطر الادّعاءات، وموطن لانحراف كبير. ذلك لأنه ادعاء للقداسة.

ويمكن القول أن مركز انتشار هذه الظاهرة هي قم وإيران بالدرجة الأولى، لأنها مركز انبعاث العرفان الصادق، فطبيعي أن تكون مركزا أيضا للمواجهة، وهذا طبيعي في كل الساحات، ففي الدول الرأسمالية – مثلا – تكون المواجهة عبر الغش التجاري والمشاريع الوهمية لكسب مزيد من الأموال.

نعم قد يعدّ مصطلح  (العرفان الكاذب) جديدا على مجتمعنا، ولكنه في ساحة قم المليئة بالحراك الفكري والثقافي يعد أمرا طبيعيا، بل هو من إفرازات هذا الحراك الفكري، وما نبتلى به في ساحتنا هو أذيال ما يجري في تلك الساحة.  

المعالم الرئيسية في المدرسة العرفانية:

في هذه المقدمة سنستعرض المنهج العرفاني كما هو متعارف عليه لدى العرفاء من علماءنا، وسنحاول وضع المعالم الرئيسية للعرفان الصحيح، بحيث تكون معياراً واضحا سيحتاج من يتخطاه أو يتجاوزه إلى إقامة الدليل على طريقته الشاذة عن المنهج الأصيل.

اتفق العرفاء على أن هناك ثلاثة مواطن للسير والسلوك إلى الله تعالى يجب أن يطويها الإنسان. وبغض النظر عن هذه التسميات العرفانية – فهذه المراحل يقرّها العقل ويدرك منطقيا أنها الطريق لسير الإنسان وبلوغه التكاملي .

المرحلة الأولى:  التخلية

وهي تطهير النفس من الرذائل، فالإنسان موجود ممتلئ بأسباب الرذائل يقول تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا • فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ الشمس7-8 أي أن الفجور مُلهم قبل التقوى، يتولّد مع أنانية الإنسان التي تولد معه منذ نعومة أظفاره.

وهناك رذائل أساسية ينبغي أن يتخلص الإنسان منها في مرحلة التخلية، وتعد أمهات الرذائل منها:

الكِبر: وهو أول معصية وقعت في الوجود، إذ تكبّر إبليس على السجود لآدم، وهي أول خطوة ابتعد فيها الإنسان عن الله سبحانه وتعالى، وتعدّ صفة تقابل وحدانية الله ، ولذا هي تقابل سير العارف تماما،فالعارف يريد أن يتمحور حول الله، والتكبر يبعده ويدفعه عنه.

ويعدّ التكبر من أكثر الرذائل في الإنسان رسوخا وإن اختلف الناس في إبرازه أوالتظاهر بإخفائه، وكل يتكبّر بحسبه، وكل يحتاج للعلاج منه، لذا كانت الصلاة مفروضة على الجميع لأثرها في انتزاع هذه الرذيلة، تقول الزهراء عليها السلام في خطبتها عنها ( وجعل الصلاة تطهيرا من الكبر ) ، وعندما يصف الله سبحانه وتعالى عباد الرحمن لاينعتهم بالصائمين والقائمين وإنما يصفهم بالتواضع ونفي الكبر ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} الفرقان: 63، كما أن الكثير من الأدعية تعالج الكبر في الإنسان وتنمي التواضع عبر تكريس عبودية لله، ورد في دعاء النبي صلى الله عليه وآله ليلة النصف من شعبان: ( سجد وجهي الفاني لوجهك الباقي) ومثله ما نقرأه في مسجد الكوفة ( وجهي خاضع لما تعلوه الأقدام لجلال وجهك الكريم ).ولذا فالعرفاء على اختلاف مناهجهم يتفقون على ضرورة علاج هذه الرذيلة، ويمارسون علاجها بوسائل متعددة(1)

الحسد: ويعدّ الرذيلة الثانية التي تتأصل في وجود الإنسان وتحتاج للانتزاع، وهو من الأمراض الخفية التي تحتاج إلى صراع في تجربة النفس لكي لا يستحكم هذا المرض ويتصرف ويتمدد في داخل الإنسان من غير أن يلتفت إليه. كما أنه كل بحسبه في هذا العالم، ولا يسلم من الحسد حتى العلماء.

ومما يلفت أن القرآن يذكر لنا هذه الرذائل مرتبة حسب توغلها في النفس، فيذكر أولاً خطيئة إبليس (التكبر)، ثم يحكي عن خطيئة ابنيْ آدم حين حسد أحدهما الآخر. من هنا فالقرآن يحدد لنا خطوات الابتعاد عن الله سبحانه وتعالى.

المرحلة الثانية: التحلية

 والمقصود بالتحلية: التحلي بالكمالات والفضائل. ففي مقابل تلك الخطوات المبعّدة هناك خطوات للقرب، وأقرب الخطوات التواضع، وهو يقابل الرذيلة الأولى.ولكي يكسب الإنسان التواضع فإنه يحتاج في نفسه إلى إرادة وعزيمة وإيمان، وانجذاب شديد إلى الله، وهو أيضا يحتاج فوق ذلك إلى أستاذ يعينه على تحقيق هذه الفضيلة، فالعبادة بدون تواضع تجعل الإنسان في مصافّ الخوارج، فقد كانوا قوّاما صوّاما، لكنهم لا يقبلون الاحتكام لأمير المؤمنين تكبرا.

وقد يتبادر سؤال ملحّ هنا : من هو الميزان في سلوك الطريق؟

لاشك أن طريق السلوك إلى الله عبر التخلية والتحلية وما بعدها ليس طريقا خفيا لا معالم له، ولا معايير تحكمه، والميزان والمعيار في هذا الطريق هو رسول الله (ص) ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ واليوم الآخر﴾ الأحزاب: 21، فرسول الله أسوة ، ولكن ليس لكلّ أحد ، بل لمن كان يرجو الله، ويريد الاندكاك في الله.

المرحلة الثالثة: التجلية

يجب القول أنه لا التخلية ولا التحلية هي العرفان، بل العرفان هو المرحلة الثالثة : التجلية والظهور والبروز. والمراد من المعرفة والعرفان هو البرهان بلا واسطة، وإشراق الحقائق على القلب، وهذا ما يتحقق في التجلية.

في هذه المرحلة حين تنسبك إرادة العارف مع إرادة الله تتجلى للعارف الحقائق وتظهر عليه صفات الله تعالى.

يجدر الإشارة إلى أن مرحلة التجلية ليست مانعة من الخطايا، فيمكن أن يذنب فيها الإنسان لأنها غير مانعة، وما هي إلا نوع إشراقات تحدث في قلب الإنسان، فيبدو وكأنه يتذوق الأشياء لأول مرة كما يتذوق المراهق بعض اللذائذ الحسية التي لم يكن يدركها. فإن أخطأ – مثلا- تذوق طعما مرّاً في قلبه، وإن أطاع الله سبحانه ووُفِّق للعبادة شعر بإشراقة وقعت في نفسه، وهذه الإشراقة تزيده تواضعا.

والتجلية لا تسبب حالة السعادة واللذة للإنسان كما يُتصور، وإنما تُشعره أنه قد أعتنى الله سبحانه به أكثر فهو عبد لله وأكثر ذلة بين يديه. يقول الإمام الحسين (ع) في دعاء عرفة: “اَنْتَ الَّذى اَشْرَقْتَ الاَنْوارَ في قُلُوبِ اَوْلِيآئِكَ حَتّى عَرَفُوكَ وَوَحَّدوكَ، وَاَنْتَ الَّذى اَزَلْتَ الاَغْيارَ عَنْ قُلُوبِ اَحِبّائِكَ حَتّى لَمْ يُحِبُّوا سِواكَ”

حين يتخلى الإنسان ويتحلى تصبح نفسه خالية من العيوب وتكون حينها مستعدة للتلقي، فمحال أن يبقى وعاء النفس فارغا، وإذا لم تشغل النفس الفارغة بالإشراقات فسوف تشتغل بأمور أخرى، فهي هكذا فاعلة دائما وفي حالة خروج من القوة إلى الفعل. فنفس العارف بعد التخلية والتحلية تصبح في حالة استقبال الإشراقات وهنا يأتي معنى الرواية “ليس العلم بكثرة التعلم، إنما العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء أن يهديه”(1) فالعلم الذي لايكون عن طريق التعلم هو الذي يسبب الإشراق في القلب.

تجدر الإشارة إلى اختلاف الإشراقات التي يحصل عليها العارف والإشراقات التي يحصل عليها المعصوم، إفي شراقات الأئمة الاثنا عشر  يصبحون بها فوق الفضائل وهي دونهم جمعاء، فيصبحون – إضافة إلى كونهم أئمة الناس – أئمة الفضيلة والأخلاق، فيكون علي عليه السلام أفضل من الكرم، وتصبح إشراقات الكرم دون إشراقات أمير المؤمنين، بل هي مأمومة له. نحن نتكلف الفضائل لكن المعصومين ليسوا كذلك، الفضائل تنقاد لهم.

سمات العرفان الكاذب:

بعد الحديث عن أهم معالم العرفان الصادق سنستعرض سمات العرفان الكاذب لتتضح الصورة ويسهل التشخيص:

للعرفان الكاذب سمات كثيرة أهمها:

١/ لا يشترط في منهجية العرفان الكاذب وجود تصور معرفي صحيح عن الله سبحانه قبل حالة السير والسلوك، ويوكل الأمر في ذلك إلى الفطرة، و ليس من ميزان في هذا العرفان لمعرفة الأوهام من الإلهام. بينما العرفان الصادق يشترط في منهجيته أن تكون هناك أولاً معرفة تصورية صحيحة بالله وبصفاته وأسمائه. 

من الجدير ا، نشير أن العرفان الكاذب يعتمد على مجموعة من الرياضات والخيالات التي تولد بعض القوى بشكل طبيعي وفق الطبيعة البشرية، كما يجري عند بعض المرتاضين ، وهذا ليس من العرفان الصادق في شيئ.

٢/ العرفان الكاذب مبني على بُعد اللذة والسعادة والراحة، وصاحبه ذاهب في اتجاه واحد يدغدغ مشاعره ويلهب عواطفه. بينما أصل العبودية قائم على كسر النفس – كما يرى الشيخ الجوادي الآملي – والحقيقة أن الدين لا يقوم على جانب واحد وإلا صار مشوها وغير متكامل.

٣/ عدم الاهتمام بالشرعيات وتبرير النصوص وتفسيرها وفق الهوى بعيدا عن المعايير العقلية والوحيانية الأصيلة.

٤/ العرفان الكاذب فيه تضاد بين مقتضيات العقل والمنطق، في حال أنه من المفترض أن البرهان والعرفان يحكيان أمرا واحدا، والذي يقوله العارف يدركه الفيلسوف، جل ما في الأمر أن الفيلسوف يقوله مفاهيميا والعارف يراه حضوراً، فإذا تحدث العارف عن أشياء وهمية لا يقبلها العقل كان كاشفا عن كاذبية هذا العرفان.

٥/ تصحيح كل الطرق الروحانية بنفس الدرجة، وهو بالضبط مثل تعدد القراءات، في حال أن الطريق لله واحد.

٦/ الإفراط في الدعوة للنزعات الإنسانية بالمطلق، وتغليبها على المعايير الإلهية. بينما ليست القيم الإنسانية هي معيار العارف، وإنما معياره ومحوره هو الله تعالى.


* مقدّمة العالمة الفاضلة أم عياس الطاهر في حوارية منهجية العرفان الصحيح 

1. و في المقابل تماما يربي العرفان الكاذب جانب الحركة العكسية المضادة، فصاحب العرفان الكاذب إما أن يطلب مالا أو أن يجمع وجاهة أو أنصارا.

2.إرشاد القلوب للديلمي 1

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 3 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 3 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 99٬206 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (2)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها