بمناسبة أيام ميلاد الإمام الحسين عليه السلام أود أن أكمل الحديث حول العرفان الصادق في منهج أهل البيت، وسيتبين بالنتيجة حقيقة العرفان الكاذب.
بداية ، العرفان هو تفعيل المعرفة مقابل النكران، كما نقول عرفان الجميل ونكران الجميل، وربما لهذا يقسم القرآن الناس إلى ﴿إما شاكِراً وإما كفوراً﴾ [الإنسان ٢].
العرفان الصادق يعتمد إبراز قوى الإنسان الكامنة في أعماقه، وتوجيهها توجيها صحيحاً ومتوازناً. كما يركّز على شرح صدر الإنسان وبسط قلبه وفتح منافذه المغلقة، ليتنفس بعمق نسائمَ الحق، والتي هي نفخة من روح الله، وطريقه لذلك العبادات كلها، لا يُهمل جانباً، ولا يولي أهمية لجانب منها على حساب الآخر.
لأنه لو كانت الحركة العرفانية تقوم على بعد واحد فإن مسيرة الإنسان ستتحرك باتجاه غير متوازن، وفي آخر أمره سيقع في أوهام العرفان الكاذب، ويجري خلف سراب. وللأسف هذا ما وقع فيه كثير من طلاب هذا الطريق لتوهّمهم أنهم يشبعون نهمهم الروحي. والعرفان الصادق هو ما وصلنا عن أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أقوالهم وفعالهم، فهي الميزان والصراط إلى ذلك.
ولنتحدث عن جانب من عرفان سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام – والذي نعيش ذكرى ميلاده الأغر- ونرى كيف أسس لنا منهجاً واضحاً، وسجل لنا نمطا متوازنا في هذا المضمار.
من خلال سيرة الإمام الحسين نعرف أن العرفان الصادق له حركتان متوازنتان:
الحركة الأولى: حركة محبة وانجذاب، وكشف لوجه محبوبه، وسعي ووصول إلى جمال الله. وفيها يبدأ العارف بترقيق قلبه وتلطيف سرّه، فيتعامل بودّ وحبّ في كل ما يصله بالله، ويفرّ عمّا يسبب له القساوة وغلظة القلب، لأن تشوّش الباطن وتعكيره يشبه تعكير الماء وتكثيف المرآة، فالباطن حين يتعكر بالغضب والانفعالات الذاتية فهو لا يقبل الصور اللطيفة الرحمانية التي يفيضها الله على القلب في كل آن. وإذا جاءت الوصايا الدينية بأن نعطي من حرمنا وأن نعفو عمن ظلمنا وأن ننسى أخطاء من أساء إلينا فهذه لها بركات عدة، أهمها وأولاها هي صالحنا الروحي، لكي تبقى مرآة قلوبنا متوجهة إلى جهة واحدة وهي الله. لأننا إذا انشغلنا بأذى الآخرين وظلمهم وسوء تصرفاتهم، فإن ذلك يسلبنا لطافة أرواحنا، ويشغل باطننا عن الأهم الذي يستحق النظر.
جاء في دعاء عرفة للإمام الحسين عليه السلام حكاية عن وصوله إلى مقام التلقي الكامل للرحمة الإلهية (وَاَنْتَ الَّذى تَعَرَّفْتَ إِلَىَّ في كُلِّ شَيء، فَرَأَيْتُكَ ظاهِراً في كُلِّ شَيء، وَأَنْتَ الظّاهِرُ لِكُلِّ شَيء، يا مَنِ اسْتَوى بِرَحْمانِيَّتِهِ فَصارَ الْعَرْشُ غَيْباً في ذاِتِهِ، مَحَقْتَ الآْثارَ بِالآْثارِ، وَمَحَوْتَ الأَغْيارَ بِمُحيطاتِ أَفْلاكِ الأَنْوارِ، يا مَنِ احْتَجَبَ في سُرادِقاتِ عَرْشِهِ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الأَبْصارُ، يا مَنْ تَجَلّى بِكَمالِ بَهائِهِ، فَتَحَقَّقتْ عَظَمَتُهُ مَنْ الاسْتِواءَ، كَيْفَ تَخْفى وَأَنْتَ الظّاهِرُ، اَمْ كَيْفَ تَغيبُ وَأَنْتَ الرَّقيبُ الْحاضِرُ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَدير، وَالْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ.) لاحظوا أن الإمام في بداية الدعاء يطلب من الله أن يظهر له ولا يشغله بالأسباب، ثم يعرّي الإمام الأسباب والأحداث من فاعليتها، ويجرّدها عن قدرتها على التأثير في رؤيته، حتى يصل إلى مقام أنه يتعرف إلى الله في كل شيء، فنفسُه صافيه لا تنطبع فيها المكدرات، وهذا ليس دعوى من قبل الإمام الحسين، بل سيرته تدل على ذلك. ولقصر المقام أكتفي بمعرفتكم بسيرته وعفوه ، وكلكم قرأتم عن قبوله توبة الحر الرياحي، وقد كان للحر موقفا لو أراد الإمام الحسين عليه السلام أن يجازيه بمثله فأقلّ ما في النصفة أن يسامحه، ولكن لا يصل الأمر إلى أن يدخله في جملة أصحابه، أويشرّفه بالالتحاق بركبه، ولكن الإمام الحسين مظهر خير الغافرين وستار العيوب.
هذا جانب أساس في العرفان الصادق، ويسمى بتلطيف الباطن.
الحركة الثانية: الحركة الثانية للعرفان الصادق: وهي بنفس أهمية الحركة التلطيفية الأولى، ولا تقل عنها في الرتبة، ولكنها جانب تغليظي، أو كما يعبّر القرآن إثخاني ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ..﴾ [الأنفال: 67]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ..﴾ [التحريم: 9].
إن الحركة الجادة في السير والسلوك كما تجعل الإنسان مريدا لله تجعله أيضا عارفاً بقطّاع الطريق وموانع السبيل، يشخّصهم ويحدّدهم ولا تنطلي عليه حيلهم وألاعيبهم. فالشيطان أقسم أن يجلس على أول الطريق ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: 16] وللشيطان حيل وألاعيب ومكر وتلوّن، فمرة يلبس ثوبا ثقافياً ومرة سياسياً ومرة إعلامياً ومرة تجارياً، لينفذ إلى قلب الإنسان.
يصف القرآن العارفين بالله، وكيف يراقبون حركات وحيل الشيطان فيقول تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201 – 202] لماذا عبر بطائف من الشيطان؟ يرى الشيخ الجوادي الآملي أن ذلك لأن الشيطان يعلم أن المؤمن يريد أن يكون قلبه كعبة لله، ولذا يحتال الشيطان فيحرم ليدخل ويطوف حول قلب المؤمن.
من أهم أسس العرفان الصادق أن العارف لا يسعى فقط في تحسين علاقته مع الناس ليرقّ باطنه؛ بل هو أيضا من يكون شديدا على الشيطان، ويخرجه من حرم قلبه وإن كان الشيطان محرماً. السيد الإمام كان يقول: “إن حسن الظن بالشيطان أكبر حماقة” ، وهذا معنى كنائي، والمراد منه أن تمثيل دور الحمل الوديع ودور المطالبة بحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والدعوى الكاذبة لحوار الأديان والحضارات، حينما تصدر من أصحاب الحيل والخطط الشيطانية فهي نوع من الإحرام ليستطيعوا الدخول إلى عالمنا الإسلامي، واستلاب حس الغيرة على الدين والمبادئ والدعوة للتساهل في قبول مشاريع الشيطان والسقوط في حبائله وبالتالي إحكام السيطرة علينا .
بربّكم .. ما بالنا لا نقرأ عن أصحاب هذه الاتجاهات إلا خطابا من نوع واحد فقط وهو التودد إلى الغرب وتلميع سياساته وأهدافه والتركيز على إنجازاته؟ لماذا لا تصلنا منهم خطابات ووصايا وتحذيرات من الطغاة والظلمة؟
كما أن من بعض حيلهم بعض الممارسات بعدا روحيا ، ألا ترى بعض المرتاضين يقطع أعضاءه التي تشبع غرائزه وكأن أصل وجودها عبثي، العرفان الكاذب يريد أن يسلبك غريزة الغضب بشكل مطلق لتقبل كل الأراجيف وتفقد حس الانفعال أمام الخطأ.
ثم نحن لانفهم معنى إخراج الطاقة السلبية من الإنسان! هل يريدون منها إخراج القوى السبعية مثلا؟ وهل أودع الله في الإنسان استعدادا عبثيا؟ ومن قال أن رضا الإنسان وثقته في نفسه هي حالة صحية دائما، لعل هناك مقاصد لا تفهمها من متشابهات ما يصلنا ونقرأه. ولكن أليس الإمام الحسين عليه السلام الذي يقول: (وَاَنْتَ الَّذى تَعَرَّفْتَ إِلَىَّ في كُلِّ شَيء، فَرَأَيْتُكَ ظاهِراً في كُلِّ شَيء، وَأَنْتَ الظّاهِرُ لِكُلِّ شَيء، يا مَنِ اسْتَوى بِرَحْمانِيَّتِهِ فَصارَ الْعَرْشُ غَيْباً في ذاِتِهِ، مَحَقْتَ الآْثارَ بِالآْثارِ، وَمَحَوْتَ الأَغْيارَ بِمُحيطاتِ أَفْلاكِ الأَنْوارِ، يا مَنِ احْتَجَبَ في سُرادِقاتِ عَرْشِهِ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الأَبْصارُ، يا مَنْ تَجَلّى بِكَمالِ بَهائِهِ، فَتَحَقَّقتْ عَظَمَتُهُ مَنْ الاسْتِواءَ، كَيْفَ تَخْفى وَأَنْتَ الظّاهِرُ، اَمْ كَيْفَ تَغيبُ وَأَنْتَ الرَّقيبُ الْحاضِرُ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَدير، وَالْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ.)
هو نفسه الذي يقول (هيهات منا الذلة)؟ وأليس هو نفسه القائل: “والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية أبدا” أليس هو القائل: “من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله، ناكثا عهده مخالفا لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يُغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله “
كيف نرى الحسين الذي يتفجر بين يدي الله رقة وحباً وعشقاً وللمؤمنين رحمة وعفواً، هو نفسه ينفجر في وجوه جيش بني أمية أسداً ضارياً وليثاً كاسراً، لم يوقفه الحصار الاقتصادي ولم يرهبه التضليل الفكري ولم ينزلق في حبائل الكذب والافتراء.
الإمام الحسين (ع) الذي سفك دمه وبذل مهجته وسُبي أهل بيته، انظروا إليه كيف يرى عرفان الله عليه! يقول عليه السلام في دعائه: ( لَمْ تَرْضَ لِي ياإِلهِي نِعْمَةً دُونَ اُخْرى وَرَزَقْتَنِي مِنْ أَنْواعِ المَعاشِ وَصُنُوفِ الرِّياشِ بِمَنِّكَ العَظِيمِ الأَعْظَمِ عَلَيَّ وَإِحْسانِكَ القَدِيمِ إِليَّ، حَتَّى إِذا اتْمَمْتَ عَلَيَّ جَمِيعَ النِّعَمِ وَصَرَفْتَ عَنِّي كُلَّ النِّقَمِ ….) فمع كل ما جرى عليه، يعد ذلك نعمة وعرفاناً من الله عليه، ويعدّ مواجهة يزيد وحربه وقتل جيش بني أميه نعمة، وصرفاً للنقمة.
إن هذين القطبين الأساسيين يمثلان بالنسبة لنا معياراً لتشخيص العرفان الصادق من العرفان الكاذب، وعلينا أن نحتاط من كل منهج يركز على بعد واحد من أبعاد كمال الإنسان، ويصبغ هذا البعد ويلفه بإحرام وعبارات إنسانية فضفاضة لتعبر حدودنا الاجتماعية في استغفال لنا.
0 تعليق