تقدم القراءة:

بين العرفان الكاذب والعرفان الصادق ٢

السبت 16 أبريل 2016مساءًالسبت

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

4
(1)

إنّ من أهم إنجازات الإمام زين العابدين عليه السلام تنقيحه منهج العرفان الإلهي العالمي. ويتضح هذا من خلال مقارنة منهج الإمام زين العابدين بكل التراث الروحي والعرفاني – الإلهي والإنساني – إذ لا يمكن انتهاج منهج روحي مضمون الإصابة وسليم من الخرافات والخيالات إلا بأخذه عن معصوم كامل العصمة.

هذه النتيجة نثبتها بمقدمتين:

المقدّمة الأولى:

إن جميع الديانات التي عرفها الإنسان وعاش أبعادها سواء كانت إلهية أو بشرية كالزرادشتية والبوذية لها جانبان أساسيان: 

  1. جانب روحي معنوي. ولنسمّه بعد التجربة الروحية .
  2. جانب قانوني وسلوكي، بتحويل المعطيات الروحية إلى تشريعات والتزامات (أوامر ونواه .. إلخ). ولنسمّه بعد التجربة الخارجية .

البعد الأول/ التجربة الروحية: وهو التجربة الدينية الداخلية أو الباطنية أو العرفان. ولا يكون الإنسان متدينا بمنطق جميع الأديان ما لم يكن مسكونا بهذه المعاني. ومن الضروري أن يجربها بنفسه، ويلمسها في أعماقه، فلا ينفعه أي معطى روحي إذا كان دافعه لممارسة هذه الروحانيات البيئة أو الوراثة أو المجتمع، أو أي منفعة يرجوها. لأن كل هذه البواعث لايمكن أن تجعل الإنسان منسوبا لهذا الدين، فأول الدين وجوهره هي التجارب التي يعيشها الإنسان في عقائده، وهذه نسميها التجربة الباطنية. وإنما نسميها تجربة لأن لها نتائج، وهي معرفة الإنسان بأعماقه، وانكشاف معتقده الشخصي ووضوحه له.

البعد الثاني/ التجربة الخارجية: وهو مدى التزام الإنسان بالقوانين التي تفرضها عليه حالته الباطنية، وانعكاس تجربته الباطنية على حركته.

وكل دين يشترط هذين البعدين حتى يستحق معتنقوه هويته.  والإسلام كدين عالمي يضمن الفوز بشرط التجربتين، يقول تعالى:﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إيمان + ممارسة، وعمل يصدّق الاعتقاد. وصرف كون الإنسان مهذبا لأن بيئته أو مجتمعه، أو الدولة، أو القانون، أو قوى أخرى تلزمه بالاستقامة والإحسان؛ لا يجعله متدينا طبق فلسفة الأديان، ولا يحقق ذلك إشراقة واقعية للدين في نفسه . فماهيات الإشراقات الدينية تختلف تماما. لأن شرطها امتزاج الذات بالمعرفة الشخصية عن إرادة واختيار ووعي. أي أن الوعي فصل مقوّم لها.

المقدّمة الثانية:

إذا تأملنا فيما وقعت فيه سائر الديانات غير الإسلام فقد اكتفت بأن يكون الإنسان ذا بعد واحد. يعيش المقدّس ويطلب الإيمان ولكن في باطنه فقط، فحصرت الغيب في التجربة الباطنية، فإيمان الإنسان الباطني يمكن أن يحصل عليه بحركات وطقوس معينة. أما تجربته الخارجية فلا يوجد قانون إلهي يحكمها. ولا توجد خطة عملية لتحويل إيمانه الباطني إلى نمط حياة. لذلك نجده يعتمد على استنتاجاته العلمية أو تجربته التاريخية أو تجربة الشعوب التي يستطيع أن يتصل بها. لذا عاشت تلك الأديان انفصام المقدس، والتفكيك بين الداخل والخارج. فكان الله عندهم محصورا ومسجونا في الباطن، أما الخارج فهم يديرونه وفق الذوق أو وفق ما تمليه عليهم المصلحة أو رأي الأكثرية أو الحاجة سواء كانت حقيقية أو وهمية. وهذا واضح جدا في المسيحية. فالأخلاق عندهم يفرضها القانون أو العادة أو البيئة أو التلقينات أو التعارفات أو المصالح المتبادلة.

قيل لفيلسوف غربي لماذا لا تسرق بقرة جارك؟ فقال: خشية أن تُسرق بقرتي. فالسرقة ليست قبيحة بذاتها؛ بل لأنها يمكن أن تؤدي إلى خسارته. والإنسان الذي يتبنى هذه الفلسفة لو وجد سبلا للسرقة تجنبه الإدانة لم يجد فيها ضيراً.

من يعيش هذا النمط من الحياة الذي يتصارع فيه الداخل والخارج سيصطدم بواقعيات كثيرة. ويضطر دائما للبحث عن حل مؤقت ومقطعي، وإلى إعادة تدوير تراثه الأخلاقي المعنوي، وتجديد تجاربه بإضافات وتعديلات. وسوف لن يكون عنده رؤية واضحة لنهاية حركته. وبناء كهذا يفتقر إلى التماسك بين الداخل والخارج سينهار ويؤول إلى السقوط، لأنه مبني على شفا جرف هار. وتجربة كهذه تدخل الإنسان أرض التيه، وقد تؤول به إلى الاقتناع بالخرافات والأوهام.

أما الذي وقع فيه أتباع الدين الإسلامي فهو العكس، ويتمثل في التركيز على التجربة الدينية الخارجية ولو كانت خالية من أي دعم باطني. فالمهم عند المتدين هو الالتزام بالفقه والأمر والنهي والسلطة الإلهية في الخارج، ولا يشترط للحكم على الإنسان بالانتماء إلى الدين أن يعيش قيمة أو تجربة باطنية، أو أن يرى الوجود المقدّس ويفتّش عنه في أعماقه. ليس من الضرورة أن يرى الكون منسجما مع باطنه الإيماني، فهو يرى في الشجرة منفعتها المادية ويرى في الأرض إمكانياتها وثرواتها، أما أن يرى تسبيح الكائنات لله، أو أن يلمس فيها شعورا عميقا يمسّ توحيده؛ فهذا أمر لا يستحق أن يبذل في سبيله الوقت والمال، أو أن وينظم حياته بناء عليه. فهذا عمل الدراويش من الناس المغلوبين على أمرهم!! هذا والمسلم يقرأ ليل نهار ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ  الإسراء: 44 ويقرأ : ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وهو العزيز الحكيم ﴾ الحشر: 24، بل يقرأ آية ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ الحشر: 5 هذه الآية – وفق أحد تأويلاتها – مليئة بشحنات روحية، فقد نزلت بعد معركة خيبر، حين اضطر المسلمون أن يدخلوا حصون اليهود فوطؤوا بخيولهم على بعض النباتات الليّنة الصغيرة الخضراء، فلم يتجاهل القرآن هذا المنظر، فالنباتات الصغيرة – وفق الثقافة الإسلامية – مشحونة بالتوحيد والتسبيح والتهليل، وهي تحس بالإنسان وتعرفه وستشهد له يوم القيامة إذا سقاها.  القرآن في هذه الآية يقدم تبريرا لما أقدم عليه المسلمون من وطء هذه النباتات، فيقول :إن المسلمين لم يفقدوا الشعور والإحساس حينما وطؤوها، بل أخذوا إذنا من الله بذلك. لأنه لا يمكن تحرير هذه الأرض إلا بوطء بعضها. وحيث أن قائد المعسكر هو علي عليه السلام فإذا وطأ أحد أفراد الجيش نبتة فبأذن الله. هذه الآية تبيّن أن فقه الإنسان المتدين وجهاده يمازجه الشعور، حتى أن تعامله مع النبتة التي يمرّ عليها هو جزء من إيمانه.

عرفان الإمام زين العابدين:

إذا قرأنا حياة الإمام زين العابدين عليه السلام نتساءل: هل يمكن لإمام عظيم أن لا يكون له إنجاز غير الأدعية والتسبيح والتهليل والبكاء وذكر مصيبه كربلاء ؟

للإجابة على هذا التساؤل لابدّ أن نعرف أن الدولة الأموية هي أكثر جهة استطاعت أن تسطّح الدين وتحوله إلى بعد واحد، فقد استعانت بمن عندهم حضارة سابقةمن رومانيين شرقيين، وبيزنطيين لتظهر بصورة الدولة القوية المنتصرة التي تتوسع وتبني القلاع الوتعيّن الوزراء وتبنى المساجد بالطراز المعماري الفني، وتعين القضاة وتقيم الحد فتجلد وترجم، في حال أنه لم توجد في أيام الخلفاء دولة بالمعنى الحقيقي، دولة المؤسسات والأنظمة والمناصب. ومن الطبيعيّ أن العربي الذي عاش الحياة القبلية البسيطة والبيئة الصحراوية الجافة سينبهر بهذا اللون من الحضارة، ويستصغر نفسه أمامها. كما يعجب شبابنا اليوم بالنظام الغربي، ويستشعرون الانكسار أمام إنجازاته القانونية والعلمية المادية المذهلة بالقياس إلى الظلم الممارس في الشرق باسم الدين.

الدولة الأموية في حقيقتها فاقدة لجوهر الدين، ولكنها تتذرع بعناوين فقهية لتسِم بها سلوكياتها ونظمها وهي بذلك تصنع من الدين فروا ولكن تلبسه مقلوبا، كما قال الأمير واصفا مثل هذا النظام. الفرو من أجمل اللباس لكن ما أقبحه حين يلبس مقلوبا.  

ماهو دور الإمام زين العابدين ؟

الإمام بوصفه الحامي الأصيل للدين لابدّ أن يواجه تلك الدولة بفرض الشق الآخر من الدين. لابدّ أن يفجر في وجهها قنابل ذرية تصنع في معامل الفطرة. لابدّ أن يبرز الجزء المغيّب من الدين وهو العرفان الحقّ. العرفان المعصوم الذي لم يكتسب بتجربة بشرية قد تشوبها الخيالات والأوهام. لابدّ من عرفان ترعاه العناية الإلهية، ويسدده روح القدس، ويؤدي إلى نتائج واقعية غير قابلة للتشكيك، عرفان يتعامل مع الإنسان بما هو موجود متألّه. كان لابدّ للإمام أن يخلع على الحياة خلعة ربانية صريحة، واضحة، محكمة، لا اشتباه فيها. لابدّ أن يكون إماما في هذا الموقع، والآخرون أتباع ومأمومون يجربون أنفسهم ويزنونها بهذا النتاج. لابدّ أن يعرفهم معالم التجربة الباطنية بشكل صريح واضح جليّ واسع، كما علمهم رسول الله الأحكام والفقه والآيات الإلهية. وقد آن الأوان ليتم اتخاذ هذا الدور. فكان زين العابدين ضرورة يقتضيها حال الأمة وواقعها وظرفها وآلامها. وكان هو حاجتها وسؤلها.  ولا يمكن لغير الإمام أن يقوم بذلك. لهذا لم يقم أحد الشيعة بتفجير معنى التجربة الباطنية، ذلك أن التجربة الباطنية مهمة جدا، وهي جوهر الدين، فلابدّ لها من روح معصومة. ولو أنها تركت لاختراعات الإنسان فربما اخترع ذكرا لعلاج أعضاء البدن مثلا، أو لعلاج مشاكله النفسية والعصبية، بينما المشكلة ليست كذلك. المشكلة عرفانية بالدرجة الأولى. فكما يعرف الناس الفقه والقانون يجب أن يتحسسوا التراب والهواء ويعيشوا مع هذه الموجودات حبها لله.  لابد أن يروا أن قطرات المطر مغموسة بالتوحيد،  وأن الأنهار التي ترسل الجيوش لاحتلالها باعتبارها ثروة؛ صوت جريانها ما هو إلا لحن يحرك الإيمان إلى درجات أعلى. إن من يقول: “سبحان الله عدد أمواج البحور” (1)  يجب عليه أن يعرف أمواج البحور، ويلمس في أعماقه وفي تجربته الباطنية الدينية تسبيح هذه الأمواج. ورد في الرواية : “النظر إلى البحر عبادة” وذلك لأن موج البحر يضرب أوتار التوحيد الذي سكن قلب المؤمن.

فلنقيّم ما يجري في أوساطنا اليوم .. بالله عليكم من يمارس رياضة اليوغا هل يرى أنه يقوم بعمل منسجم مع عقيدته؟

بماذا سينشغل عقله وقلبه وخياله؟

ماهي المعاني التي يعيشها؟ ماذا يملأ صفحة خياله؟

قارنوا بينه وبين من يقرأ دعاء من الصحيفة السجادية التي تبحر بعقله وخياله وقلبه في معان تطابق الواقع. هذا الإنسان لاشك أنه سيعيش الصلح والنظام مع نفسه أولا ومع الله ثانيا . إننا نفكر في مشاكلنا مع الناس كثيرا، والحال أن عندنا مشاكل متراكمة مع الله لا تأخذ من تفكيرنا مأخذ الجد. وللناس علينا أياد ننشغل بالخجل منهم في تعويضها، ولا نرى يد الله التي هي فوق أيديهم، نرى اليد السفلى ولا نرى العليا.

لقد كان دور الإمام زين العابدين هو إعادة هذا الميزان المقلوب لكي ننظر فوقنا ولا ننظر تحتنا فقط.

__________________________________________________________________________

1- مقطع من دعاء 

 

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 4 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 4 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 99٬204 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (2)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها