تقدم القراءة:

رسالة الحج بين واقعية الدين وسراب الدول الكبرى

الأحد 20 سبتمبر 2015مساءًالأحد

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

أبارك أصالة عن نفسي وباسم قافلة الهدى لحجاج بيت الله الحرام هذا الشرف الرفيع للدخول في ضيافة الله وأسأله لي ولهم دوام هذه السنة في الدنيا والآخرة ، وقد جاء في المناجاة الشعبانبة لأمير المؤمنين عليه السلام: ( إلـهي كَيْفَ آيَسُ مِنْ حُسْنِ نَظَرِكَ لي بَعْدَ مَماتي، وَاَنْتَ لَمْ تُوَلِّني إلاّ الْجَميلَ في حَياتي ) كما أحيّي الضيوف الكرام وأشكر لهم الاستجابة لهذه الدعوة. 

تختار حملة الهدى عنوانا يدور حولة ملتقى الحجاج سنويا وتسعى لأن يكون مرتبطا برسالة الحج الإلهية وأوضاع الأمة الإسلامية ، وقد كان عنوانها لهذه السنة  ( ففروا إلى الله ) مقتبسا من قوله تعالى :(فِرُّوا إِلَى اللَّه إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِير مُبِين) الذاريات: 50 لأن هذه الآية فسرت بالحج في السنة المطهرة . روي عن الباقر عليه السلام: ( “ففروا إلى الله” يعني حجوا إلى الله ) الكافى ج 4 ص 256

ولعل التأمل بشكل إجمالي وسريع في الملاكات الواضحة في النصوص الدينية وكذلك التجربة الخارجية يبين اتضاح حلقة الوصل بين الدعوة إلى الفرار في الآية ووظيفة الحج الإلهية . ويمكن توضيح ذلك ببيان بعدين:

الأول / البعد الفردي:  فالإنسان في حركته اليومية على اختلاف اهتماماته وتنوع انشغالاته الباطنية والفيزيائية هو دائما يتساءل عن سبب خلقه ووجوده وعلة كونه فردا  ضمن المخلوقات ، وهذا دليل وجداني على أن الإنسان يحتاج إلى أن يفر من نفسه ونقصه – كما يقول الفلاسفة – على صدق وحقيقة هذه الآية التي تدعو إلى الفرار ، لأنه مهما بحث عن جواب يعود ليلح عليه من جديد ويدرك ذلك بوجدانه، والوجدان كما نعلم أوسع دائرة معرفية تشمل النتائج التجريبية والعقلية على السواء .

إذن الإنسان بحاجة إلى الفرار،  ولكن إلى أين المفر ؟

الآية تحدد المكان والزمان والكيفيات والأحوال وارتباط الفرار إلى الله بالحج، ولكن استعرض الآيات التي تستعرض الملاك الموجود في خصوصية الحج والفرار إلى الله

  1. الإنسان الفار يحتاج إلى مأمن ، وقد جعل الله ذلك في بيته ، يقول تعالى: ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) آل عمران: 67
  2. الإنسان الفار يريد السلام، ورد في تفسير الآية: ( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ ) يونس: 52 أي إلى الحج .
  3. الإنسان لا يفر إلا وهو يريد حسن العاقبة ( وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) البقرة: 203

الثاني/ البعد الاجتماعي : حين نتأمل في واقع أمتنا وبقاعنا الإسلامية كلها سنجد أنها تعيش تلك المعاناة الفردية لكن بحجم أعمق وجروح أشد نزفا وآلم قرحا ، وأينما تولي وجهك شطر كل شبر منها تقابل إنسانا يستغيث أضناه السغب و يقابله مسرف أكبّت به بطنته.

 والملفت في الآية أنها تنسب الفرار كعمل اختياري إلى الأمة بأجمعها ، وهذا يستلزم من الأمة :  

1- أن تعرف دورها .

2- أن تحدد اتجاه حركتها ، وهذا ما حددته الآية فالله هو الوجهة .

3- أن تتحرك نحو غاية واحدة، مما يعني إزالة الفوارق  القبلية والمحلية ، وحذف التمايزات الوهمية وعدم الانحياز لفئة إلا بمقدار قربها علما وعملا من نقطة المركز وهو الله سبحانه  لكي لا تسقط في التفرق  والسراب وتغرق في ظلمة جهلها.

تجدر الإشارة إلى أن العبور على الآيات التي سبقت هذه الآية يفيد في إعانة الأمة على تحديد مسارها . من الآيات السابقة قوله تعالى : ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ • وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) الذاريات: 5-6

(إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (من الإطلاق في الآية يتبين أن الوعود الإلهيّة هي الصدق الذي يقابل وعود الهيئات والمنظّمات والمؤسّسات الدوليّة التي نصبت نفسها أزلاما تقصدها البشر من دون أن يكون لها أيّ واقع و لا مصداقيّة في قدراتها ووعودها أو ادعاءاتها ، وهي ليست إلا (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً) النور: 39 اللطيف في الآية أنها قالت يحسبه الظمآن ماءً أي ليس كل أحد بل العطش المضطر !  أمّا الأمم والشعوب  التي ارتوت من قدرات الأرض وإمكانياتها فهي لا تشعر بالظمأ ، فضلا عن شعورها بالحاجة للجوء لهذا السراب القاحل والخيال المتلوّن .

ولكن هذه الشعوب الظمئة ما إن تقصد سراب تلك المنظمات لا تجدها شيئا ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) لا أنه وجده لا شيء ، لأن اللاشيء لا يوجد وليس له حصة من التحقق (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)  لذا كان من المفترض أن تفرّ الأمم العطشى له جلّت عظمته حيث العدالة والحرية والكرامة والاستقلال.

العجيب أن النقاط الموجودة في الآية ( ففروا إلى الله ) وما سبقها وتلاها من آيات تشكل نسيجا متكاملا من الوعود الإلهية الصادقة هي نفس ما تعد به المنظمات الدولية اليوم ! إلا أنه كذب وتزييف ونحسبه ماء لظمئنا.

ورد في ميثاق الأمم المتّحدة – على سبيل المثال – أنّها تهدف إلى تحقيق أربعة مقاصد، هي: 

·     حفظ السلم والأمن الدوليين.

·     إنماء العلاقات الودية بين الأمم .

·     التعاون من أجل حل المشاكل الدولية ولتعزيز احترام حقوق الإنسان .

·     والعمل كجهة مرجعية لتنسيق أعمال الأمم .

هذه المنظمة تنصب نفسها جهة مرجعية للعالم وتتعهد بتحقيق الأمن والسلام ، وهو عين ما تدعو له الآية من جعل الله هو الجهة المرجعية وإليه الفرار ! ذلك أنه في كل مكان وزمان هناك أصنام وأزلام تأخذ صفات الله وتنسبها لها، هذه المنظمة  تدعي أنها جهة رسمية لإدارة الأمم  وتحقيق ما تصبو إليه ، والحال أن هذه المقاصد في الواقع تحتاج في تحقيقها إلى مؤهّلات خاصّة، و لا يمكن أن يتولّاها و يعد بها إلا الله تعالى وأولياؤه بالحقّ .

تدعي هذه الأمم الخمس التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية أنها من يمتلك القوة  بينما يقول الله في هذه السورة التي نحن في أجوائها :  ” إنّ الله هو الرزاق ذو القوّة المتين ” الذاريات: 58 فالعلم والقدرة والثبات والإحكام التامّ لله وحده ، كما أنّ له النزاهة المطلقة عن أيّ نحو من أنحاء الطمع والاستغلال للعباد ومقدّراتهم  ” ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون “ الذاريات: 75 إذ يشترط في الجهة التي تريد أن تحقق السلام في العالم أن تكون نزيهة غير منحازة وليس لها مطامع وهو ما تفتقر له هذه المنظمات والهيئات .

أخيراً الملفت أن الآيات التي تليها مدحت المتقين (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الذاريات: 15  مع أن هذه الآيات نزلت قبل نزول التشريعات الإلهية من صلاة وصوم وغيرها ، لذا فعلى الظاهر أنها تصف التقوى المعرفية والانتمائية، وتحديد المسيرة والكينونة والنظرة العادلة، وهذا ما يرتجي من الأمة في الحج؛ أن تحدد جهة حركتها وكينونتها.  وما الهدف من ملتقى اجتماع القوافل في ظل هذا الشعار إلا هذه الثلاث الشعب:

  1. تحديد الأمة الواقع في  قضاياها مقابل السراب والوهم والمخططات الشيطانية واللهث خلفها. أقصد بالواقع  هنا الحقيقة والرؤية الفلسفية و العلمية للدين ، فيجب على هذه الأمّة أن تسعى بعلم ومعرفة واجتهاد لإرساء وتشييد معالم الدين المطابق للواقع ، لا ما هو موروث لصرف أنّه موروث ، ولا المعتاد لأنسها به، بل تأخذ بالحكمة العلمية والعملية بحيادية تامة.  
  2. الثقة بما عند الله و وعوده المنصوصة في آياته إن ما توعدون لصادق.
  3. التشبث بمنابع الوعد الصادق. فلولا الأمل المشرق ما عاشت الأمم ، ولا تحركت ولا انبعثت ولا نشطت باتجاه أهدافها . و لا شك أن هذا يستلزم استشرافا لوعود صادقة كأجور مقابل حملها مسئولياتها الكبار، و إلا فإن الكذب لا يحرك ساكنا و لا يبعث على طلب وسعي وممارسة معينة .

وبالتواصل في ملتقى الحج نفر جميعا معتصمين ببيت واحد في زمان واحد ومقصد واحد ونتعاون لتحقيق هذه الأهداف الكبرى . فالشعوب العازمة على الحج الواقعي تجد في الفرار إلى الله  ذي القوة المتين  العزة والكرامة والدعم والاحتواء ، وتحقق أهدافها ، و تتجرّد من ذلة التوسل والخنوع والخوف من غيره ، و تجد بذلك الربط بين الحجّ والفرار إلى الله بلوازمه الكاملة .

______________________________________________________

* ورقة العالمة الفاضلة في ملتقى الحج  السنوي الذي تقيمه قافلة الهدى للحج والعمرة في مكة لعام 1436هـ 

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 118٬200 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها