يحتاج الإنسان في مثل هذه الأيام إلى استعداد روحي ونفسي وبدني، وإلى تهيئة البعد العصبي بتركيز تفكيره ومشاعره في نقطة معينة، وسحب سائر تمركزاته واهتماماته وتشتتاته وحصرها في البعد الروحي. (1)
يمكن القول بأن عرفة أشبه بالملف المضغوط قياساً إلى البرنامج المفصّل في شهر رمضان. كل الخصوصيات التي اختص بها شهر رمضان من بدايته إلى نهايته مختصرة في هذه الساعات القليلة التي نعيشها في عرفة. فإذا كانت أيدي الشياطين مغلولة في شهر رمضان فقد ورد عندنا عن الإمام الصادق (ع) (ما وقف بهذا الموقف أحد من الناس مؤمن ولا كافر إلا غفر الله له).مع أننا نعرف أن الشرط الأساسي لقبول الأعمال هو الولاية لأهل البيت عليهم السلام؛ لكن عرفة لها هذه الخصوصية. لذلك هذه لحظات مهمة وحساسة جداً، و تحتاج إلى همّة عالية وحركة سريعة على الصعد الروحية والفكرية والعصبية والثقافية والعلمية تتناسب مع الفرار إلى الله.
نبي الله إبراهيم نموذج الفارّ إلى الله:
اللطيف أن آيات سورة الذاريات التي نحن بصددها بعد أن تحدثت عن المتقين والخرّاصين؛ تحدثت في المقطع الثاني عن نبي الله إبراهيم كنموذج للفارّ الهارب إلى الله. وإبراهيم والحج مقترنان، ولا يمكن أن نعي منسك الحج وعياً قرآنياً مع استثناء حركة نبي الله إبراهيم.
إبراهيم كان أمة وقدوة وأسوة، يقول الله ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ الحج 78 يقال أن ( ملّة ) نُصبت بفعل محذوف تقديره اتبعوا أو التزموا. وكأن الآية تريد أن تقول أن إبراهيم هو أبوكم و ليس غريباً عنكم، وكل إنسان لديه ميل فطري لقراءة سيرة آبائه وأجداده العنصريين، فكيف إذا كان هذا الأب هو الأب الواقعي الحقيقي، فعندما تقول لأحد: أبوك كان سلوكه كذا فأنت تشجعه على اتباع سيرته.
السلوك الإبراهيمي الذي حكاه القرآن يصوّر نموذج الفارّ الهارب من كل شيء إلى الله؛ من البيت من الزوجة من الابن .. من كل ما يحبّ. طبعاً لا يمكن أن نتبع ملة إبراهيم في كل سلوكنا آنا آنا، والله يعلم أن ذلك سيكون ثقيلاً علينا، فالإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يحافظ على هذا النوع من التمركز الروحي العلمي والمعرفي طول حياته، لهذا فإن ذهابنا إلى بيت الله هو فرصة لنتمثل حركة النبي إبراهيم ونعيش دورة حياته كاملة بشكل مختصر في عرفة.
مبتدأ الدين هو تذوق حالة الفرار واللجوء إلى الله، وأول الدين معرفة الله سبحانه وتعالى بصفاته الجمالية والجلالية، وإبراهيم هو النموذج الذي نتمثله في الفرار إلى الله، فهوالذي كشف الله له كيفية الفرار إليه ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..﴾ الأنعام 75 روي أن إبراهيم عندما دخل عرفة كشف الله له ملكوت هذه الأرض. إذن نحن في عرفة نتمثل حركة نبي الله إبراهيم و نفرّ إلى الله ونلجأ إليه وتبدأ حركة الاتصال والقرب وإزالة المسافات بيننا وبين الله في هذه الساعات الست.
قد يرد سؤال: ما الدليل الوجداني على أن الإنسان يميل إلى إزالة هذه المسافات؟
الجواب: إن كل إنسان مهما كانت مرتبته الروحية والأخلاقية وإمكاناته العلمية والمالية؛ فهو يبقى شاعراً بأن لا مبرر لوجوده مهما كان موفّقاً حتى الأنبياء. ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله كان يقول في مناجاته (إلهي ليتك ما خلقت محمدا) قد يبعث ذلك على الاستغراب لكنه في الحقيقة حكاية عن هذا الشعور الفطري الذي يلازم الإنسان.
ولتفصيل ذلك نقول: إن لمحمد (ص)وجودان، الأول وجود محمد بالنظر إلى علاقته ببقية الموجودات، والثاني هو وجود محمد بالقياس إلى واجب الوجود، الذي يجعل بين محمد وبين الله مسافة وفاصلة كبيرة، وشعور رسول الله (ص) بأن خلقته هي حجاب وفاصلة بينه وبين الله هو الباعث على هذه المناجاة ، فمادام الإنسان لم يصل فعلاً إلى الهدف النهائي فإن بحثه عن مبرر لوجوده لا ينتهي. نحن إذا نظرنا إلى وجود رسول الله بالقياس إلى سائر الكائنات نراه (ص) مظهر خليفة الله التام الكامل، لكن إذا نظر هو (ص) إلى نفسه بالقياس إلى طموحه في الاندكاك في الباري جلت قدرته يقول: ليت خلقي لم يتحقق حتى لا يكون خلقي حجاب بيني وبينك.
هل يمكن الفرار إلى الله ؟
أول مسألة في الأصول هي البحث عن الأمر في المقدور، فالأمر بغير المقدور لا يمكن عقلاً، الآية لم تقل فروا إلى الغفور ولا إلى الرحيم أو الرحمن، قالت فروا إلى الله الذي هو (الاسم الجامع لصفات الله الجمالية والجلالية) ولكن، كيف نتصور إمكانية تتحقق ذلك؟
لو تُرك الإنسان ومعرفته المحدودة لا يمكن أن يتصور إمكانية تحقق ذلك إلا بدخالة الوحي. الوحي يعلّم الإنسان إلى أي مكان يفر؟ في أي زمان يفر؟ الداعي إلى الفرار إليه هو الله سبحانه، ويعد بالوعد الصادق أن يتحقق الاتصال به سبحانه في هذه الساعات الست.
ثم الأمور التي فيها بُعد مِنني موهبتي يقبح فيها الاشتراط والتقييد. فلا يمكن أن تقول الآية: ففروا إلى الله وتدعو للفرار ثم تقيّد ذلك وتقول فرّ إلى الله بشرط أن تكون متقياً! العطايا والمنح الكبار يقبح فيها الاشتراط، فحين يدعو الله الناس إلى دعائه ويقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ غافر 60 فهذا يعني أن استجابة الدعاء غير مقيدة بشرط لأنها منّة وعطية.
الفرار إلى الله سبحانه بالطريقة الإبراهيمية يتحقق في هذه الساعات الست في عرفة، وهذا الفرار ليس إلا عطية إلهية. من يطلب المال سيرزقه الله المال، ومن يطلب الذرية سيعطيه الله الذرية… يقبح أن يُشترط في تقبل الفرار إلى الله وضع شروط، حتى الولاية ليست شرطاً، كل من دخل أرض عرفة محرماً قاصداً مستجيباً لنداء لله سبحانه يتقبل منه ويقبل فراره ولجوؤه إلى الله سبحانه، وأدعية عرفة منظومة مليئة بالمعاني صاغها أهل البيت بأروع ما يكون، لتكون محفزات للإنسان للفرار إلى الله.
هذا الإنسان الذي لا حجم له ولا خطر (وما أنا يا ربي وما خطري) يفر إلى الله لا من تلقاء نفسه بل بدعوة من الله تعالى. والفرار إلى الله واللجوء إليه وفق سنة إبراهيم ليس غريباً علينا ولا أجنبياً عنا، إبراهيم أبونا وهذا ليس نسباً ادعيناه، وإنما القرآن يؤكد هذا النسب الأصيل والرابط الأساسي والعلقة الحقيقية.
إذن محفزات الإنسان للفرار إلى الله محفزات ذاتية، جزء كبير منها فطري، إذ لا يوجد أحد لا يسأل عن سبب وجوده، والهدف منه، حتى رسول الله (ص) الذي وصل إلى مقام قاب قوسين أو أدنى هو أيضا يأتي بهذه العبادات على نحو الفرار إلى الله. هذه الحركة ليست صرف حركة علمية وذهنية، كل الجوارح والبدن والروح والقلب.
الإدبار في مواسم الطاعة:
قد يفاجأ الإنسان تحت تأثير هذه المحفزات الكبيرة جداً و في المواقع الحساسة جداً بأن قلبه لا يستجيب، ربما لفرط ما تهيأ ولشدة رغبته في تأدية العبادة على أكمل ووجه، البعض يزور الإمام الحسين (ع) في بيته متوجها خاشعا، وعندما يوفق للمثول في حضرته (ع) يفقد هذا الخشوع، هذه الحالة يمكن أن تطرأ على الإنسان. لكن ميزة عرفة أن لكل جارحة وظيفة تؤديها، فلو افترضنا بأن القلب لم يؤد وظيفته بالخشوع فاللسان سيؤدي وظيفته بالذكر، إذا كان قلبك ليس بيدك فإن جوارحك بيدك، وهذا مصداق للفرار، إذا استعصى القلب فإن الجوارح تؤدي وظائفها، الإمام الحسين في دعاء عرفة يعالج هذه الحالة فيقول: (فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَسْتَقْبِلُكَ (أَسْتَقِيلُكَ) يَا مَوْلاَيَ، أَبِسَمْعِي أَمْ بِبَصَرِي، أَمْ بِلِسَانِي، أَمْ بِيَدِي، أَمْ بِرِجْلِي، أَلَيْسَ كُلُّهَا نِعَمَكَ عِندِي، وَبِكُلِّهَا عَصَيْتُكَ يَا مَوْلاَيَ). اللسان البصر السمع.. هذه كلها بإرادة الإنسان. وعندما أمرك الله بالفرار أعطاك المكنة للفرار، والله يرضى منك بهذا القدر، إذا أخذت من الله سبحانه هذه العطايا فأنت من المحسنين.
أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الفارين اللاجئين العائذين اللائذين إليه جلت قدرته وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
1- ألقيت المحاضرة تهيئة ليوم عرفة
0 تعليق