في هذه الليلة التي هي خير من ألف شهر تجتمع في قلب المؤمن حرمتان: حرمة القرآن و نزوله في هذه الليلة، وحرمة الثقل الآخر أهل بيت العصمة و الطهارة متجسداً في علي عليه السلام. و نحن نتوسل لله سبحانه و تعالى بكليهما فمن اجتمع له هذين السببين أمن من الضلال والسقوط والانحراف، ولذا نقول في الدعاء (اللّهُمَّ بِذِمَّةِ الاِسْلامِ أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ وَبِحُرْمَةِ القُرْآنِ أَعْتَمِدُ عَلَيْكَ، وَبِحُبِّي النَّبِيَّ الاُمِّيَّ القَرَشِيَّ الهاشِمِيَّ العَرَبِيَّ التِّهامِيَّ المَكِّيَّ المَدَنِيَّ أَرْجُو الزُّلْفَةَ لَدَيْكَ، فَلا تُوحِشِ اسْتِئْناسَ إِيْمانِي وَلا تَجْعَلْ ثَوابِي ثَوابَ مَنْ عَبَدَ سِواكَ، فَإِنَّ قَوْما آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ لِيَحْقِنُوا بِهِ دِمائَهُمْ فَأَدْرَكُوا ما أَمَّلُوا وإِنّا آمَنّا بِكَ بِأَلْسِنَتِنا وَقُلُوبِنا لِتَعْفُوَ عَنّا، فَأَدْرِكْنا ما أَمَّلْنا وَثَبِّتْ رَجائَكَ فِي صُدُورِنا، وَلا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهّابُ.)(1) هذا الكلام إذا قلناه في هذه الليلة التي يجتمع فيها الثقلان متمسكين بهما فنحن بلا شك نتمسك بالوسيلة القطعية المتصلة بالسماء، فمن تمسك بهذين الحبلين لا شك أنه يهتدي، و الهداية هنا ليست الهداية النظرية فقط و إنما الإيصال إلى الله، والوصول إلى المقصد. ولذا لا بد ن نفهم حقيقة انضمام هذين الثقلين.
لا زلنا في معرض حديثنا عن الآية ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * ﴾(2)
وقلنا بالأمس أن هذا العهد لابد أن يكون واضحاً لا غموض فيه، إذن متعلق هذا العهد المأخوذ سواء قلنا أنه القرآن الناطق أو القرآن الصامت فإنّه واضح بيّن، و لذا نحتاج إلى بيان هذا التلاحم و انضمام القرآن للعترة ولأمير المؤمنين (ع) على وجه الخصوص. فكيف يحدث هذا الانضمام، وماهي حقيقة هذا الاتحاد؟ وهل يمكن أن نتصوره؟ هل هو كضمّ جسم لجسم ليكوّنا حقيقة واحدة مركبة كما تضمّ الماء للسكر فيذوب فيها ويصبحان واحدا؟!
إن مطالعة متأنية لنصوص كثيرة وردت عن كلا الفريقين تكشف هذا الانضمام والاتحاد بين الثقلين، منها الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله “القرآن مأدبة الله”. سنقرأ هذه الرواية بشيء من التعمق والتفصيل لنفهم حقيقة الالتحام الذي بين المعصومين – وعلي (ع ) خصوصاً – وبين القرآن.
كلمة ( مأدبة ) تقرأ بقراءتين : مأدُبة ( بضمّ الدال) وتعني المائدة و الطعام الحاضر، ومأدَبة ( بفتح الدال) من الأدب والتأديب. وما يعنينا هو المعنى الثاني ومنه سنستفيد معنى التلاحم بين علي والقرآن.
مأدَبة تعني مكان تعلّم الأدب. كان العرب قديماً يرسلون أبناءهم للمؤدِّب ليتعلموا فنون اللغة و الشعر و البديع و البيان، ويسمّون المكان الذي يوجد فيه المؤدِّب مأدَبة. ويمكن أن تكونالمأدبة المكانة لا المكان ، وهذا ما سيتضح لاحقا.
والأدب هو معرفة الشيء ورعاية حقوقه وحدوده، من هنا يسمى الذي يتقن الكلام لغة وبياناً وبلاغة أديباً، لأنه يراعي حقّ الكلمة لمعرفته حدّها. ولكن لنتأمل في الإنسان … هل هو صرف محاور و متكلّم؟ وهل القرآن هو صرف ألفاظ وكلمات؟ أو أن لكلّ من القرآن والإنسان أبعاداً أخرى؟
لا شك أن للإنسان أبعاداً كثيرة غير الكلام واللغة، قد يكون الإنسان أديباً في كلامه لكنه ليس كذلك في أخلاقه و في تعاطيه وتعامله، فلا يراعي حدود وحقوق الأشياء، فهل يمكن لهذا أن يكون أديبا؟ وقد يكون أديباً أخلاقيا لكنه ناقص العلم فلا يعرف حدود الأشياء، ولا يمكن له مراعاتها. وقد يكون ذاعلم لكن إرادته ضعيفة لا يطبّق بها ما يعرف من حقوق. إذن الأدب الواقعي هو معرفة حدود الأشياء ومراعاتها عمليا.
عندما يقال أن القرآن مأدَبة الله فهذا يعني أن القرآن كما يؤدّب الإنسان على أصول اللغة والكلام فهو يعلّم الإنسان أيضاً أسرار الأشياء، ألم نقل أن حقيقة الأدب هي معرفة حدود الأشياء ومراعاتها! فإذا كان الإنسان قد تأدب بالقرآن الذي فيه تبيان لكلّ شيء من أسرار الطبيعة إلى أسرار عالم المادة إلى عالم الغيب وفيه علوم الحاضر والمستقبل.. هذا الكتاب حين يكون هو المأدَبة ويتأدب الإنسان من خلاله فسيقول (أدبني ربي فأحسن تأديبي)(3). أدبني ربي لا تعني أن الله علّمني ألفاظ القرآن وعباراته، بل تعني أن الله عبّأ وجودي بمعرفة حدود وحقوق ومراعاة كل شيء. عندما يؤدب الله سبحانه فهو يتصرف في الروْع والسرّ و الباطن، لذا سوف يُحسن التأديب ، فالإحسان هو غاية مايمكن أن يأتي به الإنسان في التعاطي مع أي شيء. والتأديب الذي يصح نسبته الى الله سبحانه هو التأديب الكامل ، لذا فمن يؤدبه الله فليس هناك صغيرة ولا كبيرة إلا وهو يعرف حقوقها وحدودها في كل زمان ومكان.
في ظلّ هذا الفهم دعونا نقرأ قول رسول الله (ص) ( أنا أديب الله، وعلي أديبي )(4) لنعرف أديب الرسول وهو علي عليه السلام.
يتحدّث أمير المؤمنين (ع) عن هذا التأديب فيقول: ( وقد علمتم موضعي من رسول الله – صلى الله عليه وآله – بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره، ويضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل ..) (5) هذه الراوية حجة يحتج فيها أمير المؤمنين (ع) على أهليّته في كل زمان وفي كل مكان، وينبغي أن نتأمل في هذه الحجة لأنها احتجاج عقلي وليس مجرد حديث عن القرابة والنسب والمحبة.
على أي شيء تدلّ هذه المظاهر الحسية التي يستشهد بها الأمير؟! وما علاقة ذلك بأن لا يجد له كذبة في قول ولا خطلة في فعل؟!! هذا الانضمام الحسي في الحقيقة هو انضمام مكانة وليس انضمام مكان، هذه المنزلة لها مظاهر في عالم الحس، وهذا القرب الحسّي من رسول الله جعله يراعي الأقوال والأفعال وحدود الأشياء لذا لم يجد له كذبة في قول ولا خطلة في فعل.
وحدة الأمير مع القرآن:
إذا أخذنا هذا المعنى ورجعنا إلى أن ( القرآن مأدبة الله ) فنستفيد أن هناك وحدة بين أمير المؤمنين (ع) وبين القرآن، فرسول الله (ص) عندما يؤدب أمير المؤمنين عليهما السلام يعني أنه يلقي في روع الأمير أدب القرآن ويصنع به قلبه و روحه، فكل ما يصدر عن الأمير تجاه كل شيء هو ضمن مراعاة حده ومراعاة حقوقه. لذلك من الخطأ أن نتصور أن أمير المؤمنين (ع) علّمنا نهج البلاغة، بل هو علّمنا نهج الحياة ونهج الوجود و كل ما ارتبط بالوجود فإن أمير المؤمنين (ع) يراعي كل حدوده.
وهذا دليل عقلي لم يردّه أحد من الصحابة، فعندما كان أمير المؤمنين (ع) يستشهد بهذه المعاني في موارد مطالبته السياسية كان ذلك مقبولاً من المسلمين لأنهم كانوا يعرفون أن المقصود من مثل هذه الشواهد أن هناك اتحاداً تاماً وانسجاماً كاملاً بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين أمير المؤمنين عليه السلام، وهذا معناه انحصار العهد والميثاق في أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام. ولأن علياً أديب رسول الله (ص) الذي هو أديب القرآن فإن خصائص علي والقرآن واحدة، المأدَبة تعطي الأديب خصائصها. فماهي خصائص القرآن؟
١- القرآن حق محض: ولأنه مرآة تعكس عن الحق تعالى فهو ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾(6) لأن الباطل هو العدم وكلام الله صادر عن ذات الحقيقة والوجود، وهو الحق المحض ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقّ ﴾(7) الذي ذاته حق فلا يصدر منه إلا الحق، فأديبها يصبح هو محض حقّ ( علي مع الحق والحق مع علي، والحق يدور حيثما دار علي )(8) ولا يأتي علياً باطل من بين يديه ولا من خلفه، وكما يقول الشهيد الصدر كان الحق كمركزية الفرجار لعلي (ع) فهو أينما دار لا يخرج من دائرة الحق. لأن تأديبه ليس لفظياً ظاهريا، بل إن من أدبه تصرّف في وجوده وحقيقته، لذا ما عرضت عليه (ع) قضية إلا وأجاب عليها، لأنه لم ينضم إلى القرآن انضماماً اعتبارياً بل هو انضمام وجودي كالحقائق التكوينية.
٢- القرآن نور: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ﴾(9) ، ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا ﴾(10)، القرآن يعبر عن نفسه بأنه نور، ومن خصائص النور أنه يظهر نفسه ويظهر غيره. وعلي أيضاً نور . ورد في الرويات ( خلقت أنا و علي ابن أبي طالب من نور واحد )(11)، وَ ( أول ما خلق الله نوري ونور علي )(12) لذا فهو (ع) ظاهر بنفسه ومظهر لغيره ( يا علي شيعتك على منابر من نور مبيضة وجوههم حولي في الجنة ) وكما أن القرآن يحدث نورانية وجودية في ذهن وقلب من يعرفه كذلك أمير المؤمنين عليه السلام ينوّر من يعرفه ويحبه .
٣- القرآن شفاء لما في الصدور : من جهل وغلّ وجبن وبخل، والقرآن يعطي الصحة ويعيد النفوس إلى مسارها الطبيعي، ويرجع الأمور من حالة الانحراف إلى حالة الاستقامة، أمير المؤمنين عليه السلام كذلك هو شفاء لما في الصدور، والدليل الوجداني على ذلك واضح، وأما الدليل التاريخي فالشواهد على ذلك كثيرة منها ما ورد في إسلام عمرو بن معد يكرب “قالوا: لما عاد رسول الله (ص) من تبوك إلى المدينة قدم إليه عمرو بن معدي كرب، فقال له النبي (ص) أسلم يا عمرو يؤمنك الله من الفزع الأكبر. قال: يا محمد، وما الفزع الأكبر؟ فإني لا أفزع. فقال: يا عمرو، إنه ليس كما تظن وتحسب، إن الناس يصاح بهم صيحة واحدة، فلا يبقى ميت إلا نشر، ولا حي إلا مات، إلا ما شاء الله، ثم يصاح بهم صيحة أخرى، فينشر من مات، ويصفون جميعاً، وتنشق السماء، وتهد الأرض، وتخر الجبال هداً، وترمي النار بمثل الجبال شرراً، فلا يبقي ذو روح إلا انخلع قلبه، وذكر ذنبه، وشغل بنفسه إلا من شاء الله، فأين أنت يا عمرو من هذا؟ قال: ألا إني أسمع أمراً عظيماً؛ فآمن بالله ورسوله، و آمن معه من قومه ناس، ورجعوا إلى قومهم. ( ثم حدث ما جعل عمرو بن معدي كرب ينصرف مرتداً)… فأغار على قوم من بني الحارث بن كعب، ومضى إلى قومه. فاستدعى رسول الله «صلى الله عليه وآله» علي بن أبي طالب «عليه السلام» وأمَّره على المهاجرين، وأنفذه إلى بني زبيد…فسار أمير المؤمنين «عليه السلام» حتى لقي بني زبيد بواد يقال له: كثير (أو كسير)، فلما رآه بنو زبيد قالوا لعمرو: كيف أنت يا أبا ثور إذا لقيك هذا الغلام القرشي فأخذ منك الإتاوة؟! قال: سيعلم إن لقيني.
قال: وخرج عمرو فقال: من يبارز؟ ثم برز إليه أمير المؤمنين «عليه السلام»، فصاح به صيحة، فانهزم عمرو، … فرجع عمرو بن معدي كرب… فعاد إلى الإسلام”.(13)
وكأنه يقول له هذه الصيحة التي ارتعدت منها وارتجفت خوفا، هي ما كنت أُخبرتَ به من صيحة يوم الفزع الأكبر، وكأنه أراه الصيحة يوم الفزع الأكبر و أنزل عالم يوم القيامة إلى الحسّ… فكان عليّا شفاء لقلبه و عاد من كفره إلى الإسلام .
القرآن كلام الله ومأدبة الله والذي يتحد مع هذه المأدبة و يتحد مع القرآن هو أمير المؤمنين فعلي هو منكس الرايات الذي من صيحته ينزل يوم الفزع الأكبر، إذا أردنا أن نعرف مكانة وشجاعة ومهابة وعلم علي التي لا يمكن إلا أن تنسب لله فلا طريق إلا معرفة القرآن.
أمير المؤمنين هذا البطل الإلهي في مثل هذه الليلة ينهكه التعب، ورغم شدة آلامه إلا أنه كان يعلّم ويعظ. يقول في وصيته للحسنين ( الله الله في الأيتام، فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم ) في هذا الموقف يقول الإمام الحسن (ع) ( لقد تعلمت البكاء من أجلك يا أبي ) نعم هذا البكاء بحاجة لتعلم لأن خلفيّته معرفة شأن علي (ع)، ثم قال ( يعز علي أن أراك هكذا يا منكس الأبطال عن سروجها ).
ألا لعنة الله على الظالمين.
(1) دعاء أبي حمزة
(2) سورة يس 60-61
(3) عن رسول الله (ص) بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 16ص 210
(4) بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 16 – ص 231
(5) تكملة الرواية (… ولقد قرن الله به ، صلى الله عليه وآله ، من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر أمه يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله ، وخديجة ، وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة . ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه ، صلى الله عليه وآله ، فقلت يا رسول الله ، ما هذه الرنة ؟ فقال : ” هذا الشيطان أيس من عبادته ، انك تسمع ما اسمع ، وترى ما أرى ، الا إنك لست بنبي ، ولكنك وزير ، وإنك لعلى خير )
(6) فصلت 42
(7) الحج 6
(8) المناقب ، ج٣،ص٦٢
(9) النساء 174
(10) التغابن 8
(11) بحار الأنوار ، ج ١٥، ص١١، عن معاني الأخبار
(12) ورد هذا المعنى في روايات كثيرة ، منها ما ورد في البحار ، ج ٢٥، ص٢٣ : عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال : إن الله سبحانه تفرد في وحدانيته ثم تكلم بكلمة فصارت نورا ، ثم خلق من ذلك النور محمدا وعليا وعترته عليهم السلام .
(13) الإرشاد للمفيد ج1 ص159 ـ 161
0 تعليق