تقدم القراءة:

السيد اللطيف والعنصر العفيف

الأربعاء 6 مايو 2015صباحًاالأربعاء

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

5
(1)

ورد في دعاء ليلة المبعث: ( اَللّـهُمَّ فَاِنّا نَسْأَلُكَ بِالْمَبْعَثِ الشَّريفِ، وَالسَّيِّدِ اللَّطيفِ، وَالْعُنْصُرِ الْعَفيفِ أن تصَلّي على محمد واله )

يبدو مقطع الدعاء في ظاهره واضحا بيّنا ولا تحتاج معانيه الى توضيح وتفتيق، ولكن لو عرضناه على الصورة التي يعرضها القران للرسول صلى الله عليه وآله فسوف نجد فيه إشارات عميقة جدا عن باطن رسول الله (ص) وسيعكس لنا اتحاد بيانات المعصومين والقران، فلولم يكن قائل هذ الكلام معصوما في علمه ومعرفته ومحيطا ببواطن الآيات الواصفة لرسول الله لما استطاع ان يصف شأن هذه الليلة وشأن رسول الله.

معرفة النبي من أفضل القربات:

تعد أصل معرفة رسول الله ومحبته من أفضل القربات التي تضمن للإنسان سعادة الدنيا والآخرة وسلامتهما.

يتصور الإنسان دائماً أن القربات هي ما يقوم بها ببدنه والحال أن طريق الأعمال الجوانحية له أثر أكبر. وحالة الحب بحد نفسها من الأعمال الجوانحية التي كلما ازداد منها الانسان ارتفع مقامه. بل كانت سببا من أسباب قبول بقية الأعمال لأنها تغير في جوهر أعمال الإنسان. لذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ألا ومن مات على حب آل محمد ، مات شهيدا ، ألا ومن مات على حب آل محمد، مات مغفورا له، ألا ومن مات على حب آل محمد، مات تائبا ، ألا ومن مات على حب آل محمد، مات مؤمنا مستكمل الإيمان … ) (1)، ومن هنا يقول الإمام زين العابدين في دعائه (اللّهُمَّ بِذِمَّةِ الإِسْلاَمِ أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ، وَبِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ أَعْتَمِدُ عَلَيْكَ، وَبِحُبِّي النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الْقُرَشِيَّ الْهَاشِمِيَّ الْعَرَبِيَّ التِّهَامِيَّ الْمَكِّيَّ الْمَدَنِيَّ أَرْجُو الزُّلْفَةَ لَدَيْكَ) (2) فحب رسول الله له ما للتمسك بذمة الاسلام وحرمة القرآن، ومن عرف مقامات رسول الله أكثر فإن أعماله التي تصدر بنشاط بدنيّ أقل تكون ذا قيمة أكبر وأجر أكثر، أنّ النشاط القلبي والروحي أصعب من الجهد البدني، وللحركة الجوانحية الثقل الأكبر وقد ثبت ذلك بالأدلة العقلية والنقلية في محله.

سورة الشرح حكاية عن باطن رسول الله (ص):

ورد في فضل سورة الشرح قول رسول الله صلى الله عليه وآله: “مَنْ قرأَ ألمْ نشرحْ، فكأنَّما جاءَنِي وأنَا مُغْتمٌّ، ففرَّجَعَنِّي” و (قرأ) في مثل هذه الموارد لا تعني القراءة المجرّدة بل هي القراءة العميقة، كما نقول في الاصطلاح الحديث قرأ الحدث أي وعاه وفهمه.

ومن المعلوم لدينا أن سورة الضحى وسورة الشرح هما بقوّة سورة واحدة، لذا لا يجوز قراءة إحداهما دون الأخرى في الصلاة، وقد شرحنا سورة الضحى في العام الماضي وقلنا أنها تتحدث عن ظرف رسول الله الخارجي وامتنان الله عليه في محيطه الظاهر ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى  أما ألم نشرح فتتكلم عن المحيط الباطني لرسول الله ومناخ وجو وأحوال قلبه وروحه صلى الله عليه وآله. فالسورتان تخاطبان النبي بشكل مباشر وكلاهما تتكلم عن منّه إلهية خاصة بالنبي، لكن الضحى تتحدث عن المحيط الاجتماعي لرسول الله والشرح تتحدث عن المحيط الوجودي له صلوات الله عليه وآله. وسنمضي مع الآيات لنستعرض هذا المحيط الباطني لرسول الله (ص).

(ألمْ نشرَحْ لك صَدْرك):

الآية في موقع الامتنان على رسول الله، ولكن لهذه العطيّة الإلهية انعكاس على كل الوجود، فلها آثار على كل فرد من هذه الأمة، بل على الكون والموجودات والناس والملائكة. 

كان يكفي أن تكتفي الآية بقول (ألم نشرح صدرك) لكنها أضافت (لك) لنكات كثيرة أهمها الإمعان في التأكيد على آثار هذه المنة وأبعاد هذه العطية. تماما كما يؤكد الاستاذ شرح الدرس لطالبه فيقول شرحت ( لك )  الدرس، ولا يكتفي بقول: شرحت الدرس.

الفرق بين الشرح والتوسعة:

السعة التوسع في العرض، أما الشرح فهو التوسع في العمق، ومن هنا قيل لبيان الأستاذ شرحا فالأستاذ يوضح الأمور الغامضة ويعمقها بحيث يفهمها طلابه.  

ثم إن السعة قد تكون لأمور مادية أو معنوية على السواء، فسعة الصدر وسيلة للقدرة على سياسة الأمور، وقد قيل ( آلة الرياسة سعة الصدر ) فسعة الصدر تعطي موقعا بغض النظر عن الأهداف والغايات. فرعون – مثلا –  كان  يملك هذا النوع من السعة فقد كان يدعي الديمقراطية  ﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيم،  يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ، قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِين (3)  فهو ظاهرا لا يتفرد بالرأي بل يستشير قومه وملأه، وهذا اللون من التعاطي هو من مظاهر سعة الصدر وبه تبقى الرئاسة وتثبت.

لكن شرح الصدر يختلف عن سعته، فبينما لا دخل لسعة الصدر في الأهداف والنتائج والأغراض، ولا علاقة لها ببواطن الأمور، فإن شرح الصدر يستلزم معرفة بواطن الأمور وحقائقها، مبدئها ومنتهاها، ومشروح الصدر لابد أن يكون كائنا لطيفا ورقيقا ويبين ذلك من المقارنة في الآية يقول تعالى: ﴿ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ  (4)  فلا يكون شرح الصدر إلا مع النور ومعرفة البواطن والحقائق. ومن هنا تتبين قيمة الدعاء (اَللّـهُمَّ فَاِنّا نَسْأَلُكَ بِالْمَبْعَثِ الشَّريفِ، وَالسَّيِّدِ اللَّطيفِ ).

واسع الصدر قد ينصت إليك ولكن ليس دائما ليخدمك بل ليخدم رئاسته، ولكن مشروح الصدر فهو الذي يتحمل سلائق الناس وطبائعهم على اختلافها. مشروح الصدر هو الذي يعرف كل نوع في هذا الوجود ويعرف مصلحته ويوصل هذا الموجود الى ما يصلحه دون أن يتوخى فائدة ولا مصلحة لنفسه، وشرح الصدر هي مسألة نورانية تعطي الإنسان نورا – كما ورد في الآية – والنور في القران يعني كل الفضائل، ولذلك مشروح الصدر هو أرقّ الموجودات وألطفها ويقابله غير مشروح الصدر ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ (5).

ما معنى الصدر في الآية؟

الصدر في الآية ليس الصدر الصنوبري بل القلب، وليس أيّ موقع من القلب بل هو أعلى موقع في القلب، وهو مثل قولنا: صدر المجلس، وصدر القوم، وصدر المطلب. وصدرك في الآية: أي القمّة المرتفعة في وجودك، فأعلى محيط في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله مشروح أي أنه عميق ومفصل.

ثم إن الشرح هنا مطلق في ظاهر الآية، فهو لم يقيد هذا الشرح بشيء، فلم يقل ألم نشرح لك صدرك في تعاملك مع الناس، أو في شفاعتك، أو في معرفتك بالآخرة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلأن المنة لا تجتمع مع التقييد وهي العطيّة الابتدائية العظيمة.

والشرح وقوة الشرح وسعته وتأثيره وفاعليته له ارتباط بالشارح، فالعالِم يشرح يتحدث بمقدار علمه، لكن الشارح لصدر رسول الله هو الله سبحانه الذي هو دائم الفضل على البرية وباسط اليدين بالعطية وعالم بكل خفيّة فكيف يمكن أن نتصور مدى انشراح باطن رسول الله صلى الله عليه وآله ؟!!

شرح الصدر بين موسى ومحمد بن عبد الله:

لقد ورد تعبير شرح الصدر في طلب نبي الله موسى من ربه حين أراد الذهاب إلى فرعون ﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي (6) وقد اجاب الله له ذلك فقال ﴿ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى  (7)، ولكن هذا الشرح الذي طلبه نبي الله موسى يختلف عن شرح صدر رسول الله اختلافا كبيراً، فمن جهةٍ: شرح صدر موسى جاء سؤالا في ظرف معين لغرض معين، بينما شرح صدر رسول الله (ص) هو صفة ذاتية له صلوات الله عليه فقد وجد مشروح الصدر. ومن جهة أخرى فإن هذه الخاصية لرسول الله مطلقه لا تنحصر بوجوده في هذه الدنيا فهو في ذاك العالم أيضا مشروح الصدر.

آثار شرح الصدر:

قلنا أن هذه المنّة الإلهية خاصة برسول الله صلى الله عليه وآله ولكن آثارها تشمل كل الوجود، ومن آثارها: اللطافة أن يهتم النبي بكل فرد من هذه الأمة، و يتعامل مع كل فرد وكأنه لا يوجد على هذه الأرض مسلما غيره، وكأنه لم يبعث إلا له، وقد ظهر هذا في الروايات حين قيل أنه كان يوزع نظره في المجلس حتى يظن كل واحد من اصحابه أنه ليس هناك أقرب منه إليه صلوات الله عليه.

ومن آثار هذه المنّة أنها منّة إذا عرفها الانسان كانت مستحقة لأن يدعو ويتوسل بها، فهي تساوي هذا المبعث الشريف الذي هو سبب كل هذه الهداية لذا اقترنت به في الدعاء (اللّـهُمَّ فَاِنّا نَسْأَلُكَ بِالْمَبْعَثِ الشَّريفِ، وَالسَّيِّدِ اللَّطيفِ ) وكلما عرف الانسان لطف رسول الله صلى الله عليه و آله أكثر كانت له رفعة في الدرجة  وكانت له وحدها قربة من أعظم القربات.

مكة المكرمة/ ذكرى المبعث النبوي الشريف – 1436هـ


(1)  ينابيع المودة 1/21, 2/18 و 88

(2)  دعاء أبو حمزة الثمالي

(3)  الشعراء 34- 36

(4)  الزمر 22

(5)  طه 25- 28

(6)  الزمر 22

(7) طه 36

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 114٬722 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها