قلنا فيما سبق أن القرآن في حديثه عن الأشهر الحرم يدفع الذهن البشريّ إلى لانتقال من السير ضمن أيام وساعات الزمن الأرضي إلى السير الواقعي الروحي، وهذا الاقتران بينهما ليس جزافيًا ولا تداعيا افتراضيا، بل تؤكد الروايات أنه اقتران واقعي حقيقي تكويني.
معرفة حرمة الأشهر الحرم زيادة في الإيمان:
من المعلوم أن المشركين كانوا يتلاعبون بالأشهر، وقد قال عنهم القرآن ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: 37] النسيء هو التأخير، وقد كان المشركون يتصرفون في الأشهر الحرم تقديما وتأخيرا، مخالفين بذلك المأثور عن أنبياء الله وعن نبي الله إبراهيم خصوصا من حرمة هذه الأشهر بالذات، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم. وقد حرمت كل الديانات الحروب في هذه الأشهر الأربعة الحرم ولو كانت جهادا للكافرين، ولكن العرب في الجاهلية لأن حياتهم الاقتصادية كانت قائمة على الغارات والحروب فقد كانوا يتلاعبون بشهور السنة، فإذا أرادت قبيلة أن تغير على قبيلة أخرى في شهر محرم مثلا فإنها تؤخّر حرمة القتال إلى الشهر الذي يليه.
هذا التلاعب أدى إلى ضياع الأشهر وفقدان الحساب الصحيح للسنوات وللأشهر، لكن ببعثة الرسول (عليه الصلاة والسلام) أعاد ترتيب الأشهر إلى الوضع الأصلي، فسمى الشهر الذي بعث فيه كما سماه نبي الله إبراهيم، التسمية التي توافق الحركة الإيمانية. ولذلكيعدّ القرآن هذا التلاعب بحرمة الأشهر الحرم تقديما وتأخيرازيادة في الكفر أي يهوي بالمجتمع في دركات الكفر، وهذا يعني وجود ارتباط بين الإيمان وبين معرفة هذه الشهور، فكما أن التلاعب في هذه الأشهر يزيد الإنسان كفرا؛ فإن معرفة مواقيت هذه الأشهر وحرمتها زيادة في الإيمان.
إن هذا العبث المتراكم بمواضع الأشهر الحرم يؤدي إلى خلل في (روزنامة) الإيمان إن صح التعبير؛ إلى خلل في الحركة الإيمانية، بسبب الارتباط بين هذه الأوقات وبين واقع تدين الإنسان، الأشهر الحرم مواسم فيها فرص، وفيها أحداث ملكوتية تتناسب مع أوقاتها.
إن العاقل مثلما يحاسب نفسه في يومه وسنته على أرباحه المادية ووضعه الصحي ونموه النباتي؛ كذلك يسأل نفسه: ماذا فعلتُ؟ إلى أين سوف أنتهي؟ لأي شيء يؤول مصيري؟
وهذا الأسئلة تأتي من وحي الفطرة وتخطر على عموم العقلاء، ولا تختصّ بمؤمن أو كافر. لكن بالنسبة لنا نحن كمؤمنين تأتينا الأسئلة بمصطلحات دينية لأنها مسبوقة بمعرفة دينية، وإلا فحتى من لا يعتقد بالله ولا باليوم الآخر هو أيضا يفكر في مصيره وإلى أي شيء سوف يؤول، وما الذي سيفاجئه غدا، ما نهاية هذه الحياة… هذه الأسئلة -وهي من أعمق الأسئلة الفلسفية- عالجها القرآن وقدّم الأجوبة التي تغذّي البعد الغيبي في الإنسان، بما فاق الشرائع السماوية السابقة.
تقييم مراتب الإيمان بمعرفة الصفات:
كثير من الناس يسيطر عليه غموض المصير ويتساءل: أأنا مؤمن أم لست بمؤمن؟ وكأنه يتمنى أن يأتيه نبيّ أو وليّ ويقيّم إيمانه. هذه المسألة التي نتصور أنها من غوامض الأمور هي في الواقع من أكثر الأمور جلاءً في ثقافة القرآن.
للإنسان سير ذو ثلاث مراتب ، و له تبعا لذلك ثلاث مراتب :
المرتبة الأولى: المؤمنون.
المرتبة الثانية: عباد الرحمن.
المرتبة الثالثة: الشيعة.
ويلحظ ورود صفات الشيعة في نهاية المراحل، ومعلوم مقدار تدقيق أهل البيت وتشدّدهم حيال دعوى انتساب أتباعهم للتشيع، (ليس من شيعتنا من أخر صلاته حتى تشتبك النجوم)، (ليس من شيعتنا من لم يتفقه في دينه)، (ليس من شيعتنا من … فكيف نخرج من السنة (الإيمانية) بصفات تؤهلنا للدخول في (عباد الرحمن)؟ وبعد ذلك كيف نصل إلى أشرف وأرفع وسام وهو أن نكون من (شيعة) أمير المؤمنين (ع)؟
المرتبة الأولى: الإيمان
إن أقصر وأجزل آية تحدد صفات الإنسان في هذه المرحلة هي في سورة المؤمنون. وكما ذكرنا في الدرس الماضي أن الأمير (ع) كان أوّل نطقه بهذه الآية ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فكأنه (ع) يبشر بهذا الفلاح، وأنه بولادته قد افتتح موسم الإيمان، وتفتحت كل الإمكانيات للإنسان ليقطع هذه (السنة الإيمانية).
معنى الإيمان و أركانه:
دائماً الانسان يمر على بعض الأمور وعلى بعض المفاهيم وبعض المصطلحات مرورا عابرا لأنه سمعها في حياته كثيراً فيتصور أنه يعرفها ومشبع بها، وهذا جهل مركب (جهل الإنسان بحقيقة جهله). إن حقيقة الإيمان من الأبحاث التي تستحق من الإنسان أن يطالعها من جديد، لأننا إذا عرفنا حقيقة الإيمان من القرآن سوف لا نتشعب في الروايات والأبحاث الفقهية.
والإيمان مركب من عقدين: عقد معرفي (وهو العلم) وعقد عملي (وهو الإرادة)وسنوضح ذلك أكثر :
العقد الأول (العلم): إن علمك بأن الله سبحانه وتعالى موجود وإقامة البراهين على وجوده، ومعرفة أن النبي محمّد (ص) مرسل من قبل الله، ومعرفة خليفة الرسول، وأنك سوف تبعث، .. هذا العلم ضروري للوصول إلى الجزم العلمي الذي هو جزء من الإيمان، فافتقادك للجزم العلمي في مسألة عقائدية دليل على ضعف إيمانك، ولا بد من تعبئة البعد النظري لدى الإنسان حتى يصل إلى حالة القطع العلمي، فالعلم مقدار من الإيمان وبعد من أبعاده، لكن ليس كل الإيمان.
العقد الثاني (الذي يتركب منه الإيمان) هو: الإرادة. يجب أن يكون لدى الانسان قوة إرادة لتحقيق الأمور التي صدّق وأيقن بها.
والناس في هذا ينقسمون إلى ثلاثة:
-
إنسان متمكّن نظريّا، يفهم ويتعلم بشكل جيد، وبإمكانه أن يقيم الأدلة والحجج والبراهين، لكنه عند الاختبار والتطبيق العملي غير قادر على الالتزام بما ينظّر له. وهذا إنسان ينقصه أحد عنصري الإيمان، فعنده وضوح في العلم ولكن لديه اختلال في الإرادة، وينتج عن ذلك إنسان غير معتدل. وفي الرواية (كم من عالم قتله جهله، وعلمه معه لا ينفعه) لأن العلم عنده توّقف في مرحلة التصور والفهم، ولم ينتقل إلى مرحلة الإرادة.
-
إنسان قويّ الإرادة ولكنّه ضعيف معرفيّا . فيقبل المسائل ويتفاعل معها ويتعصب لها بلا حجة ولا برهان. ولذلك فإن منهج الإسلام في التربية ليس وعظيّا صرفا، لأن الوعظ يستخدم عواطف الناس لتحريكهم، بينما يريد الإسلام أن يشتغل على طرفي العلم والإرادة، للوصول بالإنسان إلى مرحلة الإرادة الواعية. وكما أن هناك من يقتله جهله، وعلمه معه لا ينفعه، هناك أيضا من يقتله عمله! والأخيرة كانت مشكلة الخوارج، فالخوارج لم تكن لديهم مشكلة في الإرادة، كان عزمهم قويا في المجال العمليّ، ولكن مشكلتهم كانت علميّة.
وفي واقعنا نجد شريحة واسعة من البشر على هذه الشاكلة: أقوياء الإرادة ضعاف المعرفة، مبادرين للطاعات ومجتهدين في العبادة، لكن إيمانهم غير حقيقيّ. وهؤلاء يمثلون خطرا على المجتمع، لأنهم مندفعون بدافع عقائدي باطل، عندهم قوة تحريكية لكن بلا عقل ولا علم ولا فهم، بالنتيجة سيشكّلون إرهابا للمجتمع.
-
إنسان قويّ العلم و الإرادة معا . وقد أرسل الله أنبياءه لتقوية حس العقل وحس الإرادة. يريد الله أن يكون الناس أحرارا، ولا يقبل بالسيطرة على إرادتهم عبر أسلوب التحريك. فالإنسان الذي يعلم ولا يعمل، أو يعمل خلاف ما يعلم هو إنسان لم يشرق الإيمان في قلبه بعد.
ثمرة الإيمان:
جعل الله شهر رجب – وعموم الأشهر الأربعة الحرم- فترة سلام وتأمّل، حتى يراجع الإنسان حبه وبغضه، سخطه رضاه، لأن حالة الحرب والجهاد إذا اتّصلت على طول السنة ستتضخم القوى الغضبية عند الإنسان ويتحول إلى آلة دمار.
إذا تحول الإنسان إلى متحرك أكثر منه مدركا فإنه يخسر الصفقة الأولى وهي الإيمان. العلم والإرادة هما شريانان في قلب الإيمان، منفصلان لكن يؤديان وظيفة واحدة، ويجب أن يتحرّكا بنفس الحرارة وبنفس الدفق حتى يبقى هذا القلب سليما، وهذان الشريانان إذا تحرّكا معا بشكل معتدل ينتج عنهما سبع صفات:
الصفة الأولى: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشعُونَ﴾
قد تصطبغ الأعمال باندفاع معيّن، لكن كيف نحوّل هذا الاندفاع اللحظي إلى صفة مستقرّة ؟
الصفات تثبت بالممارسة، فأنت لا تصل إلى تخفيض وزنك عن طريق النظر إلى وصفات إنقاص الوزن! وأنت لن تحصل على أثر العبادة بمطالعة البرامج العبادية من أوراد وأذكار دون تطبيقها.
الصلاة معراج المؤمن، تفصل الإنسان عما حوله، فإذا انقطع الإنسان لله يبدأ بالإحساس بوجعه وألمه الروحيّ، يستكشف مواطن نقصه وعيبه، لذا فالمعتاد على أداء صلاة الليل بعد انقضاء صلاته يجد تفكيره منصبّا على نواقصه.
في أثناء الصلاة يتغلب الإنسان على العدو الأول للإيمان وهو الغفلة، والغفلة هي انصراف الإنسان عن الإحساس بالحالات الإيمانية. اللون الإيماني في غير حالات الصلاة يكون مضطربا، لكن الصلاة تثبّت لون الإيمان، وتثبت الحالة الإيمانية في الإنسان، تدفع الصلاة الإنسان للعودة إلى نفسه ليحاكمها ويحاسبها، تنزعه من حالة ظلم الآخرين، وتنقله إلى حالة العدل والاعتدال.
فعلى الإنسان أن يجدّ في طلب حالة الخشوع والخضوع والإخبات بين يدي الله سبحانه وتعالى، وهذا الطلب في نفسه إشارة كاشفة عن وجود إيمان عند الإنسان . في كل لحظة يقول الإنسان يا رب، يجيبه الله لبيك عبدي، هذا من جهة الله، أمّا من جهة الإنسان فكل إنسان يريد أن يعرب عن عبوديته بين يدي الله سبحانه وتعالى. ربوبية الله مطلقة، والإنسان عبوديته مطلقة، إذن ما الذي يجعل الإنسان لا يخشع؟
الجواب: هذه حالة ناتجة عن ضعف الإرادة، الإنسان نفسه لا يريد أن يخشع، وإلا فكل أسباب الخشوع من حيث الوجود موجودة، لكن هو ليس عنده النيّة لبلوغ هذا الهدف.
والحمدلله رب العالمين
0 تعليق